(في أحضان أمي): العراق الدولة والأم
رامي عبد الرازق
ضمن عروض برنامج “قصص تروي” أحد فعاليات الدورة الرابعة عشرة من مهرجان سالونيكي الدولي للأفلام التسجيلية(9- 18مارس2012)عرض الفيلم الوثائقي”في احضان أمي” للمخرجين العراقيين عطية ومحمد الدراجي, وهو إنتاج عراقي انجليزي هولندي سبق له الحصول على منحة سند من مهرجان ابو ظبي الدولي قبل عام كامل.
الفيلم هو التجربة الثانية في مجال الأفلام التسجيلية لمخرجه الشاب محمد دراجي الذي قدم من قبل فيلمه الوثائقي”العراق حب وحب رب وجنون” عام 2008, كما قدم تجربتين روائيتين هما “احلام”2005 و”ابن بابل” 2010, اما اخيه الاكبر عطيه الدراجي فهي تجربته الفيلمية الاولى سواء على المستوى الروائي أو التسجيلي.
الواقعية الخشنة
قد يبدو الفيلم من المشاهد الاولى محاولة لرصد واقع اطفال الشوارع في العراق خاصة أنه يبدأ بهشام وهو صاحب احد دور الأيتام المستقلة وهو يتحدث مع طفلين محاولا اقناعهم بالقدوم معه إلى دار الأيتام الخاصة به كي يضمن لهم مآوى وطعام بعيدا عن الشوارع.
ولكن بمجرد الوصول إلى دار الايتام تتغير النظرة الفيلمية تماما حيث يبدأ صناع الفيلم في تناول زاوية مختلفة عن زاوية اطفال الشوارع وهي واقع الأيتام الذين يعيشون في هذه الدور والمعروفين بأسم”ايتام الحرب”أي الاطفال الذين فقدوا ذويهم بسبب الحرب الأمريكية على العراق او بسبب التفجيرات الارهابية التي تشهدها المدن العراقية منذ سقوط نظام صدام وسيطرة الاحتلال.
نحن اذن لسنا امام قضية اطفال الشوارع التقليدية التي تنتجها المشاكل الاجتماعية كالهرب من الأسرة أو الانحراف ولكننا امام واقع شديد الخصوصية لكنه يتخذ ابعاد انسانية واضحة واكثر اتساعا من مجرد كونه يتحدث عن مجموعة من الأيتام.
خشونة الواقعية التي يتخذها الفيلم تأتي من خلال استخدام الأسلوب الدرامي في التعامل مع يوميات دار الأيتام فالمخرجين يقومان بصياغة فيلمهم بدون اللجوء لعناصر السينما التسجيلية المعتادة مثل استخدام التعليق الصوتي أو اللقاءات سابقة التجهيز التي تشبه المقابلات الصحفية والتي تجلس فيها الشخصيات امام الكاميرا لتتحدث بينما يتم التعريف بأسمائها ومناصبها كتابة على الشاشة.
اننا أمام حالة درامية مقتطعة من الواقع وغير منفصلة عنه, فالفيلم يبدأ بتعريف الشخصيات الأساسية التي سوف نتابعها خلال”الاحداث” بداية من هشام صاحب دار الأيتام الذي نتعرف على البعد النفسي له من خلال حديثه عن الأطفال الأيتام وضرورة رعايتهم ثم البعد الاجتماعي والشخصي له والمتمثل في اسرته الصغيرة التي تعاني من اهماله لها بسبب انشغاله بقضية دار الايتام والاطفال الذين يرعاهم, وفي اكثر من مشهد نراه داخل بيته مع اطفاله وزوجته تقوم بتوبيخه وتوجيه اللوم له على اهماله لاسرته.
ثم ننتقل للتعرف على الشخصيات الأساسية في الدار وهم مجموعة الأطفال الايتام وعلى رأسهم “سيف”ذو السبع سنوات الذي يستعرض المخرج سريعاتاريخ حياته الدموي من خلال لقطات للانفجار الذي اودى بحياة والديه, ثم لقطات له وهو رضيع في المستشفى يتم اسعافه إلى ان كبر واصبح عمره سبع سنوات, ولكنه يعاني من مشاكل سلوكيه كثيرة بسبب وضعه وخلفيته النفسيه, مما يجعله عنيفا في بعض الأحيان وصامتا معظم الوقت ولكنه يغني دائما تلك الاغنية الحزينة التي تعبر عن افكاره المؤلمة “صغير انا على الأحزان..صغير انا على الآلام”.

