وثائقيات تسالونيكي (2)
الهجرة والأزمة المالية في الواجهة وديكتاتوريات.. تتغيَّر
قيس قاسم ـ السويد
يكثف، الفيلم الوثائقي اليوناني “ما بَيْن” علاقات المهاجر الملتبسة والحزينة بين موطنه الأصلي الذي تركه مجبراً والبلد الثاني الذي عاش فيه، الى أقصى درجات التكثيف والتقشف، ويقدم نموذجاً لنوعه الدرامي قادر على منافسه الروائي القصير من حيث قوة التعبير المركزة والمختصرة زمنياً. غَرَفت المخرجة جورجيا سلامباسي مادة فيلمها من تاريخ بلادها المعاصر، فأولت إهتماماً بمصير المعارضين للحركات القومية المتشددة، الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهجرتهم الإجبارية الى أوزبكستان السوفيتية. تناولت سلامباسي موضوعها من زاوية إنسانية وإجتماعية وعالجت فيه مصير الأجيال “المتوالدة” من أبناء المهاجرين السياسيين الأوائل الذين أقاموا في بلادٍ غير بلادهم غير أن أبناءهم كانوا يشعرون بها كما لو كانت وطنهم الحقيقي. عن هوية الأجيال الجديدة تدور الدقائق العشرين لفيلم “ما بَيْن” وتسجل فيه، بمعونة أرشيف شخصي غني وحيوي، بديات تَكيُّفهم مع المجتمع السوفيتي في مدينة طاشقند وكيف تعلموا فيها حب تلك البلاد مع إحتفاظهم بموروثهم اليوناني. فهؤلاء كانوا طاشقندين ويونانيين في آن وفي هذة الإزدواجية كمنت معظلتهم الإنسانية التي تجلت حين تَغيَّرت الأوضاع السياسية واستقر النظام الديمقراطي في اليونان فحاولوا العودة اليها، وحينما وصولوا الى أرض أجدادهم وجدوا أنفسهم فيها طاشقنديين، ليس لأن الناس كانت تعاملهم على هذا الأساس، فحسب، بل لأنهم نقلوا معهم مورثاً ثقافياً أوزبكستانياً لم يجدوا حرجاً في التواصل معه ولا غرابةً. و.. حينما أدركوا صعوبة الملائمة مع الواقع الجديد، مع كل الجهد الذي بذلوه من أجل التواصل، قرروا العودة ثانية الى موطنهم الثاني. لطول المدة التي قضوها في اليونان عاملهم الطاشقنديون وكأنهم ضيوف عابرون جاءوا لزيارة أقاربهم. لقد شعر الرجال الموزعون بين مكانين بإغتراب حزين ومؤلم بعد أن صاروا غرباء هنا وهناك. لقد توقف مصيرهم الشخصي وسط الطريق، بعد أن توزعت هوياتهم “ما بَين” بلَدَّين وثقافتين.

بَيْنَ ضفتي مصر واليونان
مثلهم، كان مصير العجوز اليونانية الأصل كاتينولا موزعاً بين ضفتي مصر واليونان، مع إختلاف جوهري إنها حسمت أمرها وقررت البقاء في القاهرة حتى الرمق الأخير. ربما لكون الأمكنة قد فقدت حرارة معناها بسبب تقدم عمرها الذي تجاوز الثمانين وربما لأنها أرادت البقاء في مكان أحبتهُ وقبِلت به واقعاً؟ حيرة غير محسومة، تفاصيل عيشها اليومي المليء بالإغتراب أوحت بها الينا، خارج ما بدا ثباتاً أو خياراً مدروساً لنهاية حياة إنسان عادي كل ما نعرفه عنه إنه غريب وينتمي الى مكان ثانٍ أهله طيبون ويعاملونه كأنه واحد منهم. فكرة إقتراب موت الغريب خارج أرضه تشتغل عليها المخرجة ميرنا تيستا في فيلمها “كاتينولا” بطريقة غير مباشرة، فبدلا من أن تأتي منها تحاول ايجادها في الوسط الخارجي الذي يحيط بها. فالجيران وبائعو الخضروات في السوق القريب يعبرون عن أحساسيهم بقرب خاتمة حياة الكائن الذي أمامهم، بلغة سحرية غير ملموسة، تحس بها العجوز ما يدفعها للتذمر والشكوى من المصريين بكلمات خاوية المعنى تنشد إهتماماً ناضباً وحسرة على حميمية مفقودة، فالمحيط الحيوي الخارجي هو كل ما تبقى لها بعد أن تفرق من حولها ناسها وما عاد للأشياء كبير معنى عندها، حتى المال الذي تكتنزه كانت تعاملة كأوراق منسية مثل الصور والذكريات. تنازع الهوية عند كاتينولا جواني غير معلن يكحبه خارج مسالم ويفضحه حنين مكبوت. يمتاز شغل ميرنا بحساسية عالية كونه يلامس حالة إنسانية محددة لا تحتمل كثير تأويل ولكنها قابلة للتفكير في معنى المكان في حياتنا ومعنى العيش في وسط مختلف وكيف يصعب على أكثر الشعوب إنفتاحاً فهم ما يغالبه الغريب من آسى وإختلال في التوازن الداخلي الذي قد تفضحه لفظة أو كلمة بسيطة ملحونة النطق. كانت عَربيةُ العجوز من أكثر نقاط قوة تكاملها الإجتماعي وأكثرها فضحاً لغربتها في آن، والفيلم في جزء كبير منه مبني على أساسها، كونها الذخيرة الأخيرة والوسيلة المتبقية للعجوز اليونانية في تواصلها المصري اليوناني.
