قراءة في جوائز مهرجان الخليج السينمائي الخامس 1/2
حين يصير الاطفال : السرد والحبكة والحكاية
رامي عبد الرازق – دبي
من بين 155 فيلما عرضت خلال الدورة الخامسة لمهرجان الخليج السينمائي حالفني الحظ بمشاهدة ما يقرب من 140 فيلما من افلام هذه الدورة المميزة في مختلف البرامج التي تنوعت ما بين مسابقات الافلام الخليجية الطويلة والقصيرة والمسابقة الخليجية لأفلام الطلبة القصيرة ومسابقة الأفلام الدولية إلى جانب الاختيارات الرسمية خارج المسابقة في برامج اضواء وتقاطعات.
ومن بين ال155 فيلما فاز 21 فيلما بمجموع جوائز نصف مليون درهم حيث فازت عدة افلام بأكثر من جائزة مثل الفيلم العراقي “حلبجة”الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الأفلام الطويلة وجائزة افضل مخرج”أكرم حيدو”, ومثل الفيلم الكويتي”اليس في بلاد العجائب”الفائز بجائزة أفضل مخرج”دانة المعجل”وجائزة لجنة التحكيم الخاصة, والفيلم العراقي”بايسكل”الفائز بجائزة افضل سيناريو وأفضل فيلم قصير وكلا الفيلمين في مسابقة الأفلام الخليجية القصيرة.
الطفولة غلاف أم توجه
على غلاف الكتالوج الخاص بهذه الدورة ثمة صورة لطفلين يبدوان كمن يلعبا لعبة “الأستغماية/الغميضة” ذكر وأنثى – ادم وحواء في طورهم المعنوي- داخل ممرات منطقة البستيكة التراثية التي تقع في مدينة دبي.
للوهلة الاولى يبدو الغلاف نازعا نحو المحلية التي هي أحد التوجهات الأساسية للمهرجان فهو قبل اي اطار دولي مهرجان قومي/وطني لحركة السينما في منطقة الخليج ويبدو الطفلين هنا صورة رمزية لمستقبل هذه السينما الوليدة التي تجتاز طور التكوين إلى التشكل والنمو المطرد بأتجاه اعتبارها محصلة سردية هامة لقراءة جزء من الوجدان الجمعي للمنطقة.
وللوهلة الثانية يتداعي مع صورة الغلاف شعار هذه الدورة (عرفت شيئا وغابت عنك اشياء) حيث فكرة البحث عن المختبئ في الغميضة وحالة التشوف ونشوة الأكتشاف التي تشيع في الحركة السينمائية الخليجية التي تتشكل بالتدريج وعبر تجارب ومغامرات سينمائيين يجتاز اغلبهم العتبات الأولى لهذا العالم الساحر القديم.

ان السينما الخليجية في أحد مستويات قراءتها اشبه بطفل يخطو خطواته الأولى فوق ارض السينما الرحيبة ومثل اي طفل لا يزال أمامه الكثير لتعلمه ولأكتشافه والكثير لتجربته او بمعنى اخر في مقابل الشئ الذي عرفه ثمة اشياء كثيرة لا تزال غائبة عنه ولكن كلما تراكمت التجارب الفيلمية عاما بعد عام كلما ذاد ونما وعرف.
اما على مستوى برامج المهرجان “الدولية” فثمة شعور بأن الدورة الخامسة احضرت بعض افلام/اطفال العالم لمشاركة “أطفال الأفلام الخليجية” العابهم السينمائية فمن بين 15 فيلما في مسابقة الأفلام الدولية على سبيل المثال ثمة خمسة افلام تتمحور حول شخصيات اطفال او يلعب فيها الأطفال الدور الاساسي أو يمثلون الثقل الشعوري للدراما والحبكة.
وهي افلام”الحاضنة”النمساوي و”الحساب”المصري الحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة, و”الرجل الخارق”الروماني, و”صوت المطر”الأيراني الفائز بأحسن فيلم قصير و”المصنع” البرازيلي الفائزة بالجائزة الثانية.
