خطوة جديدة … في اللقاءات الدولية للوثائقي بفاس

أحمد بوغابة

تقع مدينة فاس في وسط المغرب، وهي مدينة عتيقة جدا، وتُعد من أكبر المدن المغربية حيث تحتل حاليا المرتبة الثالثة، مساحة وسكانا، وعرفت إبان مراحل عدة من تاريخها نهضة ثقافية بمختلف تجلياتها الفكرية والفنية والسوسيولوجية. 
فهي أول مدينة مغربية اهتمت بالفيلم الوثائقي واحتضنته ودافعت عنه كجنس سينمائي يستحق المشاهدة والمتابعة والنقاش وذلك قبل ستة سنوات، ولم تخلف الموعد مع الجمهور المحلي والوطني والدولي منذ انطلاق الدورة الأولى سنة 2007، والتزمت التظاهرة دائما بالجديد من الإنتاج السنوي فبنت مع جمهورها تاريخا مشتركا، ينتظرها الجميع ويعمل معها الجميع.
بعد تجربة غنية استغرقت خمس سنوات، وتراكمت لصالحها إيجابيات كثيرة حيث نجحت في زرع وترسيخ الفيلم الوثائقي في المشهد الثقافي للمدينة، انتقلت التظاهرة لمرحلة جديدة في دورتها الحالية، وهي الدورة السادسة، بتعديل في نعتها حيث انطلقت في البداية باسم “أسبوع الفيلم الوثائقي” ليصبح من الدورة الحالية “اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بفاس”. فضلا على ذلك، فقد انتقل إلى قاعة السينما “ريكس” وبذلك يأخذ الفيلم الوثائقي حقه الطبيعي ومكانه العادي كفيلم سينمائي. كما أصبح يتضمن محورا رئيسيا لعروض أفلامه كعمود فقري له إلى جانب عروض أخرى لا تخرج عن إطاره العام.

                                   الملصق الرئيسي للمهرجان

تنطلق الدورة السادسة يوم السبت 28 أبريل وتستمر إلى غاية يوم 4 مايو 2012 بإدارة جديدة أيضا سواء بمدير المعهد الفرنسي الجديد السيد فيليب لالو Philippe Laleu الذي عبر صراحة عن استعداده لدعم الفيلم الوثائقي والرقي بالتظاهرة منذ وطأت رجليه مدينة فاس وعين مندوبين للإشراف عليها وهما ستيفان سارازان وأحمد بوغابة.
وعليه، فإن الدورة الحالية (السادسة) تُنظم بمدير جديد ومندوبين جديدين وستتم العروض لأول مرة بقاعة سينمائية، وأن يكون لكل دورة موضوعا للأفلام المُبرمجة، فضلا عن ندوة رئيسية ثقافية وتثقيفية إلى جانب درس سينمائي سنوي، يُقدمه هذه السنة المخرج اللبناني غالب سلهب الذي ستعرض له بعض أفلامه وبحضوره. كما ستعرف هذه الدورة انفتاحا جديدا لمحيطها حيث ستنتقل إلى فضاءات التعليم ككلية العلوم التي سيلتقي فيها المخرج غالب سلهب مع الطلبة. وأيضا إلى مدينة إيموزار الجميلة والقريبة من فاس (أقل من 30 كيلومتر) وذلك بشراكة مع ناديها السينمائي المتميز والفعال في الثقافة السينمائية المحلية بعرض أفلام طيلة اليومين (الأحد 29 والإثنين 30 أبريل 2012).

