سمير عوف: متصوف السينما الوثائقية
يعد المخرج سمير عوف واحدا من رواد السينما التسجيلية المصرية، قدم الكثير من الأفلام منها : “القاهرة 1830 م , قصيدة بنتاؤر 1970 م ، لؤلؤ النيل 1972 م , مسافر إلى الشمال .. مسافر إلى الجنوب 1974 م” ووجهان فى الفضاء 2000 ثم أرض السماء 2003 وأخيرا أيام الراديو 2009.
تتميز أفلام سمير عوف بجماليات خاصة وابتكار فنى ندر وجوده فى الفيلم التسجيلى المصرى الذى كثيرا ما تغلُب عليه المباشرة وتتواضع فيه لغة السينما. فى أعماله ملمح شخصى وكأنه يحكى جانبا من سيرته الذاتية برؤية تتسم بالتصوف والتأمل، ينجح فى جعلنا نلمس ما وراء الجماد تمثالا كان أم أثرا قديما، وهو بلغته الشفافة يصل لحقيقة الشيء الذى يتناوله سواء كان مدينة ما، أم تمثالا أم تجربة لمهندسين يعملان بجد كما هو الحال مع نماذج فيلمه “مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب” .
نحلق معه عبر بالونه الطائر فوق الآثار المصرية القديمة فرعونية أو قبطية أو إسلامية فى فيلم ” أرض السماء” ، يجعلنا نبكى على الآثار الغارقة فى فيلمه لؤلؤة النيل وقد ابتكر أن يصور والكاميرا فوق مركب يُشد بطيئا بالحبال فتنقل الحركة مشاعر الأسى على الآثار الغارقة، المشخصنة فى فيلمه، المحملة بعبق التاريخ ومجهود من قام بتشييدها.

ولد سمير عوف عام 1942 بالقاهرة، درس الإخراج بالمعهد العالى للسينما وتخرج منه عام 1965، عمل في بداية حياته الفنية مساعد مخرج لكل من كمال الشيخ وتوفيق صالح وشادي عبد السلام الذى ارتبط به وكان شريكه فى الإعداد لفيلمه الطويل المومياء والقصير الفلاح الفصيح. تشرب أسلوبه الفنى مما ميزة عن جيله كله. يندر أن تجد فيلما له لم يتوج بجائزة فى مهرجان محلى أو دولى. منها 1972 حيث تقلّد فيلم “لؤلؤة النيل” ميدالية سان مارك في مهرجان فينيسيا 1972و شهادة تقدير من مهرجان لندن وجائزة التصوير من مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة بمصر. وفي 1973 تحصل على جائزة الطاووس الفضي من مهرجان نيودلهي ، وتحصل فيلمه “أغنية طيبة” على جائزة التصوير من مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة بمصر سنة 1974 وجائزة اتحاد النقاد المصرين لنفس السنة. أما فيلم “مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب” فقد نال جائزة الإخراج من مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة بمصر 1975 وفي نفس السنة تحصل على جائزة مهرجان جرينوبل في فرنسا وجائزة اتحاد النقاد المصريين.
كانت الأفلام التسجيلية تعرض قبل الفيلم الروائى الطويل فى دور العرض العامة وبعد جريدة مصر السينمائية ، فكانت المسابقة السنوية لاختيار أفضل الأفلام التى عرضت فى العام. وتدخل فيها الأفلام القصيرة والتسجيلية. ومازال القانون الملزم لدور العرض بعرض فيلم تسجيلى قبل الروائي الطويل موجودا، ولكنه لم يعد يطبق بعد الشاشات المتعددة وسياسة الانفتاح والاستهلاك. حتى بداية الثمانينات كان الجمهور يشاهد الفيلم التسجيلي وكان النقاد يدرجونه ضمن جوائزهم، وعندها تكرر حصول أفلام سمير عوف على جائزة النقاد جنبا إلى جنب على الجوائز الأخرى في المهرجان القومى وفى المهرجانات العالمية. مثلما هو الأمر مع فيلمه “وجهان في الفضاء” الذي حصل على جائزة أحسن فيلم تسجيلي من المهرجان القومي للسينما المصرية 2000 و جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان دمشق السينمائي الدولي 2000.. وكذلك الشأن مع فيلم “أرض السماء” الذي حصل على جائزة الإبداع الذهبية من مهرجان إتحاد الإذاعة والتليفزيون سنة 2004 وفي نفس السنة حصل على جائزة اتحاد التسجيليين المصريين في مهرجان الإسماعيلية . أما فيلم ” الأزهر الشريف عمارة وبناء ” فقد حصل على جائزة أحسن فيلم تسجيلي في المهرجان القومي وجائزة اتحاد الإذاعات من تونس سنة 2006.
