القاهرة السينمائيّ الدولي: بين الإعتراف، والإعتماد

صلاح سرميني ـ باريس

منذ سنواتٍ طويلة، وفي كلّ مناسبةٍ صغيرة، وكبيرة، نقرأ، ونسمع تصريحاتٍ، وأقوالاً تصدر عن الأوساط السينمائية، المصرية منها خاصّةً، تتفاخر، وتتباهى بأنّ “مهرجان القاهرة السينمائي الدولي” هو واحدٌ من 11 مهرجاناً سينمائياً في العالم يعترف بها “الإتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام (الرقم الصحيح هو 14، وليس 11 مهرجاناً)، وهي خدعةٌ كبرى صدّقتها إدارة المهرجان، وروّجتها الصحافة العربية بدون درايةٍ حقيقية بمهام هذا الإتحاد.
وبما أننا نعيش هذه الأيام إنتفاضاتٍ شعبية أسقطت، أو تسعى إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة، فإنه من المُفيد أيضاً الحديث عن ضرورة الثورة على أنفسنا للوصول إلى تغييّراتٍ جذرية في طريقة تفكيرنا المُتشبثة بمُسلّماتٍ، ومفاهيم سائدة، ومراجعة سلوكياتنا، وأخلاقياتنا كي تتوافق ـ على الأقلّ ـ مع الرغبة العارمة بالتغيّير، وبدون هذا الفعل الثوريّ، الفرديّ، والجماعيّ المُتواصل طوال حياتنا، فإنّ ما تفعله الشعوب الثائرة حالياً، ومستقبلاً، سوف يضيع هباءً، ويقودها إلى أوضاعٍ رُبما تكون أشدّ قسوةً، وظلاميةً من تلك التي عاشتها سابقاً.
يمكن البداية بأشياء صغيرة جداً لا تحتاج إلى مليونياتٍ، وأبسطها، التخلص من تعايشنا مع الأكاذيب، والمُبالغات، والتوقف عن تجميل أنفسنا، وتضخيم ذواتنا، وإن لم نفعل، إعتقاداً بأننا نمتلك الصواب المُطلق، فلن يبقى لنا غير الإعتراف، بدون خجل، بأننا نُعاني من أمراضٍ نفسية تحتاج إلى فترة علاجٍ طويلة.
وبحصر هذه القراءة في الشأن السينمائيّ، رُبما لن أُضيف جديداً عندما أؤكد بأنّ مهرجان القاهرة السينمائي الدولي(ومهرجاناتٍ عربية أخرى)، يحتاج إلى نفض غبار الزمن عنه.
أولى الخطوات من أجل بداياتٍ صحيحة (قبل أن تصبح نهاياتٍ مُدمرّة مُغلفة بحماسٍ ثوريّ)، أن يتوقف عن مُبالغاته التجميليّة، لأنّ هذا “الإعتراف” المزعوم ليس أكثر من “إعتمادٍ”، وهناك فارقٌ جوهريٌّ بين المعنييّن.
ومن أجل كشف ملابسات هذا الخلط (بإنتظار مفاجأة صادمة سوف تأتي من قلب الإتحاد نفسه)، فقد جمعتُ بعض المعلومات عنه (وهي متوفرة في موقعه بغزارة)، ولكنّ إندلاع الثورة المصرية، منحتني الأمل بأنها سوف تقضي على كلّ الأمراض المُزمنة التي تُعاني منها الثقاقة السينمائية العربية، والسينما بشكلٍ عام، وشغلتني مهام أخرى أنستني هذا الأمر، حتى قراءتي يوماً مقالةً بعنوان (سرّ اللهو الخفيّ فى مهرجان القاهرة السينمائي) كتبها الناقد المصريّ “أحمد يوسف” في مُدونته، وكشف فيها عن إستمرارية الإعتقاد بوهم “الإعتراف الدوليّ”، وهذا يعني، بأنّ آليات التفكير السابقة لم تتغيّر، وإذا إستمرّ الحال بنفس العقلية، سوف تفقد الثورة معناها، وتصبح وسيلةً لتدوير أنظمة تتناسخ من بعضها، وتستبدل ديكتاتوريةً بأخرى.
وفي تتابع هذه الثورات، قرأتُ مقالةً بعنوان (فضيحةٌ مصريةٌ فى برلين) كتبها الناقد المصري “سمير فريد” في صحيفة “المصري اليوم”، يُزيل من خلالها بعض سوء الفهم حول مهرجان القاهرة، ولكنه، ما يزال يحتفظ بفكرة “الإعتراف الدولي”، ومنذ تلك اللحظة، قررت الكشف عن هذه الإشكالية، فقد تأكد لي، بأننا تأقلمنا مع ظواهر فاسدة نُمارسها في حياتنا اليومية، ومع الزمن، إكتسبت شرعيةً تتوافق مع مصالحنا، تُشعرنا بالرضا، وتعوّضناً عن خيباتنا المُتلاحقة.
بدايةً، كي أكون صريحاً ما أُمكن، لا يهمّني إن إعترف إتحادٌ بدولية مهرجان القاهرة، أو لم يعترف، ولكن، يُحزنني طريقة نظرتنا النقدية، والتحليلية للثقافة السينمائية العربية، وإنعكاس ذلك على تفاصيل سلوكياتنا.
ماهو صحيحٌ، بأنّ “الإتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام” يمنح “إعتماداً” سنوياً لمهرجان القاهرة، وبالفعل، هو واحدٌ من 14 مهرجاناً يندرج في قائمة المهرجانات التي تتضمّن مسابقةً دولية (لا يوجد فئة أ، ولا درجة أولى، أو ثانية، وكلّ ما يُكتب عن هذه الفئات، والتصنيفات أوهام).

