الأزهر .. الجامع والسلسلة 1/2
نهضة وثائقية .. ومؤسسة وسيطة
أسامة صفار
مائة عام من اجمالي أكثر من ألف عام قد تكون هي مفتاح المؤسسة – اللغز التي يجلها المسلمون في شتي بقاع العالم .. مائة عام توقفت خلالها المؤسسة عن العلم وعن الصلاة ..هي ما نستطيع من خلاله طرح نموذج تفسيري للأزهر الشريف بدوره العملاق في نفوس المصريين ودوره الممتد عبر آفاق افريقيا والعالم الاسلامي شرقه وغربه وعلاقته المدهشة والمراوغة والمناورة والحائرة مع كل سلطة صادف التاريخ أن كانت تقبع فوق قلبه بتنويعاتها وأطيافها بدءا من بانيه جوهر الصقلي ومرورا بالمماليك والعثمانيين ونابليون وسلطة العسكر بعد انقلاب يوليو ومن ثم عبد الناصر والسادات ومبارك .
لكن ما ينبغي التطرق اليه أولا هو تلك الملحمية الرائعة التي حشدت لصناعة عمل توثيقي متميز صورة وبناء وإيقاعا فالرباعية الوثائقية نجحت في تحويل الأمر داخل ذهنية المتلقي إلي دراما ملحمية حقيقية ومنذ اللحظة الأولي بغرائبية وغموض المشهد الذي يؤرخ لنهاية حكم ابن طولون يقفز المشاهد إلى داخل الكادر قابعا في ركن خاص داخل الأزهر ليرقب ما جاد به الزمان على المؤسسة – البطل
في سلسلة “الأزهر” بأجزائها الأربعة يتجرأ المخرج عبد الرحمن عادل وفريق عمله على كسر العلاقة الصلبة بين ما هو روائي وما هو توثيقي على مستوي الصورة وعلى مستوى التلقي فثمة تشويق وتفاعل حقيقي يجعل من تفسير هذه العلاقة، دراما تستحق المتابعة
ولعله أول فيلم وثائقي يصبح “للتمثيل” دور فيه حيث جسدت حركة الممثلين في الدوكيودراما الحالة ومن ثم جاء المعادل السمعي (التعليق الصوتي) ليخبر عنها بأقل القليل ورغم زوايا التصوير المعبرة والحركة والوقفة داخل الكادر الا أن نظرات الممثلين كانت في الكثير من الأحيان شمعية جامدة لم تعبر عن المعني المتجلي في الحالة أو الوارد في التعليق الصوتي خاصة أن “سلسلة الأزهر ” من الوثائقيات النادرة التي تحتوي على تعليق صوتي والتي تنتجها الجزيرة الوثائقية وقد جاء مكثفا في ألفاظه وموحيا وشاعريا الى حد كبير ولعل العناوين الأربعة لأجزاء السلسلة تشي مع المحتوي برؤية جعلت من الأزهر ركيزة لنهضة حقيقية فضلا عن بطولة تاريخية تجلت دائما في مقاومة المستعمر والحفاظ على الهوية الاسلامية للمجتمع وفي الجزء الأول المعنون ب ” الخوذة والعمامة ” وتناول نشأة الأزهر، الجامع والجامعة، منذ عهد الدولة الفاطمية، ثم عهد الدولة الأيوبية والمملوكية، والتحول الجوهري الذى شهده الأزهر من مركز للدعوة والتعليم الشيعي إلى منارة للتعليم الديني السُني، ثم الأزهر والدولة العثمانية انتهاء بالاحتلال الفرنسي لمصر ثم يتناول الجزء الثاني تاريخ الأزهر منذ الاحتلال الفرنسي لمصر، عبر حبكة درامية لارتباط الأزهر بتلك الأحداث، وبنوع من التفصيل تتناول تاريخ الأزهر أيام محمد علي، ودوره في تقويض الأزهر بعد تزعم الأزهر الحركة الشعبية، فضلا على تعرضها لمشروع الشيخ حسن العطار الإصلاحي أما الجزء الثالث فيستعرض فترة الخديوي إسماعيل، لارتباط عهده بميلاد الحركة الإصلاحية الجديدة إثر وصول الأفغاني إلى مصر، يتناول حركة الشيخ الإمام محمد عبده الإصلاحية وأثرها وما خلفته من تلاميذ أثروا الحياة الفكرية والسياسية داخل الأزهر ومصر، وكذلك يتناول بعض المشروعات ذات الجذور الأزهرية، وكان للأزهر موقفا منها مثل الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين، كما تشمل تلك الفترة مشروعات الظواهري والمراغي والإصلاحات التي قاما بها، التي يرجع الفضل إليها في تأسيس الأزهر في شكله الحديث.

(المنتج المنفذ) وعبد الرحمان عادل (المخرج)
في احتفال بسلسلة الأزهر في مهرجان الجزيرة الأخير
وفي جزئها الأخير ترصد “سلسلة الأزهر ” إثر ثورة 1952 على الأزهر، من خلال عمليات التطويع السياسي للأزهر الذى مارسته السلطة، ومشروع الشيخ محمود شلتوت التجديدى، وحركة التقريب يبن السنة والشيعة، التي كانت قد بدأت قبل الثورة، ويتناول كذلك الأزهر وعلاقته باتفاقية كامب ديفيد ، واحتلال سيناء انتهاء بثورة 25 يناير ودور علماء وطلاب الأزهر فيها .
