مستويات التأسيس للفيلم الوثائقي

لقد أصبح إعلان الجزيرة الوثائقية عن كتابها السنوي فقرة قارة في مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية وهي فقرة تثري هذا المهرجان بمنتوج نقدي أكاديمي يتضافر مع المجهود الأنتاجي الإبداعي. فعلى هامش فعاليات مهرجان الجزيرة الثامن للأفلام التسجيلية أقيمت ندوة لتقديم الكتاب السنوي الثالث الذي حمل عنوان “الفيلم الوثائقي العربي..محاولة في التأسيس”. وقد  قدمه هذه السنة المخرج والأكاديمي العراقي المخضرم قيس الزبيدي. والذي كان المتابعين الأوائل لتجربة كتاب الجزيرة منذ نسخته الأولى. وقد قال في كلمته التقديمية “إن كتاب الجزيرة لم يعد مجرد كتاب للنشر وإنما أصبح مشروعا نقديا وفكريا عجزت تجارب سابقة عن تحقيقه وقد نجحت الجزيرة الوثائقية.” وقال إن “هذه التجربة انتظرناها منذ السبعينات حيث بدأ التفكير في تأسيس نظرية نقدية عربية حول الفيلم الوثائقي ولكن بقيت المجهودات فردية ومعزولة وبلا إمكانيات. وأن تضم كتب الوثائقية الثلاث أكثر من 50 اسما للنقاد والباحثين العرب يعتبر مجهودا يستدعي التوقف عنده.
وختمت الندوة التي أدارها رئيس قسم البرامج في الجزيرة الوثائقية بحفل توقيع الكتاب. حيث قام مدير قناة الجزيرة الوثائقية السيد أحمد محفوظ بتوقيع الكتاب للصحافيين ضيوف المهرجان.

وفيما يلي نضع بين يدي القراء مقدمة الكتاب لتوضيح أهم القضايا التي يطرحها في انتظار قراءته وإبداء الرأي حوله.

في حوار أجراه عدنان مدانات مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفة  يقول خليفة : “من الأخطاء الشائعة أن يقوم الفنان، إذا أراد التعبير عن البؤس، بجعل العالم كله بائسا وبزيادة بؤسه”.. هناك فرق بين واقع البؤس وصورة البؤس.. هناك مسافة بين أن تعيش البؤس واقعا وأن تعيد بناء البؤس في عالم جمالي في رحاب الصورة والتصوير.. وأي هدم لتلك المسافة يحوّلنا من صورة البؤس إلى بؤس الصورة. وبؤس الصورة هو بؤس للوعي ولمستقبل العالم الذي نراه.
إن تصوير البؤس هي اللحظة الضرورية لتجاوزه وذلك بجعله عنصرا من عناصر التجربة الجمالية والرؤية الخلاقة للعالم. أي أن لا تكون التجربة الجمالية عنصرا من الواقع البائس بل يكون البؤس حافزا للجمال.. فالصورة تعيد هدم عالم لتبني مبتغانا من العالم. أي تبني أملا في عالم من أقل بؤسا، لأنها إذ صوّرته فقد هدمته في ذهن مبدعها وفي أفق التلقي عند متقبلها. لذلك يستطرد ميشيل خليفة في الحوار المذكور قائلا :”إذا كنت سأصنع فيلما عن البؤس، سأبين الكرامة الإنسانية. البؤس موجود لكن، تبيان الكرامة الإنسانية ضمن خط البؤس الموجود”.
من ناحية أخرى فإن تصوير الواقع الجميل ليس قبولا به بالضرورة إنه تفكيك لعناصره الجميلة وتجاوز حدودها الموضوعية إلى عالم: أرحب إنه عالم الحلم. فتصوير الزهرة الجميلة في حديقة البيت ليس توقفا فقط أمام شكلها الجميل الذي يزيد البيت جمالا إنه الذهاب بعيدا في عبقها لكي تصبح كل البيوت جميلة وبنماذج أخرى من أزهار أخرى لكي نسكن البيوت ونحن مبتسمون. وهذا الذهاب نحو الأفق البعيد سيجعل من تلك الزهرة منطلقا لإمكانات جمالية لم تتحقق بعد.

