اسطورة “بوني وكلايد” تتجدد
طاهر علوان
معلوم انه بالأمكان في هذه الحياة التقاط اية قصة نسمعها او تتحدث عنها وسائل الأعلام وتتناقلها الألسن واعادة تقديمها في عمل ابداعي او سينمائي ، هذه مرحلة واكبت فن الفيلم طويلا وخاصة فيما يتعلق بقصص تلك الشخصيات الأستثنائية التي تشغل المجتمع وتهز الوجدان وتنغرس عميقا في الذاكرة الجمعية .
ولهذا تعج السينما الأمريكية خاصة بعشرات القصص الحقيقية التي جرى الحديث عنها في وسائل الأعلام لتتلقفها هوليوود وتحولها الى اعمال سينمائية تخلد في الذاكرة .
ومن هذه القصص التي هزت الولايات المتحدة في الثلاثينيات كانت قصة الثنائي ” بوني وكلايد ” ، انها واحدة من اكثر القصص اثارة للرأي العام في تلك الحقبة ، فقد كان هذا الثنائي مقترنا بتحولات كبيرة في المجتمع الأمريكي اولها كونهما كانا شاهدين على الأنهيار الأقتصادي فيما عرف بالكساد العظيم والذي ترتب عليه مزيد من الفقر والتردي في كل قطاعات الحياة والجانب الثاني انهما كانا سببا مباشرا ورء احداث تغيير جذري في التشريعات الجنائية الأمريكية وانتقال بعض من الجرائم وخاصة السطو المسلح الى مرتبة الجرائم التي تمس الأتحاد الفيدرالي للولايات المتحدة كما انهما كانا سببا مباشرا وراء ولادة مكتب التحقيقات الفيدرالي المعروف في زمننا ب “F.B.I “.

حقيقة بوني وكلايد هو عنوان الفيلم الوثائقي المنتج حديثا ومن اخراج “كريس ويلسون”، مجرمان شابان يافعان لم يتجاوزا منتصف العشرينيات من عمريهما وقد اقضا المضاجع لشدة تحديهما للسلطات والجرائم المروعة التي ارتكباها على مدى عامين فقط مابين 1932 و1934 ، فهما عنوان مرحلة اليأس والأحباط واللاجدوى والضياع القيمي وقد عكسا بحق ملامح تلك الحقبة التاريخية في المجتمع الأمريكي وحيث قيل ان امريكا قد جثت على ركبتيها من جراء تلك العاصفة الأقتصادية الكبيرة وهو مايتحدث عنه الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت بأسهاب في احدى خطاباته كخلفية للأزمة فيما نحن نمضي مع المخرج في تقليب صفحات الشخصيتين المغامرتين وعلى خلفية انتشار الجريمة بشكل مروع كرد فعل على الفقر المدقع والأفلاس وهو مايتحدث عنه (جيف غان) مؤلف كتاب القصة الحقيقية لبوني وكلايد حيث يذهب الى ان حقبة ظهور هاتين الشخصيتين قد شهدت ظهور مجرمين محترفين انقسموا في ادوارهم فمنهم من مثل دور “روبن هود ” الذي يسرق من الأغنياء ويعطي للفقراء ومنهم من هو قاتل محترف ومجرم خطير يقرن السرقة والسطو بالقتل وترويع المجتمع وكلتا الحالتين قد شهدهما المجتمع الأمريكي في تلك الحقبة .
تتعدد اوجه سيرة بوني وكلايد واحد جوانبها هو الفضول الذي لاحق قصة الحب والعلاقة العاطفية التي ربطت بينهما وكيف التقيا ومتى واين ؟ ولهذا تتعدد الروايات في تاريخ ومكان ذلك اللقاء اذ ان هنالك من يؤكد انهما التقيا في منزل صديق مشترك لهما وسرعان ماانضم الصديق وزوجته لهما ليكونا عصابة من اربعة اشخاص مختصة بالسطو المسلح والقتل وهنالك من يروي قصة مخالفة وهي انهما التقيا في داخل السجن ومن هناك توطدت علاقتهما وفي كل الأحوال فأن المخرج يمضي بعيدا في استجلاب عشرات الوثائق والقصص ومقابلة الشهود واستطلاع اراء رجال القانون في خلفية قصة هاتين الشخصيتين المغامرتين .

