وثائقيات تسالونيكي (1)

الهجرة والأزمة المالية في الواجهة وديكتاتوريات.. تتغيَّر

قيس قاسم ـ السويد

دورياً، صاحبت صعود الرأسمالية كمرحلة تاريخية من تطور المجتمعات الصناعية، على وجه التحديد، أزمات مالية سميت ب”الدورية” لإنتظام حدوثها في فترات زمنية متقاربة نسبياً، تُسبب كنتيجة موضوعية لها، بموجات هجرة بشرية، حجمها على الدوام يتناسب طردياً مع شدتها. ومع التَغَيُر الحاصل اليوم في شكل العلاقات الإقتصادية وإكتسابها طابعاً كونياً (غلوبال)، طُبعت الهجرة بذات الطابع، فلم تعد محصورة فقط في المنطقة المتأثرة بها، بل إمتدت الى العالم كله كما رأينا في الأزمة المالية المعاصرة، والتي عُنيت بها السينما الوثائقية موضوعياً بوصفها فناً لصيقاً بالحياة وقضاياها. وفي الدورة الرابعة عشر لمهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية تجلت الظاهرتين بوضوح لكثرة الأفلام المتناولة لها كَون الهجرة في عمومها ذات صلة وثيقة، لا بالفقر والحاجة الإقتصادية، فحسب، بل وأيضاً بالأزمات السياسية والحروب والمجاعات، في حين غَلب الطابع المحلي للمشكلات الإقتصادية على كثير من أفلام الدورة خاصة واليونان البلد المُنَظم للمهرجان كان ومن بين أكثر دول العالم تأثرا بها. ولكثرتها أعطت الأفلام التي رصد حالات القمع السلطوي والعسف السياسي تصوراً جلياً عن طغيان الظلم في عالمنا وتشابه سلوك الدكتاتوريات في كل مكان.  
 
“الغاضبون” يتحدون
قوة إلتِحام الظاهرتين في الواقع نجدها في فيلم الفرنسي توني غاتليف “الغاضبون” الذي جمع فيه الروائي والوثائقي في تناغم داخلي رائع. قوة مقاربة الواقع، من توثيق للمظاهرات والإحتجاجات في سوح مدن أوربية كثيرة، هي من أكسبته هويته الوثائقية وبسببها أيضاً قد تثار أسئلة حول الحدود الفاصلة بين الجنسين فيما يُبَيّن الشريط بكامله مقدار سعة التخوم التي يقف عندها ال”دوكودراما” وكيف يَقدر مخرج مُهم مثل صاحب التحفة السينمائية “جاديو ديلو” أن يُداخلها دون إشعار متفرجه بنوع الفيلم الذي يشاهده.

 اقتبس غاتليف أفكار فيلمه من كتاب ستيفان هسيل “إغضبوا” وكان يقدم بعض أفكاره  الثورية عبر جمل يضيفها على الشاشة لتُشبع معاني بعض مشاهد فيلمه، التي توزعت أماكن تفاعل وجود بطلته الأفريقية “بيتي” في عدة دول أوربية كفرنسا، إسبانيا واليونان، بعد أن وجدت نفسها ودون مقدمات في مواجهة مع شرطتها ودوائر هجرتها. مشهده الأول يظهر الشابة وقد لفظها البحر للتو، مثل حورية بائسة ولدت في أحشاءه وما عاد بحاجة اليها، وعند وصولها  اليابسة لم يكن أمامها سوى  الإستسلام لقدرها، فكانت تقطع الحدود مشياً دون كَلل، وكُل أملها في الوصول الى مكان يأويها!. فكرة “الغاضبون” تتجاوز المكان الواحد، فالأزمة تخلق بنفسها معارضين عالميين لها، يدخلون في حركات إحتجاجية دون وعي مسبق منهم، ف”بيتي” لم يكن في بالها يوماً انها ستشارك المتظاهرين الغربيين ردود فعلهم الغاضبة على سياسات بلدانهم، إلا حين زجها المخرج غاتليف وسطهم وتركها تتحرك بعفوية، غير عابئة بوجود كاميرا قريبة منها تسجل كل إنفعالاتها وحيرتها، وهي معهم وسط ساحات وشوارع مدنها الرافضة. لم يخطر ببالها قط إنها ستشهد بؤس المهاجرين في محطات قطارات أثينا ولا إنها ستلاحق يوماً مثل طريدة، أينما حلت في أرض أوربية بلا مالٍ ودون وثائق تثبت هويتها. لقد كانت مجرد شابة فقيرة، حَذاها الأمل في الخلاص لكنها وجدت نفسها تشارك سكان جنانها المأمولة نفس المصير. قصيدة غاتليف السينمائية “الغاضبون” تُلخص أزمة كونية، يرزخ تحت ثقلها سوداً وبيضاً، مهاجرون و”أصليون” فالمال لا وطن له والغاضبون مثله.

