معرض “الدعاية السياسية” في مركز سرفانتس بالرباط
تأثير الريبورتاج الوثائقي والأفيش السينمائي على فن الدعاية
علي البزّاز
الأفكار الحديثة تتطلب شكلاً بصرياً يحتوي ما تهدف اليه، وما تروّج له. فلم تعد الدعاية تقتصر على جمل أدبية أو كلمات منمّقة، بل تستفيد الدعاية السياسية والتجارية والأدبية حتى، من الصورة السينمائية التي تخضع بدورها إلى التطور الزمني في تقنياتها؛ من الأفيش السينمائي وصور مقدمات الأفلام، مروراً بالريبورتاج الوثائقي، إلى نظام الصورة ثلاثية الابعاد .تسود السينما ووسائلها معرض” الدعاية السياسية ” من 1976- 2011 المقام في مركز سرفانتس بمدينة الرباط المغربية. تُركّز الملصقات السياسية في العام 1976 على العبارات والجمل من دون الاهتمام بفن الصورة، إذ شهد العام ذاك بداية التحولات الديمقراطية بعد رحيل فرانكو. يسود الكلام من دون الصورة في جلّ ملصقات الفترة تلك، ما يشير إلى ملاحظات عدّة منها:
1 . توق الفنان والمجتمع إلى التعبير الأدبي، بعد كبت سياسي واجتماعي نتيجة حكم الجنرال فرانكو. ولذا تكتنز ملصقات تلك الفترة بالجمل والعبارات التي تتوجه إلى الناخب الأسباني. وكأن وسيلة التعبير حينذاك أدبية مباشرة.
2. تشير ملصقات العام 1976 إلى سوسيولوجية الفن بامتياز. فهي المعبّرة عن نهاية و بداية مرحلة سياسية، تتسم بفرض قيود على حرية التعبير. فمن الطبيعي طغيان التعبير الأدبي محاكياً شغف المواطن بالكلام الممنوع سياسياً.
3. تشي الملصقات بأن وسائل التعبير السياسي والاجتماعي لها توّجه مباشر، يتفق مع عقلية الناخب الإسباني الثورية وقتذاك، فهي لم تستعمل الصورة البصرية مقتفية السينما الواقعية الإيطالية أيضاً التي تصور بؤس المجتمعات بعيداً من البذخ في استعمال ثراء الصورة. تقشّف بصري.
تتغير منذ بداية الثمانينيات أساليب الدعاية السياسية، تبعاً لتطور السينما وتقنياتها، فتشهد الملصقات السياسية والاجتماعية والتسويقية، احتواء الصورة السينمائية مستفيدة من الأفيش السينمائي الذي هو في الأصل نوع من الدعاية الفنية. ثمة استفادة واضحة من تطور وسائط التعبير السينمائي التي تعتمد الصورة البصرية في أفلام فيليني وبازوليني وتاركوفسكي. وهكذا يتجه فن الدعاية مباشرة إلى الصورة محاكياً السينما، في ثراء بصري وزهد في العبارات والجمل.
يتابع معرض”الدعاية السياسية” 35 عاماً من وسائل التعبير السياسسي في أكبر حقبة ديمقراطية تعيشها إسبانيا بعد الإصلاح السياسي، من مكاسبها حقّ الاقتراع المباشر والتصويت على القوانين في المؤسسات الوطنية والدستور، وحقّ التصويت على الدستور الإسباني العام 1978. وهكذا نتابع تطور الصورة البصرية السينمائية من خلال ملصقات الحملات الإنتخابية، التي تسلط الضوء على تطور الذوق الشعبي، وازدهار حساسية المواطن الإسباني تجاه الفن السينمائي بشكل خاص، والفن عموماً. أي الفن التشكيلي والتأليف الأدبي. يتابع المعرض تباين النظرة الفنية للأحزاب المشاركة في الإنتخابات، من نظرة سطحية مباشرة إلى أخرى فنية تراعي الصورة التي لها جاذبية الذاكرة إسوة بأبيات الشعر الخالدة. وهكذا يختلف التعبير البصري في ملصقات حزب إتحاد الوسط الديقراطي عن الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العماليّ. ثمة ملصقات لرؤوساء حكومات ومرشحين من أمثال: أدولف سواريث، فيليبي غونثاليث، خوسيه ماريا أثنار ولمثقفين وكتاب؛ غابريل ثيلايا ورفائيل البرتي.