يمضي كلايد عامين في السجن ليطلق سراحه بعد ذلك لكن تجربة السجن كانت من القسوة بحيث ان ذلك الشاب ذو الأثنين وعشرين عاما خرج وهو اشد تصميما على الأنتقام من كل اشكال السلطة اولا وخاصة رجال الشرطة وفرض القانون والمجتمع بصفة عامة ولهذا فأنه سرعان ما انخرط قي اعمال قتل مروعة جعلت منه المطلوب رقم واحد في تلك الحقبة خاصة بسبب قتله عددا غير قليل من رجال الشرطة. ثم مالبثت ان التحقت به حبيبته بوني التي كانت تحلم في صباها ان تصبح ممثلة او مغنية اوبرا ولكن لينتهي بها المطاف شريكة لكلايد في تنفيذ الجرائم حتى اشيع عنها انها كانت تنفذ جرائهما بدم بارد ومن ذلك اقدامها على قتل عمدة احدى ضواحي مدينة دالاس وحيث رويت تلك الواقعة على نطاق واسع ووصفت طريقة دخولها بهدوء الى مقر العمدة وقتلها له وانسحابها بكل خفة وهدوء.
يستعرض الفيلم تلك الدراما التي تغص بحوادث اجرامية امتدت في ولايات الوسط والغرب الأمريكي بصفة خاصة وخلالها كان بوني وكلايد يستخدمان اشكالا متعددة من التخفي وطرق التخلص لتفادي الوقوع في قبضة العدالة ومن ذلك مثلا سرقة السيارات واختيار اي منها اكثر سرعة ومنها ايضا سيارة الفورد الحديثة التي انتجت في تلك الحقبة ليستخدمها رجال التحري الجنائي ولذا في منئى عن اي اشتباه وكانت سيارتهما تمر في وسط المدن وتحت انظار البوليس دون ان تلفت نظر احد .
وتكشف وقائع اخرى ان كلايد وقد دخل السجن لعامين بسب السرقة لم يكن قاتلا محترفا بل انه لم يقتل في حياته لكنه شاهد العديد من الفضائع هناك ومنها قتل احد زعماء العصابات ثم الأعتداءات الجنسية ثم استهدافه هو في داخل السجن من طرف مجرمين قطعوا له اصبعا او اكثر من اصابع قدميه .
لكن الحدث الأكثر درامية الذي اجج سخطا هائلا ودفع السلطات الى استخدام اقصى مالديها من ضباط التحري والمطاردة هو اقدام بوني وكلايد على الهجوم على احدى ثكنات الشرطة وقتل العديد منهم ويقدم الفيلم الأدوات التي مكنت بوني وكلايد من تنفيذ جريمتيهما وهي لجوئهما الى استخدام سلاح جديد وهو المدفع الرشاش المتطور الذي صار اداتهما في تنفيذ جرائم جديدة .وبسبب الحملة الواسعة ضدهما تشاء الصدف انهما يكادان يسقطان في قبضة العدالة عندما يشتبه عنصران من عناصر التحري بوجود مشتيه بهما في احدى الشقق السكنية فيداهمانها فجرا ولكن سرعة بوني وكلايد تردي الشرطيين قتيلين وبسبب احساسسهما ان ثمة رجال شرطة آخرون سيلتحقون بهذين الشرطيين فأنها يتركان المكان على عجل تاركين كثيرا من ادواتهما الشخصية ومنها مجموعة افلام تم تظهيرها فيما بعد من طرف رجال الشرطة لتتضح امام الجميع صورة بوني وكلايد وتكون تلك الصورة هي الأكثر شيوعا حتى الساعة : بوني تتكئ على السيارة الفورد الحديثة وفي يدها مسدس وفي فمها السيجار ثم صورتها هي وكلايد وهما يحملان سلاحا حديثا وعلى وجهيهما ابتسامة لامبالية ويظهران وكأنهما في مشهد غرام وليس شخصان تلاحقهما اجهزة الشرطة في طول الولايات المتحدة وعرضها .