فخ دبلن..
عنوان جميل لفيلم وثائقي  بلجيكي، تلاعب فيه بريان كارتر على التسمية الرسمية ل “معاهدة دبلن” الدولية وعالج من خلالها حالة المهاجرين والدول الساقطة في فخ نصها الملتبس. فالمعاهدة الموقعة من قبل أكثر دول الوحدة الأوربية وأخرى خارج القارة، تنص على إرجاع المهاجر في حالة إنتقاله من أحدى بلدانها خلال فترة طلبه حق اللجوء، الى البلد الأول الذي وصل اليه. لقد صارت هذة المعاهدة فخاً لليونان كونها من أكثر وجهات الهجرة غير الشرعية في العالم، لموقعها الجغرافي القريب من تركيا التي يعبر حدودها ألاف من البشر صوب المياه الإقليمية اليونانية وحدودها البرية أملاً في الإقامة فيها، ومع الوقت صارت أزمتها الإقتصادية الخانقة فخاً للواصلين اليها وعرضة لمعاملة لاانسانية غاية في السوء تدفع كُثُر منهم للهرب الى مكان أخر. المفارقة الناتجة عن رحلة المهاجرين بين دول الوحدة الأوربية يعالجها “فخ دبلن” بعمق وبمعايشة دقيقة لضحايا نص “القانون” الأعمى.
“فخ دبلن” تسجيل لحياة أكثر من ربع مليون طالب لجوء يعيشون في أطراف مدينة أثينا، جاء أكثريتهم من العراق وأفغانستان ومدن أفريقية فقيرة، أو مَدميَّة بحروب أهلية، ومنهم من جرب الخروج منها لكنهم أعيدوا اليها ثانية. رحلاتهم، بل مغامراتهم الخطيرة، للهروب الى ضفاف أخرى صورها كارتر وحمل بعضها كوثائق تفضح زيف إدعاء حكومات أوربية بإحترامها لحقوق الإنسان ومنها بلاده بلجيكا التي ظل طويلاً يجادل ساستها حول مسؤليتهم كبشر قبل مسؤولية نصوصهم القانونية التي يتعكزون عليها والتي في جوهرها لا تؤدي إلا  لمزيد من آلام البشر. وفي اليونان رصد صعود النازيين الجدد ومعادي الأغراب وما يصاحبها من إرتفاع لمنسوب العنف كإسلوب يتخذونه  لحل مشكلة هي أكبر منهم ومن المعاهدات الدولية، التي صار بعضها بحق فخاً قاتلاً لا بد من كسره.


“أولغارشية”

عالمية المشكلة المالية وما يصاحبها من أزمات من بينها الهجرة الجماعية، تفحصها نص سينمائي تحليلي، حمل عنواناً دالاً: “أولغارشية” أو الطغمة المالية فهي المسؤولة الحقيقية عما يحدث اليوم وليس الفقر والحروب وحدهما، ولعمقها لا تعالج قطعاً بنصوص قانونية مثل “دبلن” وغيرها. إنها آلية عمل بنكية رأسمالية، تطحن كل من يدخل بناياتها الأنيقة وهي “الفخ” الحقيقي لمؤسسات ودول من بينها اليونان. هكذا يتوصل المخرج اليوناني ستليوس كولوغلو الى إستناج مُعبر عنه بفيلم كثير الإقناع مدهش التنفيذ لا يقل عمقاً عن فيلم “عمل داخلي” لتشارليس فيرغسون، فالإثنان حللا أسباب أزمة “وول ستريت”، مع أن “أولغارشية” مال أكثر لتحليل أزمة بلاده المتفاقمة جداً. وعلى مستوى قريب، وأن كانت معالجتها منظورة بعدسة تسجيل تلفزيوني، جاء فيلم “155 بيعَت” ليورغوس بناديليكس  و”أزمات” نيكولاس كاتساونيس. وكلاهما سجل بكاميرته تفاصيل ردود الأفعال الشعبية المحتجة ضد إستهتار دولتهم ورجال أعمالها بمصير مجتمع مهدد كله بالإنفجار.   


إعلان