فى فبراير 2012 بلغ سمير عوف سن السبعين وعرض له بهذه المناسبة فيلمه ” مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب ” الذى يقدم فيه فكرة مبتكرة عن شابين ولدا في عام واحد 1948 وتخرجا فى عام واحد 1972 . الأول المقاتل والمهندس فاروق خريج هندسة القاهرة سافر منها شمالا ليبنى كبارى عبور المعدات الحربية فى حرب 1973، والثانى المهندس أحمد عفيفى تخرج من هندسة عين شمس ليسافر منها إلى أسوان ليشارك فى عمليات إنقاذ معابد فيلة من الغرق. التوازى بين النشاطين يحمل فكرة عن روح أكتوبر التى سعت إلى استعادة كرامة مصر فى حرب أكتوبر وحضارة مصر من الغرق بسبب مياه السد العالى.
بعده عرض فيلمه الأول “القاهرة 1830” وهو قراءة لوصف مصر طبقا لرسومات دافيد روبرتس، وكانت أيضا فكرة مبتكرة لاستعراض تاريخ مصر من خلال وثائق بفن التصوير الجرافيكى. وفى أقل من 10 دقائق ومع شريط صوت ابتدعه المخرج انتقلت إلينا حالة من التأمل فى تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر.
ثم عرض فيلم ” أرض السماء” الذى يقدم فيه رؤية ذاتية عن العناصر الروحية والمعمارية التى أثرت فيه طفلا وجعلته يشعر بالمزيج الحضارى من مساجد مصر ومآذنها فى الحى الذى نشأ وتربى فيه، وبين الآثار الفرعونية التى ارتبط بها واقترب منها أثناء عمله مع الفنان الكبير الراحل شادى عبد السلام. ظهرت العمارة الإسلامية والعمارة الفرعونية شاهقة نحو السماء تظهر عظمة الإحساس والإيمان بوحدانية الله.

وانتهى العرض مع فيلمه الأخير “أيام الراديو” وهو من إنتاج المركز القومى للسينما 2009، وقد تناول فيه فن الأوبريت الإذاعى وتأثيره على الوجدان الثقافى الذى تربى عليه وهو يجلس جدته فى بيته المطل على مآذن القاهرة.
يستعرض الفيلم أربع صور غنائية يعكس تنوعها مكونات الحضارة المصرية ما بين الفرعوني والإسلامي والمعاصر، عبر أوبريت ” خوفو مشيد الهرم الأكبر”، و أوبريت عوف الأصيل “وبينهما السيرة العطرة لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. مرة أخرى وكأنه يكثف فكرته السابقة عن المزيج الحضارى عبر وسيط مختلف باستعراض روائع من الإذاعة المصرية فى الخمسينيات.
يندر أن تجد موسيقى من خارج الصورة أو تعليقا صوتيا. فقط شريط صوت مكون من مواويل حسن أبو ليلة فنان الصعيد الشعبى وهمهمات المصلين ومرددى الأدعية، مع صوت الهواء الصارخ فى الصحارى، أصوات طبيعية يمزج بينها الفنان سمير عوف لينقل لنا عالمه الروحى كما يشعر به. كانت الأفلام الثلاث وكأنها تمثل معزوفة واحدة، سمفونية من ثلاث حركات تصل المشاهد بحالة الوجد التى عاشها المخرج مع مفردات أعماله. التى تشكل ما يمكن اعتباره فيلما واحدا متواصل الحلقات.
وحاليا يسعى سمير عوف لعمل فيلم عن القيم، منتقدا فيه التدين الظاهرى الذى يسود بلادنا الآن ويقف عائقا ضد تواصل البشر معا فى إطار من المودة والسلام مع النفس.