في البدء كانت الصورة
ثمة رأي يقول أن صور الملاحم الإنسانية على جدران المعابد هي بداية الصورة البصرية، وهي المدخل إلى الصورة السينمائية الحديثة بعد التطور التكنلوجي، وهذا الموضوع يذهب اليه مباشرة فيلم”الكتابة الأولى”، الذي عرضته قناة الجزيرة:
يعرض الفيلم لويحاً سومرياً أسمه “كوشي” العام 3300 قبل الميلاد، وهو أول نظام للكتابة المقطعية البصرية. في الجزء العلوي منه تفاصيل صفقة تجارية وعقد بين طرفين: أحدهم يعيرُ شخصاً ما 135 ألف لتراً لمدة 37 شهراً من مادة الحنطة أو الشعير التي رُمز اليها بسنبلة. دونت تفاصيل العقد بالصورة تماماً من دون الكلام، بمعنى أن الكتابة المسمارية تحقّق الصورة التي نسميها اليوم لغة السينما.

الأختام السومرية تندرج ضمن فن الدعاية، أكانت سياسية أو اجتماعية، وهي تعتمد الصورة في تعبيراتها إسوة باللقى والشارات الأثرية والمسكوكات النقدية. إن الصورة هي قبْلية، ربما قبل نظام الكتابة. كما تشير الشارات المعدنية إلى حضورها المتزامن مع التعبير السياسي الذي شهد ذروته خلال الحقبة السوفيتية في صور لينين والعلم السوفيتي. تسود الشارات السياسية، تسمى “أدوات الترويج الأنتخابي” في معرض” الدعاية السياسية”، محاكية النموذج السوفيتي في السبعينيات الثورية، ثم تفترق عنه بسبب تطور الصورة في وعي المواطن وفي وعي شركات الإعلان، فتصبح الشارة المعدنية على شكل قلم وحاملة مفاتيح تستبطن أفكار وتوجهات الناخبين، بعدما كانت منافض السجائر والولاعات هي السائدة بصرياً. لم تفترق الدعاية السياسية منذ الثمانينيات عن السينما، فأصبحت تستعمل وسائلها التقنية والتعبيرية، في ترسيخ الريبورتاج الوثائقي كمادة إنتخابية دعاية. وفعلاً ثمة عرض فيديو لبعض الحملات الإنتخابية في المعرض. ما يشير إلى قوة حضور السينما في الحياة السياسية والاجتماعية.
وليس بعيداً عن السينما، الاستعانة بالتصوير الفوتغرافي في الملصق الدعائي، الذي هو قرين التعبير البصري.
تستحوذ السينما على الدعاية من جانب الصورة وتساهم في ازدهارها: من الخطابة الأدبية ذات التوّجة الأحادي الذي يتبنى الإنشاء الأدبي إلى الخطاب البصري ذي الوسائل الفنية المتعدّدة، تحتوي التأليف الأدبي والتشكيل والفوتوغراف. يستفيد ملصق الدعاية من أسلوب الكولاج التشكيلي المزدان بالجمل وبالصورة الفوتوغرافية في وحدة بصرية جامعة لكل هذه الفنون تراعي حضور الصورة داخل فضاء الملصق. دخلَ الكولاج في المنمنمات الفارسية والتركية كدعاية ثقافية، اذ بدأ هذا الفن العام 1703 مستعملاً بعض الآيات القرآنية والأبيات الشعرية من خلال التذهيب والقص واللصق، ثم تطور لاحقاً أوربياً في اتجاهات البوستر السياسي. لكنه ظل محصوراً بنظام التعبير الأدبي. تلقفت الحركة التجريدية نظام الكولاج، بتعزيز اللوحة بمواد الخشب والحديد والنسيج. أمّا ملصق الدعاية الراهن، فهو ليس محاكاة الفن السينمائي فحسب، بل أصبح فناً بصرياً يخضع إلى شروط الفيلم السينمائي من ناحية المونتاج والتصوير.