المغرب يفتتح اللقاءات…

سيتم افتتاح اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بفاس يوم السبت 28 أبريل في الساعة السادسة مساء بفيلمين مغربيين:
الأول قصير بعنوان “الهارب” لعلي الصافي والذي يعود إلى سنوات الرصاص بخلفية الربيع العربي مسجلا أن ما يحصل الآن له امتدادات في التاريخ. فقد اختار المخرج علي الصافي الاعتماد فقط على صوت عبد العزيز الطريبق كشخصية تشكل العمود الفقري لفيلمه، الذي يربط به تاريخ هذه الشخصية، من خلال مسار صوره الشخصية التي يضعها في سياقها التاريخي الموازي للمرحلة التي يتحدث عنها وهي مرحلة السبعينات، بأفلامها وموسيقاها وأغانيها في أكبر مدينة مغربية وهي الدار البيضاء التي اختفى فيها “البطل” من عيون البوليس ومراقبتهم. ومن خلاله يناقش فكر سياسيا الذي كان يتبناه “البطل”. فيلم يتحدث عن النضال والديمقراطية والاعتقال والسجن والحرمان والكرامة والحرية في زمن جد مكثف للغاية، أقل من نصف ساعة.
أما الفيلم الثاني فهو للمخرج حكيم بلعباس بعنوان “أشلاء” الحائز على الجائزة الكبرى/الأولى بالمهرجان الوطني للفيلم بطنجة سنة 2011. تكمن القيمة الفنية لهذا الفيلم في كونه يتحدث عن الذات (ذات المخرج) من خلال ذوات الآخرين التي تجمعه بهم علاقة حميمية كأسرته وعائلته وأصدقائه، أو عاطفية تُجاه عينة من أفراد مجتمعه الذي يفلح في تصويرهم بعين فنية، ليس لإثارة العطف تُجاههم، وإنما للتساؤل عن أسباب ما جرى ويجري بدون خطاب مباشر بقدر ما يترك للمشاهد حق الرأي والتدخل في ما يشاهده لمعرفة جوانب الخلل، وذلك في تنسيق تام بينه هو كسينمائي وصاحب الكاميرا أثناء عملية التصوير ومرجعياته السينمائية الأكاديمية من جهة وبين أفراد أسرته وفي مقدمته والده كعنصر محوري في صيرورة الفيلم من جهة ثانية. وبين ذاته كصاحب رؤية وسلطة الصورة. فبقدر ما يثير الآخرين يقوم في ذات الوقت بقراءة لتجربته وكأنه يمارس أحيانا نقدا ذاتيا دون أن يعترف به مباشرة أو ينفيه. ويظهر ذلك جليا في حواراته مع أخواته وإخوته وخاصة والده حيث هو حوار يجمع بين الأجيال في اختلافهم واحترامهم حينا. وبين الأب وإبنه تارة أخرى يحمل عتابا عاطفيا.
فيلم “أشلاء” لحكيم بلعباس هو تشكيل لمجموعة من صور ولقطات ومشاهد وأصوات وعلامات وإشارات في قالب فني خضع لكتابة سينمائية قبل تصويرها وأثناءها وبعدها، في المونطاج، بصياغة ذكية تجعلك تدخل إلى عوالمه الداخلية والتعمق فيها وكأنه يتعرى أمامنا بدون تحفظ  حتى نفهم أفلامه بشكل أوضح. إنها جرأة وشجاعة أكثر من العري الجسدي العادي.
فيلم مغربي آخر يشارك في هذه اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بفاس والذي سيتم عرضه في اليوم الموالي للافتتاح، يعني يوم الأحد 29 أبريل، بعنوان “أرضي” لنبيل عيوش الذي حصل على عدد من الجوائز في المغرب وخارجه. إن هذه التجربة في الفيلم الوثائقي لمخرج كان يركز أكثر على الأفلام الروائية هو أيضا فيلم عن الذات من خلال الآخرين. وهو أيضا استعمل الذكاء الفني والفكري ليناقش تاريخه الشخصي بقضية مُعقدة تلعب فيها جميع أقطار العالم لعبتها التي تناسبها حسب الظروف السياسية والاقتصادية والجغرافية، وهي فلسطين.