وثمة خمسة افلام أخرى تتحدث عن شخصيات في طور الطفولة النفسية او المعنوية أو الفكرية هي”تحليق”السويسري الذي يدور حول زوجان يقضيان يوما باكلمه مع ابنهم المصاب بالتوحد قبل ان يذهب إلى المصح العلاجي لكنه يقرر التحليق بعيدا مع الصقر الذي يربوه في المنزل, وفيلم”لا اعرف سوى البحر”الامريكي حول زوجين ايضا يقضيان الأيام الأخيرة مع ابنتهم المصابة في حادث خطير على وشك الموت فيعيد إليهم موت ابنتهم اكتشاف تاريخ علاقتهم عبر الثمرة التي جمعتهم وفرقتهم ذات يوم وفيلم”الفنار”الاذربيجاني الذي يقدم لنا بورتريه عن ثلاثة ايام في حياة اب يعمل مديرا لفنار منعزل وهو يحاول أن يعالج ابنه المدمن عبر علاقة جدلية تحتشتد بمشاعر متناقضة وعنيفة, وفيلم”النور يا نور”اللبناني الذي يقدم لنا حالة شابة تستعيد من خلال جهاز مشغل صوتي صغير ذكريات طفولتها مع الحرب الاهلية في لبنان من خلال اصوات وملامح كل الذين فقدتهم اثناء الحرب وكأن ذاكرتها اصبحت صندوق اسود خرجت منه ذات لحظة الطفلة التي عاشت ويلات الفقدان والقهر الانساني, واخيرا فيلم”زهور جليدية” البوسني الذي يقدم علاقة شديدة الغرابة ما بين شاب صغير وأمراة تعاني من الزهايمير وتنتظر أبنها الغائب فيما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية حيث يتبادل الشاب والمراة ادوار الامومة والطفولة بينما يقضي معها اسبوع كامل للأعتناء بها مقابل حصوله على بعض المال.
وتجدر الأشارة إلى ان احد برامج المهرجان الرسمية هذا العام برنامج سينما الاطفال الذي عرض تسعة افلام دولية ما بين الروائي والتحريك.
أطفال المسابقة الدولية
في المسابقة الدولية تطالعنا أفلام “المصنع”البرازيلي في الجائزة الثانية الذي يروي موقفا شديد القوة حول جده تقوم بتهريب تليفون محمول لأبنها في السجن من أجل أن يتحدث مع ابنته الصغيرة في عيد ميلادها معتذرا لها عن تغيبه عن الحضور لأنه في”المصنع” ورغم ان الطفلة الصغيرة لا تظهر سوى في نهاية الفيلم من خلال مشهد عيد ميلادها المتواضع إل أن الثقل الدرامي كله يتبلور عند هذه الذروة المفاجئة خاصة أننا نتصور بعد عملية متابعة اخفاء الهاتف المحمول واستماتة الشاب المسجون في الحصول عليه من المرحاض واتصاله برجل اسود مقبض الملامح نتصور أننا امام عملية ترتيب لهروب الشاب أو جريمة جديدة بحكم كونه في السجن لكننا نكتشف ان كل هذه الرحلة التي قطعها الهاتف من فرج المرأة العجوز إلى بالعوة المرحاض إلى اذن الشاب لم تكن سوى للأتصال بطفلته الصغيرة.
وفكرة اخفاء المرأة عجوز الهاتف في فرجها ذات دلالة انسانية عميقة لا تكتمل سوى بمشهد النهاية فحجم التقزز أو النفور مما تفعله هذه المرأة والشعور بأنها مشتركة في جريمة ما بأخفاء الهاتف يزول بمجرد أن نعلم سبب تهريب الهاتف لأبنها في السجن ويتخذ فرجها هنا تلك الدلالة السسيولوجية الخاصة بكونه منبت الأطفال و”مصنع” الحياة فكما اخرجت ابنها من هذا الفرج ذات يوم ها ي تخرج له الهاتف الذي يحادث منه ابنته وكأنها تخرج له ابنته/حفيدتها من فرجها.