وهناك ايضا محمد ذو العشر سنوات الذي كان بطلا في السباحة واضطر إلى ان يسكن دار الأيتام لأنه فقد ذويه كلهم, ولكنه لا يفتأ يتذكر بطولاته في العوم والغوص من خلال شريط فيديو يحتفظ به.
لا يلجأ المخرجين إلى فكرة استجواب الاطفال للحديث عن مشاعرهم وافكارهم وشجونهم ولكنهم يتابعون حياتهم اليومية في الدار والتي تستعرض الكثير من سلوكهم ومشاكلهم, وعند الحاجة إلى اللجوء إلى رأي خبير فإن هشام يذهب إلى طبيب نفسي يسأله عن سلوك اطفاله اليتامى فيجيبه الطبيب بأن مشكلة الدار ليست في الايواء فقط ولكن يجب أن يتوفر كادر طبي ونسائي كي يمكنه من مساعدة الأطفال في تجاوز ازماتهم السلوكية.
الأزمة الدرامية
بعد التعرف على الشخصيات الأساسية والبيئة التي يتحركون فيها تتصاعد بنا الاحداث إلى العقدة أو الازمة الدرامية وهي أن صاحب المنزل الذي تم تحويله إلى دار ايتام يريد استعادته من هشام وطرد الاطفال فيجد هشام نفسه في مأزق حقيقي لأن هذا معناه أما ان يلقى بالأطفال في الشارع أو يتنازل عنهم لدور الدولة التي تعاني من تكدس واهمال رهيبين.
هذه الازمة تلقي بظلالها على الجميع في الدار وتزيد من المشاحنات بين الأطفال الذين يشعرون بالخوف من العودة للشوارع مرة أخرى.
يستخدم المخرجين اسلوب الكاميرا الحرة المصاحبة لحركة الشخصيات وحديثها وانفعالاتها ودون أن يوجه أحدهم الحديث لها او كأنها ليست موجودة بينهم, أنه اسلوب شخصنة الكاميرا الذي يجعل منها عينا على الاحداث كأنما تزرع المتلقي بين الشخصيات وتتركه يتحرك ويستمع ويتفاعل مع ما يحدث دون أن يشكل وجوده ثقلا على الشخصيات وهو اسلوب يحتاج إلى وقت طويل من أجل اقناع الشخصيات التي يتم تصويرها التعامل مع الكاميرا دون الشعور بها او الأحساس بوجودها.
تتصاعد هذه الازمة لتصل إلى الذروة عندما يقترب موعد اخلاء الدار ويبدأ هشام في تنظيم مجموعة حفلات بسيطة يغني فيها الأطفال من اجل جمع المال الازم لمساعدتهم في البقاء, هنا تتبلور اغنية “في احضان أمي” وتمثل ذروة الفكرة الأساسية للفيلم.
الدولة / الام
تحت طبقات من المشاكل الأقتصادية والنفسية للاطفال اليتامي ومن خلال الأغنية التي تتكرر على لسان العديد منهم في الحفلات أو حتى في اللحظات الخاصة تظهر الفكرة الأساسية للتجربة الفيلمية وهي افتقاد مفهوم الدولة/الأم, لقد نجح الاخوين دراجي في الخروج بفكرة الأطفال اليتامي من افق المشاكلات النفسية والمالية الضيق إلى افق سياسي اكثر رحابة فهؤلاء الأيتام ليسوا سوى معادل لشعب العراق نفسه الذي يعاني كله في الفترة الحالية من حالة يتم واضحة وأكيدة بعد أن غابت الدولة /الام التي من المفترض أن ترعاهم وتحوطهم في احضانها, أن الطفولة التي تمثل المستقبل هي طفولة يتيمة, اي ان المستقبل يتيم, والمستقبل اليتيم يمكن ان يكون عرضه للضياع في اي لحظة.
أن الأم التي يبحث عنها الأطفال ليست هي الأم البيولوجية فقط التي فقدوها في الحرب أو الأنفجارات ولكنها الام/الدولة التي نجدها عاجزة محطمة غير قادرة على ذلك, فالحديث في الفيلم عن سوء دور الرعاية الخاصة بالدولة وعدم قدرة هشام على الحصول على اي مساعدات حقيقة سوى من خلال استجداء بعض التجار في شكل صدقات خيرية هو جزء من رسم صورة الدولة العاجزة, كذلك ودون مباشرة أو تدخل درامي نكتشف أن واقع الدولة كله في الحضيض مثل مشاهد انقطاع التيار الكهربي المستمر في اماكن عديدة وبشكل مفاجئ اثناء التصوير, ومثل تواتر اخبار الأنفجارات المستمرة في التليفزيون, بل أن الدار نفسها تقع ضمن دائرة انفجار قريب يكاد يودي بحياة الأطفال.