لقد هيجت هذه الصور كثيرا من ردود الأفعال الضاغطة والغاضبة من اجل القاء القبض عليهما ولهذا تروي بوني في مذكراتها انه بسبب حملات الشرطة الشرسة فأنهما كانا يقطعان مئات الأميال يوميا ويتخذان الطرق البعيدة ولاينامان الا قليللا جدا وفي داخل السيارة وتظهر خارطة سير رحلتهما ابان اشتداد الطوق عليهما من ولاية كارولاينا الشمالية الى اوكلاهوما الى تنيسي الى المسيسيبي وانهما كانا يحملان معهما عشرات من لوحات تسجيل السيارات المزورة او المسروقة التي تعود لولايات مختلفة حيث كانا يحرصان على تغيير تلك اللوحات بين آونة واخرى.
يتابع الفيلم تلك المطاردة التي تستعر الى اشدها ليقودها ضابط محنك هو ايدغار هوفر يرافقه فريق محترف من المحققين ورجال الشرطة ويتوصلون الى خيوط مهمة تدل على مسار حركة بوني وكلايد وذلك في شهر مايو آيار 1933حيث يقتفون اثرهما في منتجع بعيد في ولاية ايوا ولم يكن في الحسبان ان بوني وكلايد سيكونان مصحوبان بشخصين آخرين هما ايضا مجرم ومجرمة مطلوبان العدالة وتقع المواجهة مع الشرطة لتنتهي بتمكن بوني وكلايد من الهرب رغم اصابتيهما فيما يسقط صديقهما صريعا واما زميلته فيلقى القبض عليها وتنال عقوبة السجن لعشر سنوات لكن المفارقة ان بوني وكلايد يمضيان في لعبة اثبات الذات وتحديهما الشرس للسلطات حيث يهجمان على احد السجون ويتسببان في هرب عدد من السجناء .

بعد عام كامل على تلك الواقعة يتفق بوني وكلايد مع قاتل مأجور على اللقاء في احدى ضواحي ولاية لويزيانا وتقتفي الشرطة الأثر وتتجمع لديها معلومات كافية فتنصب كمينا طوال الليل وحتى ساعات الصباح الأولى لتنتهي تلك المواجهة الشرسة بمقتل بوني وكلايد بعد اشتباك عنيف اطلقت فيه الشرطة قرابة 150 رصاصة كان نصيب بوني وكلايد 50 رصاصة لكل واحد منهما لتنتهي اسطورة ذلك الثنائي الذي هز ضمير الولايات المتحدة وسلطاتها طولا وعرضا وصارا موضوعا اثيرا في الثقافة الشعبية الأمريكية .
تميزت معالجة المخرج للأحدث بقدر كبير من التنوع في استقصاء الحقائق وتتبع الخيوط المفضية لتكوين صورة كاملة عن تلك الوقائع اذ يعج الفيلم بالوثائق المتنوعة من رسائل وقصاصات صحف فضلا عن مقابلات للعديد من الباحثين في العلم الجنائي ورجال الشرطة والنبش في ارشيف الشرطة ذاته ليقدم لنا حصيلة مشوقة من الأحداث المتلاحقة الدراماتيكية التي تكشف عن وجه آخر من وجوه الحياة الأمريكية في حقبة الكساد العظيم وتفشي الفقر والجريمة في ثلاثينيات القرن الماضي كما يقدم الفيلم شخصيتين ظلتا شغلا شاغلا للصحافة والرأي العام .
في العام 1967 يلتقط المخرج الأمريكي المعروف ارثر بن تلك القصة ويقدمهما فيلما من تمثيل وارين بيتي (بدور كلايد) و فاي دونواي (بدور فاني) ، فيلما حقق نجاحا كبيرا ونال جائزتين من جوائز الأوسكار وعد في حينه احد افضل مئة فيلم امريكي ، لكن الملفت للنظر هو ان هذا الفيلم عد نقطة تحول حقيقية في السينما الأمريكية لجهة طريقة معالجة وتقديم عنصرين مهمين في سينما هوليوود وهما (العنف والجنس) وحيث كان الفيلم جريئا بما فيه الكفاية لتناولهما وبهذا يكون هذين “المجرمين” سببا في تحول اضافي آخر وهو ولادة خط ومسار والسوب جديد في السينما الأمريكية مع ان معالجة ارثر بن خضعت لكثير من الجدل لجهة الحفاظ على صدقية الأحداث الحقيقية كما جرت .