ما بَيْنَ مصر وغزة
في فيلم الهولندية الشابة سابينا لوبي باكر “بين غزة مصر” هَمُ الهوية، وأن حمل ظاهره هماً سياسياً، كون موضوعه يتعلق بالأنفاق المحفورة بين غزة ومصر. في وثائقيها تفاصيل كثيرة مكررة في أفلام أخرى، عالجت نفس الموضوع، بخاصة تلك المتعلقة بالمواد المنقولة بين الجانبين والأرباح السريعة والكبيرة لأصحاب الأنفاق التي زاد عددها على 1400 نفق، خلال فترة حصار غزة، وطريقة حفرهم لها وآلية نقل البضائع داخلها كل هذا كان في فيلمها وفي داخلة كان هاجس البحث عن الذات، عن الهوية. فالفلسطينيون وفي غمرة إنشغالاتهم كانوا يشعرون بمؤازرة جيرانهم المصريين، لكن ثمة تهديد لهويتهم يحسونه في حصارهم ذاته، لهذا تراهم يبنون بيوتهم في مناطق غزة وأن لم يسكنوها بعد، فبالنسبة اليهم ثمة خطر يهدد هويتهم ولا بد إبعاده بالبقاء في الأرض المحاصرة. قد تزيد الرمال الصحراوية من الشعور بالخوف على الذات من الإمحاء، فهي متحركة لا تعرف لها قرار، ومن يسكنها يتلائم مع حركتها، ولكن كيف لإبن غزة أو رفح أن يذهب مع هوى رياحها بعيداً وثمة من يريد له أن يفعل هذا، أن يهاجر الى ضفة أخرى يفصلها نفق قصير. في ما “بين مصر غزة” حيرة المحاصر المنفي في وطنه، والأنفاق المظلمة رموز جلية لها.

كوبنهاجن والقاهرة
لو تركنا العنصر الشخصاني في فيلم”½ ثورة” جانباً لتأكد لنا بأن هاجس، صاحبه الدنماركي المصري الأصل عمر شرقاوي، الأقوى كان توثيق تفاصيل ثورة يناير المصرية، وأنه كان معنياً بها في المقام الأول، غير أن تمحيصاً أدق في تفاصيله سنجد الى جانبه موضوعاً ثانياً له علاقة بالهجرة المعاكسة والتوزع الهوياتي للمخرج نفسه وأصحابه، ولعل هذا الجانب الداخلي هو من أعطى جزءا من تميزه عن بقية أفلام الثورة المصرية، لكونه وبسهولة ومنذ البداية كسر الحاجز بين “الموضوعي” “والذاتي”. فالشرقاوي كان بصحبة مجموعة من الأصدقاء بينهم شريكه في الفيلم كريم الحكيم، وعائلة عندها طفل في شقة قريبة من ساحة التحرير في القاهرة، جاؤها للإقامة أو لنسميها كما هي: العودة بدافع الحنين القاتل الى المكان الأول. مسار الأحداث وتأثيراته عليهم وصل عبر كاميراتهم الديجيتال الصغيرة، وفي اللحظة التي سيطرة الجيش فيها على زمام الأمور شعروا بأن الثورة قد توقفت في منتصف الطريق، ولم تكتمل. كانت في تلك اللحظة “1/ 2 ثورة”، مثلهم، فقد وقفوا هم أيضاً وسط خياراتهم المكانية، وبسبب الفوضى العارمة وإحتمالات أقتراب الخطر منهم، فكر القادمون الجدد بالعودة ثانية الى المهجر. هكذا عادوا دون هوية مكتملة، وسيظلوا كما هم الآن موزعين بين هويتين، غربية وشرقية. لقد تقاطعت طرقهم في لحظة من ثورة لم ينتظروها وبمصادفة تاريخية بحتة تقاطعت مصائرهم الشخصية معها فتوزعوا ثانية في أكثر من مكان.