الجاسوس الخفي وجون واين المتعب
محمد رُضا
العديد من الإنزالات الجديدة في سوق الأسطوانات هذا الأسبوع من فيلم الإيطالي لوكينو فسكونتي “الأرض المهزوزة” (1948)? إلى فيلم? الفرنسي رومان بولانسكي «مجزرة» وصولاً إلى الفيلم التسجيلي «غرفة الحرب»، وهو فيلم جيّد منسي في غمرة الأحداث والأفلام يدور حول الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي الأسبق بل كلينتون أخرجه كريس هيجيدوس.?
سأختار البدء بفيلم المخرج السويدي توماس ألفردسون «سبّـاك خياط فندق جاسوس» الذي انتهت دورته السينمائية حديثاً ودلف إلى العروض المنزلية وهو من بطولة عدد جيّد من أفضل المواهب الأوروبية يتقدّمهم غاري أولدمان في دور الجاسوس المتعَب وغير السعيد الذي يسند إليه “كونترول” (العجوز ذو الصوت الذهبي جون هيرت) مهمّـة البحث عن عميل للمخابرات الروسية مزروع بين كبار مسؤولي المخابرات البريطانية، وبالتحديد أربعة لديهم أسماء: سبّـاك وخيّـاط وجندي وجاسوس.
الفيلم بطبيعة الحال، كونه اقتباساً عن رواية الكاتب جون لي كاريه (وضعها سنة 1974) أكثر أمانة لعالم الجاسوسية من كل ما تم إنتاجه من أفلام جيمس بوند، سواء تلك التي اقتبست عن مبتكره إيان فليمنغ او تلك التي تم تأليفها من بعد أن تم تحويل كل حكاياته إلى أفلام. حسب جاسوسيات جيمس بوند العالم هو مغامرة إثارية كبيرة مليئة بالمستحيلات وبعض الوقائع الممكنة. أما هنا فنحن هامدون (والفيلم هامد أكثر قليلاً مما يجب) في عالم يمشي بتؤدة محمّـلاً بإحباطات المهنة أكثر (بكثير) من بطولاتها. تحدّث عنه الزملاء في الغرب بكثير من الإعجاب، لكني لم أستطع أن أنفعل جيّداً حيال معطياته من الخيوط المتشابكة. لابد أن شيئاً ما أفلت مني في البداية ما جعلني لا أخوض الأحداث بأي اهتمام يذكر باستثناء الاهتمام بالتشكيل الفني المبهر للمخرج. هناك قوّة في تلك الصورة الباردة ذات اللون الرمادي والبني ومشتقاتهما. كما في تمثيل أولدمان المعبّر عن شخص يعيش تحت رادار السعادة وبعيداً عن الشعور بأنه إنما يؤدي خدمة وطنية جليلة لمؤسسة بلده عبر البحث عن الجاسوس المزدوج

مثله في التعامل بحذر مع ما قد تتيحه القصّـة ذاتها من إثارات، فيلم المخرج الأميركي ديفيد فينشر «الفتاة ذات الوشم التنين». كثيرون يعرفون أن هذا الفيلم الذي خرج، كسابقه، في العام الماضي، مقتبس عن فيلم بنفس العنوان أنجزه الدنماركي نيلز أردن أوبلف سنة 2009. لم يكن منتظراً من هوليوود أن تنقض على فيلم أوبلف (الذي أطلق شهرة الممثلة نومي راباس الحالية) بهذه السرعة لتصنع فيلماً موازياً خصوصاً وأن من شاهد الفيلم السابق لا يزال يتذكّر جيّداً أحداثه. مثل «سبّـاك خيّـاط ….» نسختا أوبلف وفينشر مقتبستان عن عمل روائي منشور وضعه السويدي الراحل ستيغ لارسون الذي أنجز (قبل رحيله سنة 2004) بضعة روايات من السلسلة ذاتها تم تحويل ثلاثة منها إلى أفلام (الآخران هما (“الفتاة التي لعبت بالنار” و”الفتاة التي رفست عش الدبّور”).