وقد جاءت مصادر العمل -المتحدثون في الفيلم- في أغلبها من مؤسسة الأزهر الشريف ومن مختلف الأجيال باستثناء الجزء الرابع والأخير الذي بدا وكأنه قرر فتح الأفق على المجتمع المصري بكامله أملا في شرعية جديدة من مثقفي مصر للأزهر باعتباره يصلح لدور طالما افتقدته الأمة عبر حقبة بدأت بالتقزيم الناصري له .
ولعل ما أصدره علماء الأزهر عبر مقولاتهم داخل السلسلة يؤكد على شعورهم جميعا دون استثناء ب “محنة ” تعيشها المؤسسة الرائدة منذ ثورة يوليو بعد صدور قانون الأزهر وتحوله من مؤسسة مستقلة بأوقافها وأموالها إلى مؤسسة تابعة للدولة ماليا وسياسيا وإداريا عبر تعيين رئيس الجمهورية لشيخ الأزهر ووكيله فضلا عن تعيين الثورة لوزير لشئون الأزهر كان يرأس الامام الأكبر نفسه وانطلاقا من هذه المحنة تحديدا يطمح الأزهريون إلي التحرر من قبضة الدولة نحو أفق أكثر رحابة يستعيد به الأزهر أمجاده ودوره كحامل للواء الاسلام المعتدل في العالم وكجامعة للعلوم الشرعية والانسانية ينهل منها العالم الاسلامي … ولكن متي كان الأزهر مستقلا..؟؟
رغم اختيار هذه السلسلة لأجزاء محددة وأحداث محددة قصدت منها تشكيل صورة للمؤسسة الأزهرية بل والتفسير انطلاقا منها، إلا أن الأحداث ذاتها تؤكد على أن فكرة استقلال الأزهر واضطلاعه بدور نهضوي فكرتان منفصلتان تماما وإن اتفقتا زمنيا ..
والشاهد أن كل مؤسسة تحمل ثقافة نشأتها في داخلها دائما ومؤسسة الأزهر لم يكن الهدف من انشائها اقامة نهضة حضارية اسلامية أو منحها راية تحملها لتسير بها قدما إلي الأمام ويتبعها أمة بكاملها لكن أنشائها جاء بقرار سياسي من أجل التوسع في نشر المذهب الشيعي في مصر السنية وهو ما تحقق في قرنين كاملين وأصبح الأزهر مركزا للحركة الشيعية الاسماعيلية في العالم الاسلامي وبقرار سياسي جديد بعد سقوط الدولة الفاطمية في مصر أغلقت أبواب الأزهر بناء على فتوي نستطيع أن نصفها ببساطة أنها سياسية دينية وجاءت فتوي أخري بعد ما يقرب من مائة عام لتقام الصلاة في المسجد المهجور بقرار من الظاهر بيبرس الذي شاء أن يقوم له الأزهر بالدور نفسه الذي قام به للحكام الفاطميين في مصر والدولة كلها وازدهر الأزهر ونهض طبقا لقرار ورغبة حاكم مصر في توظيفه سياسيا وجاء نابليون بينما كان الأزهر يقوم بهذا الدور واستطاع أن يستقطب بعضا من مشايخه بينما فضل البعض الاخر الانحياز لاستقلال مصر عن الفرنسيين .. أنها المواقف نفسها التي يمكن أن تنطبق على باقي المؤسسات في المجتمع فضلا عن مجموع المجتمع نفسه .. فما الذي يمكن أن يصبح ميزة نوعية للأزهر في هذه الحالة ؟ .. أغلب الظن أنه المؤسسة الوحيدة في ذلك الوقت التي كان يمكن لها أن تجمع بسطاء الناس وعلمائهم بحكامهم أي المؤسسة الوسيطة والتي أراد لها المماليك أن تقوم بدور اسفنجي يمتص غضب الشعب ويحتمل سوءات الحاكم أحيانا ليصل بين الاثنين وتستقر الأمور ضمن اصلاحات لا تتطور لثورة .
وتكرر الأمر مع الازدهار والنهضة في عصر الدولة العثمانية التي أرادت أيضا أن تستخدم المؤسسة الدينية الأكثر انتشارا واحتراما في المجتمع وجاء اهمال محمد على باشا للأزهر ليكون محطة ركود الي أن عاد الجامع والجامعة مرة أخري الي الواجهة حيث أرادت ثورة يوليو أن تجعل المؤسسة الوسيطة بينها وبين الشعب بكل فئاته فأضافت الدراسة العلمية التجريبية وجعلت منه تحت ادارتها تماما وبشكل قانوني صريح وهذا هو الفارق بين الثورة كسلطة وما سبقها من حكام جعلوا منه تحت سلطتهم بشكل غير صريح .
اعتمدت الرؤية المطروحة في السلسلة الوثائقية على ثنائية الأزهر – السلطة لتدور في فلكها ولتكن لعبة الكراسي الموسيقية هي المعتمدة لدي الطرفين للسيطرة على مقاليد الأمور وبينما تتكئ السلطة على قوتها وشرعية دينية أو وراثية من عائلة ملكية فان الأزهر اعتمد على شرعية دينية مجتمعية محدودة بطلابه ومجاوريه من الحرفيين وهو ما قد يجعلها رؤية صائبة لفترة زمنية ارتبطت بعدم وجود وسائل اعلام ومناطق قوة أخري في المجتمع قد تصبح عوامل فارقة فيما لو فكر أحد الحكام في استعادة الدور التاريخي ( المتخيل ) للأزهر .