الحساب”هات و خد”
اما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فذهبت للفيلم المصري”الحساب”إخراج عمر خالد والذي يشكل فيه طفل في المرحلة الأبتدائية محور البناء الفكري حيث أن كلمة”الحساب”تخرج من دلالة حصة الرياضيات/الحساب التي يتلقى فيها هذا الطفل عقابا مؤلما على يد معلمه الشرس/المقهور إلى فكرة”الحساب”بالمفهوم المادي والمعنوي فالمدرس الذي يعمل في نفس الوقت سائق تاكسي يتعرض لضغوط اجتماعية قاهرة من قبل الشرطة الفاسدة التي تتحيز لشاب يصدمه بسيارته لمجرد أن لديه علاقات ذوي النفوذ ويتقطاع مصير سائق التاكسي في محاسبته على خطأ لم يرتكبه مع خط العاهرة التي يجب أن تدفع الحساب الاجتماعي المفروض عليها لكل من أمين الشرطة الذي يقبض عليها من أجل ممارسة الجنس الفموي معها او صاحب البيت الذي هو في نفس الوقت والد الطفل والذي يمارس معها التحسيس والخيابة الجنسية في مقابل ايجار الغرفة الحقيرة التي تعيش فيها.
كل شخصيات الفيلم تقريبا عليها ان تأخذ”حسابها/ نصيبها المادي والمعنوي”من شخصيات اخرى و تدفع حسابها/حصتها في القهر الأجتماعي لشخصيات أو افكار أو قوى قهرية اخرى فالطفل يأخذ نصيبه من ابيه الفقير في شكل مصروف وغذاء ويذهب إلى المدرسة كي يتلقى عقابا على عدم حفظه جدول الضرب لأنه يعيش في ظروف سيئة تمنعه من المذاكرة أو التركيز والمدرس يأخذ نصييبه من الطفل في شكل عقاب عنيف بينما يدفع حسابه إلى امين الشرطة في تعرضه للمهانة وسحب رخصه والعاهرة تأخذ نصيبها من الشاب الخليجي الذي يمارس معها الجنس في السيارة ثم تدفعه في شكل اتاوة جنسية لأمين الشرطة وصاحب الغرفة.
ومن خلال عينا الطفل الذي يتلصص على ابيه وهو يأخذ الحساب من الفتاة العاهرة نكتشف سر قراره بأن يتلقى العقاب في اليوم التالي على يد المدرس دون أن يقاوم او يعترض كما في المرة الاولى فهي دائرة جهنمية من القهر والظلم والفقر والفساد الاجتماعي والنفسي والأخلاقي لن تنتهي بحفظه جدول الضرب.

لكن في رأيي ان مشكلة هذا الفيلم والتي ربما لم تؤهله سوى للحصول على جائزة لجنة التحكيم الخاصة هي اسلوبه السردي القائم على تكسير الزمن بشكل مبالغ فيه وهي مراهقة سردية اضرت كثيرا بحجم الطاقة والشحنة الأنفعالية التي كان من الممكن أن تولدها احداث الفيلم, وكما يقول ماركيز عندما يكون لديك قصة جيدة فتجنب تعقيدها وحاول أن ترويها ببساطة, أم محاولة المخرج ان يقدم شكل سردي مختلف لم تتسق مع جوهر موضوعه القائم على فكرة”هات وخد” وتكسير الزمن في هذا النوع من الأفلام ذات العلاقات الجدلية يشتت ذهن المتلقي ويفقده الكثير من سعيه وراء تشرب الحبكة ومحاولة المخرج أن يجبر المتلقي على لعب “البازل” السينمائي من خلال اعادة ترتيب المشاهد في ذهنه كي يلتقط فكرة الحساب المتبادل جاءت في غير مكانها الصحيح.