لكن نسخة فينشر، للإنصاف، تختلف عن نسخة أوبلف. على عكس المتوقّع، نسخة أوبلف هي التي تجد في المادة معالجة هوليوودية، بينما ينفّذ فينشر معالجة “فينشرية”، إذا صحّ التعبير. مثل فيلميه “زودياك” و”الشبكة الإجتماعية” يبني نهايته من على بعد بدايته. يسعى لسرد الحكاية كما لو كان يكتبها، بكثير من الإحاطة بالمكوّنات الدرامية والشخصية، ثم يحشد التشويق الفعلي لآخر ربع ساعة. هنا الصحافي (دانيال كريغ) متّـهم، من قِـبل المحكمة، بالإساءة إلى أحد كبار الرأسماليين السويديين. تهمة لا يستطيع ردّها من دون وثائق والوثائق موجودة عند عجوز أسمه هنريك (كريستوفر بلامر) وفي المقابل سيطلب منه البحث عن إمرأة مختفية من أربعين سنة. ستعاون الصحافي فتاة (روني مارا) معادية للرجال بسبب ما مورس عليها كأنثى من اعتداءات.
جيّد البناء لكنه لا يزال يبدو كما لو كان تكراراً لما سبق، إذا ما شاهد أحدنا الفيلم السابق. أما إذا لم يفعل فهو يحمل جديداً، لكنه لا يحمله بتلك الإثارة الواضحة التي اعتاد معظمنا عليها.
واقعية من فيسكونتي
«الأرض المهزوزة» فيلم حققه الإيطالي لوكينو فيسكونتي سنة 1948 وفاز بجائزة خاصّـة من مهرجان ?نيسيا آنذاك. وأكثر ما يواجهنا الفيلم به إذ نراه اليوم هو تأثيره في حقبة السينما الواقعية الجديدة. تلك التي أنجبت كذلك روبرتو روسيلليني وفيتوريو دي سيكا. فيسكونتي كان مختلفاً كنشأة في الأساس، فهو جاء من عائلة أرستقراطية تماماً (هو كونت منطقة لوناتو بوتزولو) من أعمال مقاطعة ميلانو، واعتنق الماركسية ومثّل النقيضين في السينما فأسلوبه محمّـل بالثقافة الفنية (مسرح وسينما وموسيقا ورسم) ونظرته ماركسية. لكن «الأرض تهتز»، الذي كان ثاني أعماله ورد في الفترة التي سبقت أعماله الأشهر ومنها «موت في فنيسيا» و«الملعونون» و«الفهد»، بالتالي فإن احتفائه بالثقافة الأرستقراطية المذكورة ليس وارداً هنا. ما هو وارد تلك الدرجة العالية من الواقعية التي ضمّـنها هذا الفيلم. فالحكاية تدور حول صيّادي السمك في بلدة صقلية صغيرة (أسمها أسي تريزا) والأسلوب أشبه برصد تسجيلي لا تأليف فيه (على الرغم من أن المخرج استوحى المادّة من رواية جيوفاني فرغا وهذه نُشرت سنة 1881) والممثلون المستعان بهم هم من غير المحترفين وبعضهم لم يقف أمام الكاميرا من قبل او من بعد.
إنه حكاية الصياد أنطونيو فالاسترو العائد من الحرب العالمية الثانية الذي يجد أن أهل قريته واقعون في شباك مجموعة الوسطاء الذين يشترون الأسماك بأبخس الأسعار ويبيعونها للتجار وأصحاب المحلا��ت بأسعار مرتفعة محققين أرباحاً هي أضعاف تلك التي يحققها الصيادون أنفسهم. يدعو أنطونيو الصيادين للوحدة دفاعاً عن مصالحهم. هذا يبدو أقرب من أفلام الخمسينات التي دارت على أرصفة بورسعيد او الإسكندرية ليس فقط بين الصيّادين وأصحاب المراكب بل أحياناً بين عمّال المرافئ وأصحاب العمل مع صورة فريد شوقي او رشدي أباظة في البال وهو يخاطب البحارة داعياً لهم التصدّي للمستغلّين.
لكن في فيلم فيسكونتي النصر ليس حليفاً مضموناً، وبذلك- وعلى الرغم من دكانة هذا الواقع- هو أكثر واقعية وأمضى رسالة. فرغبة أنطونيو في تحقيق إنجاز نوعي لحياته وحياة الصيّادين تندثر تحت أعباء الوضع الاقتصادي في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
فيسكونتي يقترب من الحياة قدر المستطاع ويعاملها بكاميرا تشارك الحياة والإيقاع بحركتها وبأضوائها فإذا بالفيلم معبّر فني عن حياة القاع من دون تزييف. لاحقاً، ما انتقل المخرج إلى أسلوب مختلف، لكنه لم يفقد قدرته على الإدهاش وإنجاز القيمة من وراء الفيلم بصرف النظر عن أسلوب معالجته.