                             شعار الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الافلام ويسارا رئيسه بينوت جينيستي


ولكن، ماهو خاطئٌ تماماً، بأنّ هذا “الإعتماد” ليس “إعترافاً” بدولية المهرجان، والقائمة التي يندرج تحتها مهرجان القاهرة هي تصنيفٌ تقنيّ بحت، وليس نوعياً يُميز هذا المهرجان عن غيره في قوائم أخرى(المهرجانات المُتخصصة).
ـ هل يُصدق عاقلٌ مثلاً بأنّ مهرجان القاهرة يمتلك نفس أهمية كان، برلين، أو فينيسيا،..؟.
ـ نعم، للأسف، هناك من يصدق.
هذه المهرجانات، وعددها 51 مهرجاناً، تقدمت بطلباتٍ إلى الإتحاد، وحققت شروطاً تقنية تسمح لها بالحصول على “الإعتماد”، (وليس “العضوية”، لأنها من حقّ جمعيات منتجي الأفلام).
إذاً، ماهو هذا الإتحاد الأسطوريّ الذي ترتعب منه إدارة مهرجان القاهرة، وتستشيره في كلّ صغيرة، وكبيرة، وكأنه وصيّاً عليها :
ـ مُمكن يا إتحاد، لو سمحت يعني، وتفضلت، توافق نأجل دورة عام 2011 بسبب الأحداث، والإنتخابات(ورُبما المقصود من الطلب عدم دفع الإشتراك السنويّ، أو تأجيله).
“الإتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام”، ويُشار إليه إختصاراً بالحروف اللاتينية (FIAPF)، هو جمعيةٌ خاضعةٌ لقانونٍ فرنسيّ صدر في عام 1901 يُنظمّ عمل الجمعيات الأهلية في فرنسا، ويكفي بأن يجتمع ثلاثة أشخاص لتكوين جمعية، والحصول على رخصة خلال دقائق، ويمتلك هؤلاء الحرية بإختيار أيّ إسم لها : الإتحاد الدولي، المعهد الدولي، الجمعية العالمية، … وبتسجيلها، تصبح شخصاً إعتبارياً.
جوهرياً، لا تسعى هذه الجمعيات إلى الربح (على عكس المؤسّسات التجارية)، وهي تجمع أعضاء يتشاركون في أهدافٍ مشتركة ترتبط بإنشغالاتهم الشخصية، الإحترافية، والحياتية، وتبدأ من سكان بناية في شارع، مروراُ بمجموعةٍ تدافع عن حقوق القطط، والكلاب الشاردة، وحتى أعظم الجمعيات شأناً (السينماتيك الفرنسية على سبيل المثال).
ومن بين آلاف الجمعيات المُسجلة في فرنسا، هناك مئاتٌُ مختصة بالشأن السينمائي من جميع الإختصاصات، والمجالات (كتابة، إنتاج، إخراج، تمثيل، تصوير، …توزيع، صالات سينما، مهرجانات، صحافة، نقد،…).
ومنها، واحدةٌ تجمع جمعيات منتجي الأفلام من كلّ أنحاء العالم، تأسّست في باريس عام 1933، وتضمّ 26 مؤسّسة إنتاجية من 23 بلداً، تسعى إلى تمثيل المصالح الإقتصادية، القانونية، والتنظيمية للصناعة السينمائية، والتلفزيونية، وكمُدافعٍ عن المنتجين، يساعد على وضع ضوابط العمل في المجالات التالية :
ـ حقوق الطبع، والنشر المُتعلقة بحماية الملكية الفكرية، والفنية.
ـ تطبيق تشريعات حقوق الملكية الفكرية، وإتخاذ إجراءاتٍ لمكافحة القرصنة.
ـ العمل على نشر التقنيات الرقمية، وتأثيرها في المجالات السمعية/البصرية.
ـ توحيد السياقات التقنية.
ـ تنظيم وسائل الإعلام.
ـ آليات تمويل الأفلام في  القطاعيّن الخاص، والعام.
ـ القضايا المُتعلقة بالتجارة.
ومن بين هذه الأهداف، وآخرها، تنظيم عمل مهرجانات السينما العالمية عن طريق “ميثاق شرف”، وفي ثنايا هذا الهدف الذي يهمّنا، لا توجد  كلمةٌ واحدة تشير إلى سلطة الإتحاد بمنح الإعتراف لهذا المهرجان، أو ذاك.