وقد لجأ الدراجي إلى استخدام نفس التيمة الشهيرة التي استخدمها من قبل في فيلمه “ابن بابل” وهي صوت الطائرة الهليكوبتر الحربية التي تحلق طوال الوقت فوق المدينة والتي ترمز إلى الاحتلال العسكري الذي دمر واقع البلاد.
ولم يلجأ المخرجين إلى استخدام أية موسيقى تصويرية يمكن أن تنحو بالاحداث إلى درك سفلي من الميلودراما, بل تركوا شريط الصوت حرا من أجل التقاط اصوات الاطفال وغنائهم وحواراتهم العبثية والعفوية, وأن كان يعيب الفيلم ذلك التدخل الدرامي القسري من خلال استخدام بعض المونولوجات الداخلية للتعبير عن افكار الشخصيات مثل محمد الفتى السباح الذي نسمعه في مونولوج مباشر يشكو من شعوره بالوحدة وافتقاد الاهل, بينما كانت تعبيراته الملامحية اقوى بكثير عندما كان يتابع نفسه على شاشة الفيديو وهو يحصد بطولة السباحة.
تعدد الذرى
من علامات الدراما القوية هو أن تتعد الذرى خلال الحبكة الواحدة وقد اجاد المخرجين في التقاط مسألة تعدد الذرى الدرامية في الحياة الواقعية لهؤلاء الأطفال فهشام يتلقى مكاملة من صديق يبلغه أنهم سوف يحصلون على تمويل من الامم المتحدة لشراء دار خاصة جديدة للاطفال ونرى لحظات الفرح والرقص بين هشام والأطفال احتفالا بالخبر ونتصور أنه الحل الدرامي المنتظر!
ولكن يعود الواقع الخشن ليفرز خيبته مرة أخرى, فالتمويل يتعرض للتأخير ثم يتم الغائه ويعود الأنطفاء لعيون الأطفال ووجوههم بعد أن كان الأمل قد لاح في افق حياتهم البائسة.

وكعادة الأفلام الجيدة فأن مهمة التجربة الفنية ليست تقديم الأجوبة ولكن طرح السؤال وتركه يغلي في ذهن المشاهد!!
حيث ينتهى الفيلم قبل أن يجد هشام واطفاله اليتامى دارا جديدة وقبل أن يشعر الاطفال ان ثمة احضان أمومية يمكن أن تحتويهم فالدولة/الأم لا تزال في طور التشكل كما أن الأنفجارات المتتالية التي نسمعها طوال الفيلم تعني أن كل يوم ثمة طفل يتعرض للانتزاع من احضان أمه ويلقى في الشارع وحيدا كرمز للمستقبل الغامض لبلد تعرض لنكبة ساحقة.
يستعرض المخرجين في النهاية بعض المعلومات التي من شأنها ان تقلق راحة المتفرج وتتركه مبلبل الذهن عبر كتابتها على شاشة سوداء في نهاية الفيلم, فعدد الاطفال الذين فقدوا ذويهم في العراق جراء الأنفجارات يصل إلى800 الف طفل وهو رقم يعني أن ثمة جيل بأكلمه سوف يكبر دون رعاية حقيقية مما يعني أن مستقبل الدولة كلها على المحك, وهذا الجيل تتلقفه التنظيمات الأرهابية من ناحية والانحرافات السلوكية من ناحية أخرى وفي مشهد هام بالفيلم ترد معلومة أن احد الانفجارات الأنتحارية الاخيرة نفذه طفل عمره 11 عاما فقط.
ان الأخوين دراجي استطاعا من خلال هذه التجربة أن يضعا كل الأطراف في مواجهة حادة مع واقعهم فها هو الطفل /المستقبل وها هي الأم/الدولة ولكن كيف يمكن أن نضع هذا الطفل في احضان امه كي يكبر ويحقق ذاته واحلامه التي يغني عنها(اسكن في دار الأيتام ومعاي احلام كبار) انه سؤال السينما الذي تطلقه الأفلام كي يجيب عنه الواقع !.