الفيلم الوثائقي كتجربة إبداعية معنيٌّ – ربما أكثر من غيره-  بقيس المسافة الفاصلة بين الواقع والصورة وملئها بالرؤية وأفق الحلم. نقول ربما أكثر من غيره لأن الفكرة السائدة عنه أنه لصيق بالواقع غير بعيد عن الصورة، لاسيما عند المتلقي الذي ينتظر منه أن يرى فيه الواقع الذي يعيشه أو ينتظر أن يرى ما لم يره من الواقع ولكنه في نهاية الأمر لا يريد أن يرى الحلم إلا بالمقدار الذي يسمح به الواقع (ليس كما هو الشأن مع الفيلم الروائي الذي يتم تلقيه على أنه متخيل منذ اللحظة الأولى). البؤس في الفيلم الوثائقي هو بؤس واقعي وحقيقي عند متلقيه وأما البؤس في الفيلم الروائي فهو غير حقيقي وإن كان أكثر تعبيرا عن الحقيقة.
وكل التجارب العالمية والعربية والنظريات النقدية حول الفيلم الوثائقي لم تخرج كلها من إشكالية المسافة بين الواقع والصورة. وكل تأسيس لنظرية أو لتجربة حول الفيلم الوثائقي منذ بداية القرن العشرين لم تخرج عن الإشكاليات الأولى التي فجّرها اختراع الكاميرا لاشك أنها الإشكاليات التي اخترقت الفنون جميعها. وهي أساسا ماذا نصور؟ وكيف نصوّر؟؟ ولماذا ؟؟ واختلفت الإجابات وتباينت الرؤى والنظريات وبتباينها تأسست المدارس والتوجهات. ونحن في العالم العربي لم نكن بمعزل عن تلك الإشكاليات والتوجهات.

كتاب الوثائقية “الفيلم الوثائقي العربي : محاولة في التأسيس” يحاول أن يضع أطرا متنوعة للإشكاليات التي طرحناها. وأردنا بذلك أن نفتح آفاقا لمراجعة التجارب الوثائقية العربية من خلال بعض النماذج المعروفة والتساؤل حول كيفية تلقي مخرج الوثائقي العربي والنقاد للنظريات النقدية العالمية حول السينما الوثائقية. مع التعريج على الصعوبات التي تحول دون وجود نظرية سينمائية وثائقية في الساحة العالمية فما بالك العربية. لذلك فإن الخيط المنهجي الناظم لدراسات الكتاب هو تقييم الإرث الوثائقي في مستوييه النظري والتطبيقي ثم الانتقال إلى الآفاق النظرية والتطبيقية المفتوحة أمام التجارب العربية.
إن الحديث عن تأسيس رؤية نقدية، تمهّد لتجربة جمالية يدور في فلكها الفيلم الوثائقي العربي، يعتبر اليوم ضرورة ملحة على المشتغلين بهذا الحقل الثقافي إنتاجا ونقدا. فالفيلم الوثائقي العربي بدأ يحتل مكانة تتسع يوما بعد يوم سواء كمّيا حيث أصبح جزءا لا يتجزأ من المشهد الإعلامي والثقافي فأصبحت تختص به قنوات راهنت على مستقبله كالجزيرة الوثائقية واستقلت مهرجانات محلية ودولية بهذا النوع الوثائقي مما شجع المخرجين والمنتجين في المضي قدما في إنتاج الوثائقي. وكذلك من الناحية الكيفية حيث بدأ الوثائقي العربي يتحصل على جوائز عربية في مهرجانات عربية ودولية محترمة. بل اتخذ بعض المخرجين طريق الوثائقي كاختيار فني وجمالي لمسيرتهم. ويكتظ العالم العربي بجيل جديد من الشباب المخرجين الذين يميلون إلى الوثائقي سواء حبا وتبنيا لمشروع فني أو استسهالا للكلفة الإنتاجية. ثم جاءت الثورات العربية ليجد الوثائقي نفسه في قلب الحدث حاملا ومحمولا لحقيقة تاريخية برؤية جمالية تتسع وتضيق من فيلم لآخر. وفي كل الحالات فإن من المأمول أن هذا الإقبال سيحقق بالتراكم الكمي جودة نوعية يمكن البناء عليها.

