خمس كاميرات محطمة

الوثائقية موقف وليست نوع

رامي عبد الرازق

 يقول المخرج الوثائقي إيال سيفان : أن الفيلم الوثائقي ليس نوعا في حد ذاته مثل الفيلم الروائي او الخيالي, أن الوثائقية موقف وليست نوع.
نستطيع أن نتقبل تلك الحالة التنظيرية فيما يخص السينما الوثائقية من خلال قراءة الفيلم الوثائقي”خمس كاميرات محطمة”والذي عرض ضمن البرنامج الرسمي لمهرجان سالونيك الدولي للأفلام التسجيلية في دورته الرابعة عشر(9-18/3/2012)
الفيلم من إخراج المخرج الفلسطيني “عماد برنات” وشاركه الأخراج المخرج الأسرائيلي “ديفيد جات” وهو الفيلم الفلسطيني الوحيد الذي شارك في برامج المهرجان الرسمية هذا العام وحقق نسبة مشاهدة عالية من خلال سوق المهرجان”الأجورا” الذي ضم 466 فيلما من انحاء العالم تعرض من خلال مكتبة فيديو متطورة تسمح لموزعي الأفلام التسجيلية ومندوبي القنوات التليفزيونية بالمشاهدة والاختيار.
“عماد برنات”مصور فلسطيني يقيم في قرية”ابلين”التي تقع عند احد نقاط التماس الكثيرة ما بين المستوطنات الأسرائيلية والجدار العازل, وهي احدى قرى رام الله في الضفة الغربية والتي لا تزال تحاول مقاومة المد الاستيطاني”الأسرائيلي”الذي يلتهم الأراضي الفلسطينية تحت سمع وبصر المجتمع الدولي.
كان”عماد”في الاصل مزارعا يقوم بالتقاط الزيتون مع ابيه ثم تطور به الأمر واستهوته مهنه المصور التليفزيوني منذ سنوات ووجد في واقع قريته ما يجعله يشعر أنه يحتاج إلى اتخاذ “موقف”وثائقي من الاحداث اليومية التي تشهدها القرية نتيجة بناء الجدار العازل والمواجهات المستمرة مع المستوطنين والجيش الأسرائيلي.

جبريل والكاميرات الخمس
في البداية نتعرف على فكرة الفيلم الأساسية التي يقدمها عماد من خلال استخدام التعليق الصوتي والبصري معا حيث يضع الكاميرات الخمس المحطمة امام عدسة الكاميرا الجديدة”السادسة”التي يقوم بالتصوير بها.
ان الخمس كاميرات التي نراها في البداية هي الكاميرات الخمس التي يتمحور حولها جزء من افكار الفيلم, انها الكاميرات الخمس التي تحطمت خلال خمس سنوات من عمل عماد كمصور تليفزيوني اثناء مواجهات اهل قريته مع الأسرائيليين, وهو لا يزال يحتفظ بها كجزء من تاريخه الشخصي الذي اختلط وامتزج نفسيا وذهنيا وجسديا مع تاريخ الصراع والمواجهات العنيفة.
أما من هو جبريل؟
جبريل هو اصغر ابناء عماد والذي يولد مع شراء عماد لاول كاميرا تصوير ويصبح أول وجه تطل عليه عدسة الكاميرا ويطل بعينه في داخلها, ويتخذ عماد من جبريل معادل درامي ورمزي في نفس الوقت حيث تمتزج سنوات عمره الخمس التي تتراكم عاما بعد عام مع تاريخ الكاميرات الخمس في تصوير الصراع واتخاذ “موقف” منه.

الصوت /الفضفضة
يقول الناقد الفلسطيني ابراهيم نصر الله: أن أساس الفيلم الوثائقي هو مقاربة الواقع المعاش فنيا دون الغرق في التقريرية الأخبارية.
يعتمد عماد في شرحه لموقفه اثناء الفيلم على التعليق الصوتي باللهجة الفلسطينية المختلطة بالعربية الفصحى والتي تبدو اقرب للحديث الشخصي أو الفضفضة وليس التعليق الأخباري أو المعلوماتي, حتى فيما يتعلق بطرح المعلومة صوتيا إلى جانب طرحها بصريا فإن عماد يلجأ إلى استخدام لغة بسيطة غير متقعرة ولا منقحة كأنه يحكي لنا في جلسة شخصية وليس في فيلم وثائقي.

