تناص سينمائي في فيلمين عن الأطفال الأفغان

 قوة الأمل من يبقيهم أسوياء في عالم غير سوّي!

قيس قاسم ـ السويد
بَيْنَ الفيلمين الوثائقيين “البحث عن علي” للسويدي بول هولندر و”الصبي مير: عشر سنوات في أفغانستان” للمخرج الإنكليزي فْيل جرابسكي تناص سينمائي، يدعو للدهشة، لكونهما عالجا موضوعاً واحداً، وبإسلوب يكاد يكون متشابهاً وبرؤية إخراجية متقاربة والأكثر مثاراً للإستغراب ان مخرجيه عايشا شخصياتهم المحورية مدداً طويلة قاربت العقد من الزمن. عايشا خلالها مراحل انتقال صَبيين أفغانيين من الطفولة حتى بلوغهما سن الرشد، وفي مكانيّن مختلفيّن من وطنهما!. والتناص كمصطلح نقدي لايعني الإقتباس والنسخ، بقدر ما يبحث في أوجه التقارب والإختلاف في التفاصيل، ومن بينها ان زمن انتاج الفيلم السويدي سبق الإنكليزي، والفارق الإجتماعي بين علي ومير كبير جداً، فالأول من عائلة ميسورة الحال، نسبياً، ويعمل في التجارة أما الثاني فكان فقيراً، معدماً بكل ما للكلمة من معنى. 
المشترك الأكبر بينهما إنهما، وفي ظل أوضاع غاية في القسوة تعيشها أفغانستان، لا يجد المرء فيها أي بارقة أمل للخروج من  النفق المظلم، الذي دخلته منذ إستلام حركة “طالبان” قيادتها وحتى بعد سقوطها ودخول الأمريكان اليها، وجدا أملاً في عودة الحياة السوية ثانية اليها أو على الأقل الأمل في أن يحقق بعض أطفالها أحلامهم البسيطة والمشروعة. قوة الأمل هي من يدفع الناس لتحمل قسوة الحياة ومخاطرها، وفي الفيلمين  يبدو هذا جلياً، وأكثر تجسيداً في الوثائقي الجديد “الصبي مير: عشر سنوات في أفغانستان”.