أمام هذا المشهد لوضع الوثائقي العربي المزدهر نسبيا يأتي سؤال التأسيس كسؤال ملح على الناقد والمبعد العربي اليوم قبل غد. والكتاب الذي بين يدي القارئ، وهو الثالث في سلسلة الكتاب السنوي للجزيرة الوثائقية، يحاول أن يفتح آفاقا للسؤال والتنظير، حول إشكالية التأسيس التي يمكن إجمالها في النقاط التالية :
•  التأسيس مشروع حضاري مرتبط ببداية الوثائقي في العالم العربي حيث ارتبطت تلك الانطلاقة بأسئلة النهضة وهي كانت لحظة تأسيسية على كل الصُّعد. فمنذ بداية القرن العشرين دخلت الكاميرا إلى العالم العربي بعدما فجّر الأخوان لوميير اختراعهما وتنقلا في نفس السنة إلى العالم العربي يصوران ولأول مرة مشاهد في تونس والمغرب ومصر. لم يتخلف العرب كثيرا عن اللحظة العالمية لتأسيس السينما والتي بدأت وثائقية بامتياز. من هنا كان الباب الأول للكتاب يبحث في النشأة والبدايات من خلال أمثلة من الوطن العربي. وغاية الباب هو التأكيد على أن انطلاق الوثائقي في البلدان العربية كان ضمن انطلاق وعي عربي جديد دشنته النخب الثقافية منذ بداية القرن. وهي لحظة أفرزت السينما مثلما أفرزت المسرح والشعر الحديث وغيرها من الفنون الجدية على الثقافة العربية.. 
• التأسيس لا يكون من فراغ وإنما هو تأسيس على تجارب عربية استلهمت تجارب عالمية. وهنا تكمن الفائدة من تواصل الإبداع عبر الأجيال عندما يتعلم كل جيل ممن سبقه ويتجاوزه. فبعد استقلال الدول العربية وبداية الدولة الوطنية الحديثة كان السينمائي -والوثائقي تحديدا- منخرطا في عملية البناء للدولة وللثقافة والمجتمع. ومن هنا برزت تجارب وثائقية عربية جيدة ومعبرة عن مرحلة تأسيس النموذج المجتمعي ما بعد الاستقلال وما شاب الأنظمة والمجتمعات من تحولات وتجاوزات وهزائم وانكسارات وأمل وحلم طيلة خمسين سنة. لذلك جاءت النماذج في الباب الثاني من الكتاب متنوعة في الزمان والمكان والأجيال. وفي النهاية هي نماذج مختارة لمحاولات جدّية (وهناك نماذج أخرى لم نذكرها وتستحق الاهتمام) لتأسيس لغة سينمائية وثائقية في العالم العربي.
• التأسيس هو في نهاية الأمر صياغة نظرية مفتوحة على التطوير والنظر. لأن الإبداع إذا لم تردفه نظريات نقدية وتصويبات فكرية قد لا يتطور. لذلك حاولنا في الباب الثالث أن نسال سؤالا مهما وهو هل تمكنت الثقافة العربية من تأسيس نظرية في السينما الوثائقية؟؟ هل يمكن الحديث عن مدارس وثائقية عربية؟؟ وصعوبة هذا السؤال على السينمائي العربي قد تذللها إجابة بسيطة وتخفف الحمل عن الناقد العربي وهي أن السينما العالمية نفسها لم تستطع بلورة نظرية في الفيلم الوثائقي وإنما بلورت تجارب بقيت بمثابة المراجع القابلة للاتباع والتجاوز. ومن هنا سارت دراسات هذا الباب في اتجاه “تبيئة” (غرسها في بيئة) الأسئلة السينمائية الوثائقية العربية في المشهد النقدي العربي. وعملية “التبيئة” هي الخطوة الأولى في خطوات التأسيس النظري داخل كل ثقافة. فمن ناحية يصبح المبدع العربي مرتبطا بالأسئلة الجمالية العالمية ومنخرط في ثقافة سينمائية كونية ومن ناحية أخرى يحفّز المبدع العربي لتذليل تلك الأسئلة العالمية بمحاولات إبداعية محلية.
• التأسيس مرتبط بحالة تاريخية تستدعي النقد والبناء خاصة بعد الثورات وذلك بقراءتها جيدا. ومن الصدف الملفتة في كتابنا أننا عندما بدأنا نشتغل على مفهوم التأسيس اندلع الربيع العربي من تونس ثم مصر فليبيا واليمن وسورية.. ومرة أخرى يتصدر الوثائقي المشهد الثقافي في التوثيق لهذه اللحظة التاريخية فتم إنتاج رقم قياسي من الوثائقيات عن الثورات وخاصة الثورة المصرية. منها ما شارك في المهرجانات العالمية كفيلم “لا خوف بعد اليوم” الذي شارك في إحدى مسابقات مهرجان كان. كما احتفلت عدة مهرجانات بالثورات العربية من خلال الأفلام الوثائقية. هنا لابد من التفكير في مفهوم التأسيس من جديد بعد هذه التحولات الكبرى في السياسة والمجتمع وكان ذلك موضوع الباب الرابع من الكتاب.
• التأسيس عملية غير مكتملة هي جهد متواصل.. وهي مسار دائم مرتبط بجدلية الإبداع ونقد الإبداع لفتح الآفاق وذلك بانفتاح مجال الوثائقي على حقول الثقافة الأخرى وهذه سمة المعرفة الكونية اليوم المتأسسة على تضافر المناهج. فتطرّق الفصل الثاني من الباب الثالث إلى موضوع الوثيقة والتوثيق من خلال فيديوهات الثورات العربية محاولين التفكير في الآفاق الممكنة أمام المشتغل بالمجال الوثائقي العربي. وقد أتحنا الفرصة لباحثين من مجالات مختلفة من العلوم الإنسانية والفلسفة ومن خارج ميدان السينما للإدلاء بدلوهم في مضوع الصورة ورمزياتها ودورها في اللحظات التاريخية الحاسمة من خلال موضوع توثيق الثورات العربية.

لا يدعي هذا الكتاب وضعه لنظرية مكتملة لتأسيس ثقافة وثائقية عربية، ولكنه سعى إلى أن يحيل على أهم الإشكاليات المرتبطة بهذا الموضوع أمام شح الكتب النظرية العربية المتخصصة في الوثائقي. لتظل هذه المحاولة اجتهادا في إرساء ثقافة نظرية وثائقية يساهم فيها باحثون ونقاد عرب مأخوذين بنفس الهم التأسيسي الذي يحمله الكتاب.


إعلان