هذه البساطة اللغوية والتي انعكست ايضا من خلال النبرة الصوتية التي استخدمها عماد في الحكي هي جزء من الموقف الوثائقي لعماد فالفيلم نابع من تجربة شخصية شديدة الخصوصية فيما يتعلق بالكاميرات الخمس والأبن الأصغر الذي يريد أن يربيه على المقاومة واستيعاب الواقع, ولكنه في نفس الوقت ينطلق إلى افق الموقف الأنساني والسياسي الاكثر رحابة وموضوعية خصوصا عندما تبدأ الأحداث في الاحتدام والجرحي في التساقط والقرارات في الأتخاذ.

الفيل
يتعامل عماد مع السنوات الخمس التي شهدت تحطم كاميراته من خلال موقف وثائقي ينحو بأتجاه دراما الوقع, اي استلهام شخصيات فيلمه من الشخصيات الحية والواقعية التي تعيش في قريته المقاومة, وهي شخصيات حقيقية ولكنها تتخذ ابعاد درامية شديدة القوة خلال الفيلم عبر اشتراكها في المواجهات من ناحية وعبر ما تمثله من موقف سياسي وفكري يعرض جانبا هاما من القضية والصراع.
“الفيل”أحد ابناء القرية الذين يصعدون كل جمعة إلى نقطة المواجهات للأحتجاج والتظاهر وهو شخصية روائية بكل معنى الكلمة لكنها تعيش في الوقع أو كانت تعيش فيه قبل أن تستشهد برصاص الأسرائيلين امام عدسة الكاميرا الرابعة لعماد.
انه طفل كبير يحمل بداخله براءة العالم ولكنه في ضخامة جثته وقوته البدنية وجرأته يشعرك أنه محارب صلد شجاع لا يخشى الموت حتى يلقاه بالفعل.
التركيز على شخصية الفيل يأتي بالتوازي مع النمو العقلي والزمني لجبريل ابن عماد حتى ان جبريل يسميه “فيلي” اي الفيل الخاص به نتيجة العلاقة التي تربطهم.
غلى جانب الفيلم ثمة عدة شخصيات اخرى من أهل القرية الذين يصعدون كل جمعة للأحتجاج والتظاهر السلمي معرضين انفسهم لخطر الرصاص والقنابل الأسرائيلية.
هذه الشخصنة الدرامية لا تتنافي مع الوثائقية وهي جزء اساسي من اسلوب الأستعراض والسرد في الفيلم لوقائع السنوات/الكاميرات الخمس, فالكاميرا في النهاية لا تسجل مرور الهواء او عبور السحب ولكن همها الاول والاخير هو البشر, الانسان المقاوم الذي يحارب من أجل ما يؤمن به.
و إذا كان البعض يعرف الوثائقية بأنها تسجل محاولة شخص يكابد الألم الحقيقي بينما الدراما هي مجرد مجرد تظاهر او محاكاة فإن فيلم برنات يرد بعض من الأعتبار لدراما الحياة وابعادها الواقعية الخشنة من خلال شخصيات قريته التي ينجح في الأقتراب منها بشكل حقيقي صانعا حبكة متصاعدة تعتمد على صراع صاعد متدرج وكما قال لاجوس اجرس  فإن العقدة التي تشكل الحبكة والصراع تنبع عادة من الشخصية وليس العكس.