يبدأ الفيلم منذ صوره الأولى بتقديم المخرج لحالته المدنية بكونه مغربي ازداد بباريس من أب مغربي مُسلم وأم يهودية الديانة من خلال صوت خارجي يشق طريقا نحو البحث عن فهم لإشكالية لم يفهمها طيلة حياته ��لحاصلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهو الذي كان يقاطعهم الأخيرين ويرفض دعواتهم للمشاركة في التظاهرات السينمائية لأنه يرفض استيطان إسرائيل أرض غيرهم.
إن المخرج، الذي عاش ويعيش بين هويتين غالبا ما كان يتغاضى عنها لأنه غير معني بها مباشرة، أراد بعد نضجه الفكري والجسدي أن يفهم حيثياتها، لذا حمل كاميراته متوجها إلى لبنان في بادئ الأمر حيث صور مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من أراضيهم بعد سنة 1948، وقضوا أزيد من 60 سنة في المنفى في وضعية مزرية يأملون بالعودة إلى الوطن الذي اغتصب منهم. كثيرا منهم مازالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم. وشباب من أبنائهم وُلدوا في المنفى لا يعرفون مصيرهم. الأمل بالعودة في حياة الشتات هي نوع من انقسام في الذات وغياب الدائم للاستقرار الذي تحول إلى جزء من الحياة. ثم انتقل المخرج أيضا إلى فلسطين المحتلة ليلتقي بمختلف الأجيال من الإسرائيليين. وقد إلتجأ إلى مواجهتهم ببعضهم دون أن يلتقوا مباشرة (بين الفلسطينيين والإسرائيليين) بل من خلال مقاطع من التسجيلات التي كان يعرضها بالحاسوب على الإسرائيليين ليجيبوا عن “أمل الفلسطينيين” وشكواهم من نزع أراضيهم هم الذين كانوا قبلهم بقُرون فيها. منهم من يرفض عودة الفلسطينيين رفضا قاطعا، ومنهم من يقول باستحالة العيش بينهما، ومنهم من يعتقد بدولة واحدة تجمع الشعبين، ومن يقترح الحل هو دولتين، وهناك طبعا من يتطرف في دعواته بالحرب مع العرب أجمعين، ومنهم من ينتقد دولة إسرائيل التي يعيش فيها ويعتبرها دولة قمعية لأنها ترفض استقبال الفلسطينيين ويرفضون التوسع الحالي ببناء المستوطنات. أراء من هنا وأخرى من هناك. أراء متعددة ليست لها علاقة بالسن أو الجيل أو من الذين جاؤوا من أوروبا أو العالم العربي أو من الذين وُلدوا هناك. فكل جهة تعتبر فلسطين “أرضها” وكل واحد يقول هذه “أرضي”. إن ذكاء الفيلم يكمن في محاولة فهم إسرائيل من الداخل والمعاناة الفلسطينية في مأساتها الدرامية.
وفي نفس الإطار سيتم عرض الفيلم البلجيكي “أحرار في سجن غزة” للمخرجين كريس دون هوند وميريل كورت وهو إنتاج لهذه السنة. يتطرق الفيلم للمقابلات التي أجراها مع بعض السجناء الفلسطينيين الذين تم إطلاق سراحهم مقابل الجندي الإسرائيلي جيلاد شاليط. لقد كان عدد السجناء الفلسطينيين الذين تم إطلاق سراحهم مقابل الجندي الوحيد هو 1028. ولكي يلتقي بهم المخرج في غزة اضطر لعبور أحد أنفاق معبر رفح سرا وهناك تحدث السجناء عن معاناتهم في سجون إسرائيل.

يتضمن جزء كبير من برنامج اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بفاس أفلاما مباشرة حول “الربيع العربي” منها فيلم “ساحة التحرير” للمخرج الإيطالي ستيفانو سافونا، الذي يتابع فيه وقائع ساحة التحرير في مصر، في جزئياتها وتفاصيلها منذ الساعات الأولى من اندلاع الثورة في مصر والتجمعات بساحة التحرير. كما يحضر أيضا الفيلم المصري “ممنوع” للمخرجة الشابة، المتميزة حقا، أمل رمسيس، والتي كانت تصور فيلمها خلسة في شوارع مصر بدون رخصة أو إذن مسبق للسلطات. تتحدث المخرجة مع مواطنيها حول الممنوعات التي تثقل أكتاف ورؤوس المصريين. هذه المغامرة التي أقدمت عليها المخرجة الشابة في وقت كان فيه كل شيء ممنوع في مصر جد خطيرة عليها لو تم ضبطها حينها إلا أن صدفة التاريخ كانت لصالحها حيث اندلعت الثورة حين انتهت من التصوير وشرعت في المونتاج كأنه – أي فيلمها – جاء كتتويج لذلك فأخذ الفيلم بعدا تاريخيا أو كنبوءة للثورة. بمعنى أن أسباب الثورة موجودة في فيلمها. إن الفيلم يجعلنا نفهم لماذا انتفض المصريون وثاروا.
وإلى جانب مصر تحضر تونس بفيلم “فلاقة” للمخرج الشاب رفيق عمراني الذي يتحدث عن الاعتصامات التي قادها مجموعة كبيرة من الشباب التونسي من مختلف المدن في القصبة بالعاصمة ومقاومتهم للسلطة وأيضا للإعلام المضلل وذلك بعد نجاح الثورة مما يفسر أن الثورة لا تنتهي بانتهاء سقوط الحاكم وإنما بنظام الذي يستمر في “المقاومة” بأشكال جديدة.            