                                             رئيسا المهرجان الجديد يوسف شريف والسابق عزت بوعوف

ولا تعنيه من هذه العلاقة غير مصالح المنتجين، والموزعين، وتقديم إنتاجاتهم السينمائية بأفضل الظروف، والشروط الترويجية، الإعلامية، والمادية.
وهذا لا يعني أبداً، بأنّ الإتحاد يمنحها “شرعية”، أو إعترافاً بدوليّتها، أهميتها، وعظمتها، والمهرجانات الأخرى غير المُسجلة (أيّ غير المُعتمدة) ليست دولية، أو ذات أهمية، فهي ليست من مهامه.
ومن ثمّ، هناك مهرجانات لا يهمّها هذا الإتحاد، أو غيره، وهي تواصل دوراتها بدونه، فهل يعني ذلك بأنها لا تمتلك شرعيةً، أو إعترافاً دولياً ؟
الفهم الخاطئ لفكرة هذا الإعتماد يُجسّد قصوراً معرفياً خطيراً، وتدويراً لمهام الإتحاد، وتحويله، برغبة هوسية من طرفنا، إلى جهةٍ تفرض وصايةً من نوع ما علينا، نفتخر بها، وندفع من أجلها إشتراكاتٍ سنوية باهظة.
ويبدو بأنّ مهرجان القاهرة طوال السنوات الماضية (وحتى بعد الثورة)، يريد مواصلة مسيرته بنفس العقلية.
المُفارقة الطريفة، بأننا نتابع عن قربٍ، أو بعدٍ مهرجاناتٍ كبيرة جداً، مثل : كان، برلين وفينيسا،..ولم نسمع مرةً مسئولاً يتفاخر بإعتراف “الإتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام”.
وهنا من المفيد بأن نسأل أنفسنا:
ـ هل تحتاج هذه المهرجانات الكُبرى إلى إعتراف إتحاد ؟
وبصراحة، أعتقد بأنّ أيّ منتجٍ في العالم يتمنى عرض فيلمه في إحدى مسابقاتها، أو أسواقها، فقد أصبحت مصدر إعترافٍ لهذا الفيلم، أو ذاك، وهي أكبر من “إعترافٍ”، أو “إعتمادٍ” من أيّ جهةٍ خاصة، أو عامة.
وحده، مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يستعذبُ تكرار هذه الأسطوانة مُستثمراً كسلاً عاماً في البحث عن الحقيقة، تماماً كما حدث عندما ظهرت مُدونة ملعونة، وبدأت تكشف عن السرقات السينمائية، حيث إعتبر البعض تلك المُبادرة “الثورية” بأنها “تصفية حسابات”، وهو منطقٌ متواطئ، وعدائيّ، يعكس فساداً متأصلاً، وكامناً.

هوامش :

المهرجانات المُعتمدة من طرف الإتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام :

ـ المهرجانات التي تتضمّن مسابقةً دولية للأفلام الروائية الطويلة(مُرتبة وُفق تاريخ إنعقادها، والترتيب لا علاقة له بالأهمية إطلاقاً).
برلين، كان، شنغهايّ، موسكو، كارلو فيفاري، لوكارنو، مونتريال، فينيسيا، سان سباستيان، وارسو، طوكيو، مار دي بلاتا/الأرجنتين، غويا/الهند، القاهرة.

ـ المهرجانات التي تتضمّن مسابقةُ للأفلام الطويلة (متخصصة في بلدٍ معين، تيمة، أو نوع،..وهي لا تعني بأنها من الفئة ب، أو الدرجة الثانية، لأنه لا يوجد فئات، ولا درجات أصلاً) : 28 مهرجان.
ـ مهرجانات الأفلام الطويلة، ولكن بدون مسابقة : 4 مهرجانات.
ـ مهرجانات الأفلام الروائية القصيرة، والتسجيلية : 5 مهرجانات.
 ـ من المُفيد مراجعة موضوع آخر بعنوان (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تحت المجهر).
.http://doc.aljazeera.net/cinema/2011/07/201173132248796282.html


إعلان