العقدة
العقدة الدرامية هنا التي يسجل من خلالها عماد موقفه عبر كاميراته الخمس ليس في مجرد ازالة الأسلاك الشائكة التي تحدد مساحة الأراضي المصادرة لصالح المستوطنات والجدار العازل ولكنها تتجاوز ذلك إلى عمق الصراع العربي الصهيوني الاستعماري منذ 60 عاما دون طنطنة دعائية او فجاجة مباشرة فالصورة تغني عن الف كلمة, والكاميرا تسجل عملية اظلاق شلالات من القنابل المسيلة للدموع كانما هي امطار معدنية تهطل فوق المتظاهرين العزل.
كذلك من اهم فصول الفيلم تلك المواجهات التي تحدث ما بين اهالي القرية و المستوطنين حيث يقول عماد عبر التعليق الصوتي أن المستوطنين يستغلون قانون اسرائيلي يمنع هدم اي بناية مكونة من جدران وسقف وهو قانون غاشم يسمح لهم بان يقوموا بنصب بيوب متنقلة في اراضي الفلسطينين ثم الاستيلاء عليها والبدء في بناية المستوطنات ولكن عندما يحاول الفلسطينيون أن يستغلوا ذلك القانون لصالحهم لا يسمح لهم الجيش الأسرائيلي دون مبرر, وبهذا عبر تتابع لقطات شيق ومركز يهدم الفيلم من فكرة ديمواقراطية اسرائيل التي تطنطن بها وهو رسالة هامة لا شك نجح الفيلم في توصيلها للمتلقي الغربي والأوربي الذي يشاهد بأم عينه اجحاف الاسرائيلين القانوني والعسكري ضد اصحاب الارض العزل.
ولا يغفل الفيلم عنصر الحياد الأيجابي في التعامل مع وقائع حياته عبر ما سجلته كاميراته الخمس, فعندما يتعرض للاصابة نتيجة الأصطدام بالسور العازل للمستوطنات وتتحطم كاميرته الثالثة, يصطحبه الجيش الأسرائيلي للعلاج في تل ابيب ولكن بعد عودته من هناك يفاجأ لكم هائل من الفواتير الطبية المطلوبة منه لانه ليس مواطن اسرائيلي لديه تأمين صحي ففي مقابل الاحسان عليه بالعلاج هناك المطالبة المادية التي ترهقه وتذله للمال وهو حياد ايجابي في عرض الوقائع فلم ينكر انه عولج في تل ابيب ولكنه ايضا ذكر مطالبته بالمال مقابل العلاج رغم أن السبب في الحادث هو السور العازل المبني فوق ارضه وارض ابائه.

الحل
تتعدد ذرى الصراع في الفيلم بشكل يخلق ايقاع متصاعد ففي كل مرة تكسر احد الكاميرات تبلغ الاحداث ذروتها وفي كل مرة يستشهد شخص امام الكاميرا تتصاعد حدة الانفعال, وكلما كبر جبريل سنة واذداد وعيا بطبيعة الحياة المقبل عليها يتوتر المتلقي ويشعر بالقلق على مستقبل الطفل الصغير وكل من يمثلهم من ابناء الشعب الفلسطيني المحتل, وعندما يصدر قرار من المحكمة الاسرائيلية بهدم الاسلاك الشائكة وارجاع الاراضي للفلسطينين تبلغ دراما المواجهات ذروة جديدة ولكنها تنقلب ضد عماد وقريته فالقرار يتأجل تنفيذه لسنوات ثم ياتي بناء الجدار العازل ليطيح باحلامهم في استعادة اراضيهم المسلوبة وبهذا لا يؤجل عماد ظهور الحل النهائي ولكنه يضع المتلقي أمام السؤال الكوني ( متى وكيف سوف ينتهي هذا الصراع؟)
أن اتخاذ المخرج الوثائقية كموقف جعله يخلص في النهاية إلى ان اهمية المادة الوثائقية ليست في طرح الاجوبة او البحث عن حلول ولكن في القاء السؤال داخل ذهن ونفسية المتلقي وترك صداه يتردد حتى بعد نهاية الفيلم فالوثائقية ليست أن تجيب ولكن أن تسأل وتترك مساحة الاجابة لكل من لديه الشجاعة على المشاهدة والتلقي.