حضور الجزيرة الوثائقية…

وتفرض مناسبة “الربيع العربي” باختيار مجموعة من الأفلام التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية لمناقشتها حتى تكتمل الرؤية عند المشاهد العام والمتخصص خاصة وأن عدد لا باس به من الأجانب يرغبون في مشاهدة هذه الظاهرة برؤية أصحابها ومن داخلها. الأفلام المبرمجة قد أنجزها مخرجون من نفس الأقطار التي عاشت ثورتها، من تونس وليبيا ومصر.
ومن المقرر، بهذه المناسبة أيضا، أن يتم تقديم الكتب الصادرة عن القناة حول الفيلم الوثائقي والقراءة فيها للتعريف بها نظرا لفقر الساحة العربية من الإصدارات التي تعنى بالفيلم الوثائقي وحيثياته الفكرية والنقدية. لقد أصبح للقناة تقليد سنوي بإصدارها كتابا كل عام يحتوي على مجموعة من النصوص والبحوث التي تكون قد نشرتها من قبل في موقعها الإلكتروني ضمن محاور محددة. تكمن أهمية فقرة اللقاء حول الإصدارات في ضرورة نشر الوعي بالمواكبة النقدية والدراسات العلمية كوجه آخر للثقافة السينمائية.
وامتدادا لهذا التعريف ستعرف اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بفاس عقد مائدة مستديرة حول “الفيلم الوثائقي/ الروبورتاج: ما هو الفرق بينهما؟” بمشاركة السينمائيين والمنتجين الحاضرين والمدعوين وكافة المهتمين التي ستنعقد بالمركز الفرنسي للمدينة يوم الأربعاء 2 مايو في الساعة الثالثة بعد الزوال.

   
ولا بد من الإشارة كما سبق القول في بداية هذا النص أن ظاهرة “الربيع العربي” سبقتها أحداث سينمائية بأفلام معبرة على إرهاصاتها حيث تم اختيار بعضا منها مثل الفيلم الجزائري الذي يتحدث عن الجيل الشباب من السينمائيين الجزائريين الذي يعطي نفسا جديدا لهذه السينما ويناقش العراقيل التي تعترضه والتي تتضاعف حين تكون المخرجة فتاة شابة. ومخرجته هي شابة فعلا  وترعرعت في الفضاء السينمائي إنها منيا مدور، إبنة المخرج الجزائري الراحل عز الدين مدور. ونجد كذلك الفيلم الوثائقي الفرنسي “أكتوبر في باريس” للمخرج جاك بانجيل ومن إنتاج سنة 1964، وقد مُنع الفيلم من العرض في فرنسا نفسها لمدة تزيد على 10 سنوات ليُعرض بعد ذلك مرة واحدة حين أقدم المخرج روني فوتيي على إضراب للطعام تضامنا مع صاحبه حتى يتوقف هذا الحجز السياسي على الفيلم. ثم عاد إلى الظل من جديد حتى السنة الماضية، في عروض خاصة بمناسبة 50 سنة على استقلال الجزائر. ويتعرض الفيلم للقمع الوحشي التي تعرضت له مسيرة سلمية للجزائريين المقيمين في باريس على إثر منعهم من التجول في المساء وذلك سنة 1961. فيلم له أكثر من دلالة في التاريخ الحالي. ويحتوي البرنامج على غيرها من الأفلام التي تدور حول الموضوع الرئيسي للملتقى.

إذا كانت هذه اللقاءات قد افتتحت بأفلام المخرجين المغاربة فإن حفل الاختتام يوم الجمعة 4 مايو سيتم فيه تكريم المخرج الفرنسي جان بول فارجيي بعرض فيلمين له وهما “يوم بعد يوم” وكذا الفيلم الذي يلتقي فيه كل من السينمائي جان لوك غودار والكاتب فيليب سوليرس للحديث عن فلسفة السينما والصورة والكتابة والسرد.  
                 


إعلان