تلك الحقبة من التاريخ
في العام ذاته كان المخرج الأميركي جون فورد ينجز «فورت أباش» الجزء الأول من ثلاثية حول الجيش الأزرق والهنود الحمر. وفيه خمسة من الممثلين الذين دائماً ما ظهروا في أعماله: جون واين، فكتور ماكلاغلن، جورج أوبرايان، وورد بوند وغاي كيبي (او هل هو كبّي من أصل لبناني؟). إليهم هنري فوندا الذي أدّى بطولة «عنب الغضب» لفورد والمكسيكي بدرو أرمنداريز الذي عمد إلى الإخراج ثم ظهر في بضعة أفلام وسترن لسام بكنباه.
يؤخذ على «فورت أباش» أنه مجيّر لإظهار البطولة الأميركية وكيف أن النصر للعنصر الأبيض فوق المواطنين الأصليين. هذا وارد، لكنه أيضاً الظاهر فقط. جون واين في هذا الفيلم ينظر بحزن إلى ما يتعرّض الأباتشي إليه من قتل وترحيل. عينا واين اللتان طالما عكستا ما يعتمل في داخله، تنقلان إلينا شاشة من التعابير الداخلية الصادقة. صحيح أنه يؤدي دوراً وطنياً (في عرفه وعرف المؤسستين العسكرية والسياسية) لكنه يدرك (هنا) أنه يودّيه على حساب شعب من حقّـه أن يرفض احتلالاً.
إذ يفتح الفيلم شهية الربط بين الماضي والحاضر وتشابههما (وبل بين “فورت أباشي” و”أفاتار” أيضاً) علينا أن لا ننسى أن الفيلم، بصرف النظر عن ميوله السياسية هو أحد الأعمال الكلاسيكية المهمّـة في السينما الأميركية. هذا بسبب منواله من الحديث عن تلك الحقبة من التاريخ كما بسبب هيمنة المخرج جون فورد على مقدّرات العمل مانحاً إياه الجوانب الاجتماعية التي عادة ما لا تثر اهتمام مخرجي أفلام وسترن آخرين. هذا المحيط هو الحياة على الجبهة بالنسبة لمجموعة من الشخصيات ذات الأصل الايرلندي (كما واين وفورد) المشترك. هنا تتجلّى دائماً رغبة المخرج في الاحتفاء بالثقافة الشعبية الايرلندية: رقص وشرب وقتال يدوي. يُـثير ذلك بعض النكهة الرومانسية والكوميدية الخفيفة التي تبدو مثل جناح أصغر لهذا الفيلم ليس بقوّة جناحه العسكري او الدرامي بصفة عامّة.
المواجهة ليست فقط بين جون واين المسؤول عن فرقته العسكرية وبين هنري فوندا الطبيب الآتي من خلفية عسكرية بدوره إذ أعتبر بطلاً قومياً بسبب دوره خلال الحرب الأهلية. الآن من باب التخلّص من التزامه وشخصيّته يتم إرساله إلى هذا القحط الأريزوني للانضمام إلى جيش ينطلق من قلعة «فورت أباش» لطرد الهنود الحمر الثائرين لكنه يجد نفسه في حرب ضروس يتكبّد فيها خسائر جسيمة.
لكن إذا ما كان الفيلم قائماً على المواقع الحربية تلك، فإن المواجهة بين شخصيّتي واين وهنري فوندا إذ يتّـضح تناقضهما، تكبر وتشكّل خطّـاً بارزاً في الأحداث برمّتها. شاهد هذا الفيلم إذا ما كنت تكوين صورة إجمالية عن الفترة العسكرية او عن سينما جون فورد او كجزء من ثلاثية فورد العسكرية التي قاد بطولتها جون فورد والتي تضم الفيلمين اللاحقين:
She Wore a Yellow Ribbon و Rio Grande
تقييم الأفلام الواردة هنا بلمحة
Tomas Alfredson ***?Tinker Tailor Soldier Spy ?(?2011?)? ?|
The Girl With Dragon Tattoo (2009) | Niels Ardin Oplev **
The Girl with Dragon Tattoo (2011) | David Fincher ***
La Terra Trema (1948) | Luchino Visconti ****
Fort Apache ?(?1948?)? | John Ford ?****?