صوت المطر وغراب قابيل
اما الطفل في الفيلم الأيراني”صوت المطر” للمخرج جلال سعيد فهو طفل استثنائي بكل المقاييس ليس فقط على مستوى التشوه الشكلي الذي يبدو أن المخرج اختار طفلا مشوها خلقيا طبيعيا وليس تشوه ايهامي بالمكياج ولكن ايضا على مستوى الحالة الذهنية التي يمثلها هذا الطفل ولا نقصد بها حالة الأعاقة الذهنية أو شبه الأعاقة الذهنية ولكن ذلك الباب الذي يفتح في ذهن المتلقي كما الشباك الذي تفر منه الطيور في الفيلم من تاجر الطيور الجلف.
يدور الفيلم بأكلمه فوق سطح احد البيوت حيث رجل يربي انواع غالية من الطيور ويحفظها في اقفاص خشنة وحقيرة ويعيش بشكل متوحد ومنعزل لا يخترق عزلته سوى طفل متخلف عقليا يأتي كي يشاكسه في براءة محاولا ان يجعل الرجل يريه كيف يصنع قفصا بينما الرجل لا يطيقه ويصر على مطاردته بشكل مستمر طاردا ايه من فوق السطح.
فجأة يستيقظ الرجل ذات يوم ليجد نفسه حبيس حجرته وليس من احدا يمكن أن ينجده سوى الطفل المتخلف الصغير.
هنا يرتفع الفيلم فوق سخرية الموقف إلى افق التأويل الوجودي والأنساني, فالطفل الصغير المشوه المتخلف عقليا يتحول تدريجيا إلى ما يشبه غراب قابيل الذي علمه كيف يدراي سوءة أخيه, فالطفل لا يستجيب بسهولة لرغبة الرجل في ان يفتح له الباب بسبب ان الرجل طالما طرده وطارده وهدده بالضرب والعقاب, هنا يحاول الرجل ان يستميل الطفل بلا فائدة وللمرة الاولى يشعر بسوءته أن يكون حبيسا مثل الطيور التي يصنع الأقفاص ليحبسها فيها, وتتحول الغرفة بصريا ودراميا بحكم الأقفاص المعلقة فيها والتي نراها من زاوية منخفضة واسعة من دخالها تشعرنا بحجم الحبسة التي يعاني منها الرجل حيث تضعه الكاميرا هنا في موقف الطير الحبيس, ويصبح امله الوحيد أن يوافق الطفل

المتخلف على اطلاق سراحه, يتخذ تخلف الطفل هنا دلالة مختلفة فهو يمثل البراءة المطلقة والشعور الخام الذي لا تحكمه ارادة عقلية منطقية اما الحكمة التي ينقلها هذا الغراب الطفولي لأبن الأنسان فهي قيمة الحياة نفسها, قيمة الحرية, الشعور بالأخر حتى لو كان طيرا اخرسا انها قيمة وجودية راقية وشديدة الحساسية والقوة, فالطفل الصغير بكل عفويته يطلب من الرجل أن يمنحه عصفورا كي يضعه في القفص البدائي الذي صنعه محاكاة لأقفاص الرجل وبالطبع في مرة يضع عصفورا في قفصه البسيط يطير العصفور ويصرخ الرجل حسرة ��لى عصافيره التي تهرب واحدة وراء الأخر بينما الطفل مصر على ان يضع عصفورا في قفصه البدائي, من زواية كاميرا منخفضة ايضا خارج الغرفة نرى الرجل ينظر من الشباك الصغير على العالم الخارجي حيث الطفل يملك كل شئ وهو لا يقدر أن يغادر و من شباك الغرفة الأخر تشرع بقية العصافير في الهرب فالحياة التي يتصور الانسان انه يملكها و يتحكم فيها يمكن أن تنطلق من مجرد فتحة صغيرة لا يملك هو أن يخرج منها للحياة!
وفي النهاية عندما تكون كل العصافير قد هربت ويأس الرجل من اطلاق صراحة يسقط نائما ولا يستيقظ سوى ليلا على صوت المطر الذي أخيرا يأتي بعد ان تحررت الحياة مكن يؤطرها ويحول دون ممارسة الكائنات حريتها راضيا بالعزلة والنفور والوجه الحزين.
…. يتبع