يوضح جرابسكي لمُشاهده الأسباب التي دفعته للذهاب الى أفغانستان، في محاولة تمهيدية منه لشرح ظروف العلاقة الناشئة بينه ك”مخرج” وبين الصبي مير ك”نموذج”. من بين أقوى الأسباب، كما جاء في الوثائقي نفسه، كانت الصور المنقولة عبر وسائل الإعلام لتفجير تمثال بوذا، في منطقة باميان الأفغانية عام 2001، والتي شاهدها جرابسكي وظلت عالقة في ذهنه، وبعد أشهر قليلة على سقوط حكم “طالبان”، تَحَفز السينمائي للذهاب الى هناك ليسجل المُتغيّرات المنتظرة بعد 30 عاماً من سيطرة قوى لم تجلب للبلاد والعباد سوى القتل والدمار. ووفق سيناريوه المكتوب على الورق أراد العثور على “شخوص” حية لفيلمه تجسد التحول الحاصل في الأنسان الأفغاني. في أول يوم لتصويره موقع تمثال بوذا  المُفجر، ظهر في أحدى اللقطات جزء من وجه طفل إرتسمت على محياه ابتسامة جسدت كل معاني البراءة الصادقة. هذا الصبي ذو الثماني سنوات كان إسمه: مير. ومن هنا، وتحديدا في العام 2002، بدأت فكرة عمل فيلم تسجيلي يواكب مراحل عيشه حتى بلوغه سن النضج بدلاً من أخذ نماذج “جاهزة” قد تقلل من مصداقية وقيمة الشريط. لقد تطلب هذا الإختيار العمل على المشروع عشر سنوات كاملة، سُجلت خلالها المُتغيّرات التي حصلت على الصبي مير والعالم المحيط به، فلقد أراده جرابسكي هكذا، فيلماً عن طفل عادي يعيش في ظروف غير عادية، إطلاقاً.
قوة الفيلم في الصدمة التي يحدثها فينا. فبعد عشرات سنوات، عدا التحولات البايولوجية عند مير، لم يحدث أي تغيير  في حياة الأفغان يذكر، سوى  القليل. فحياة مير وعائلته ظلت على بؤسها ولم يحصلوا من الأمريكان وحكوماتهم المحلية التي أعقبت طالبان سوى وعود لم تغنيهم عن جوعهم الحقيقي. لقد جاعوا طويلاً وسكنوا في الحفر والمغارات المجاورة لتمثال بوذا التي جاءوا اليها هرباً من بؤس ما وصلت اليه أوضاع قراهم في شمال البلاد تحت حكم “طالبان”، والأدهى أن الفقر نفسه أجبرهم ثانية للعودة اليها، ففي المكانين بؤس وجوع. رصده للحياة اليومية في القرية الأفغانية كشفت لنا واقعاً مخيفاً، محزناً، يدعوك للتساؤال عن معنى العيش فيها، إذا كانت بهذا المستوى من الدونية، لكنه في ذات الوقت يدعونا لفتح أفواهنا إندهاشاً من قوة الأمل والرغبة في مواصلة الحياة على ما فيها. فمير ومنذ صغره كان يحلم أن يصبح مديراً لمدرسة أو رئيساً للبلاد. ترى من أين يأتيه هذا الكم من الأمل في صحراء شاسعة من العوز. ومن أين لهذا الصبي الروح المنفتحة، المبتسم دوماً الضاحك من قلبه رغم شقاءه؟ قوة الأمل يشعها في المكان الذي يحيا فيه، رغم ثقل السنوات التي تضعفه يوماً بعد يوم. فالمدرسة التي يريد انهائها لا يستطيع مواصلة الدوام فيها، بسبب مشاركته والده العمل في الزراعة وفي حرث الأرض والعمل في مناجم الفحم. كل هذا العمل لا يوفر لهم مسكناً آدمياً، فينامون في أكواخ تسمى جزافاً بيوتاً ويقيمون وقت الحرث في مغارات وسط الجبال، قوتهم اليومي فيها لا يزيد عن قدح شاي ورغيف خبز ناشف، لكن قوة الحياة هي ما أراد صاحب الفيلم الاهتمام بها، فهي النادرة والمثيرة للأسئلة الوجودية أكثر من فقر الفلاحين في العالم، لهذا حرص كثيراً على تسجيل لحظات السعادة في حياة الصبي على قلتها. سجل فرحته  حين اشترى أول دراجة هوائية له من دخله الخاص في المنجم، وكيف استدان من معارفه وأقربائه مالاً ليقتني دراجة نارية بسيطة، فالسعادات الصغيرة لا تغيب عن حياة الطفل أو المراهق مير، مثله مثل كل الأطفال الفقراء في العالم، تراهم يجدون لأنفسهم دوماً فسحة من الفرح رغم فقرهم، فهي من يحمي سويتهم وتبعد عنهم أشباح الشر.

في واحدة من تجليات طيبة الكائن المنعزل في بقعة جغرافية لا يربطها بالعالم سوى وسائل اتصال بسيطة، نجدها في رفض مير، وقد أصبح يافعاً، التطوع في الجيش الأفغاني رغم مغرياته. لقد شعر فطرياً أن هذا العمل قد يُميته أو يُصيبه بعجز يقعده عن العمل ومساعدة أهله المحتاجين اليه. لقد أراد البقاء في القرية والدراسة رغم كل الصعاب وبحسه البسيط، النقي، رفض وجود القوات الأجنبية على أرض بلاده وأرادهم الرحيل عنها سلمياً، فهم لايجلبون لقريته شيئاً سوى وعود وخدمات تافهة. من أين يأتي الوعي لهذا الصبي وسط أمية سائدة؟ هل هي الغريزة والإحساس الفطري بالخطر، والتمييز بين الخير والشر؟ كل هذة الأسئلة يمليها علينا الصبي الأفغاني وفي كل مرحلة من مراحل نموه وتضعنا في حيرة وعجز عن فهم الإنسان، ومصدر قوته الداخلية، بل وتدعونا للتفكير عميقاً في العالم المحيط بنا والبحث عن أكثر المناطق إشراقاً فيها كما فعل الوثائقي: “الصبي مير: عشر سنوات في أفغانستان” وقبله “البحث عن علي” فهو مثله ذهب في البحث عن المشرق في النفس الآدمية وحب الحياة رغم قساوتها غير العادية.  


إعلان