مقاربة سيميائية لصورة من أرشيف الثورة التونسية
كانت الثورة التونسيّة مدار مقاربات متعدّدة الخلفيات والمناهج توزّعت بين السّياسي والاقتصاديّ والسّوسيولوجيّ وبين التاريخي والنفسيّ والتفكيكيّ.. ولكن على الرغم من أنّها تعتبر الثّورة الأولى في التاريخ التي يتمّ توثيق كامل مراحلها بصريّا، بفضل انتشار المحاميل الرّقمية وشبكات التواصل الاجتماعي ورغم أنّها الثّورة الأولى التي تدين بالفضل إلى الصورة، ظلت الهوّة عميقة بينها وبين الدراسات السّيميائيّة التّداوليّة التي تتقصى بلاغة الصورة وسبل إحالتها على تفاصيل خارج نصيّة مستمدّة من الشارع _ميدان الثّورة _ وما يتضمّن من علامات دالّة، خاصّة أنّ الصّورة، بشكل ما إيقاف لسيرورة الزّمن يخوّل للنّاظر تسليط مجهره عند لحظة بعينها وأنّ المعاني سائبة ضمن كتاب الوجود ملقاة على طريقه لا تفتأ تدعو المرء إلى قراءتها.
لقد شكّلت هذه المعطيات حافزا لنا لنرحل عبر صورة من صور الثورة التقطت بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة لنستدعي لحظة من لحظاتها ونجوس في تشكيلها ونحاول من خلالها أن نتقصّى شيئا من احتمالات معانيها ضمن مقاربة سيميائية أوّلا: تبحث في العلامات وما فيها من الرّوابط الدّاخليّة وما تشتمل عليه من سيرورات دلاليّة لا تنفكّ تنفتح على سيرورات جديدة، تداوليّة ثانيا تعمل على إعادة بناء الحالات الخارجيّة المؤثرة في تشكيل الخطاب فتتّخذ سياقات نشأته سبيلا لفهم مقاصده التّداوليّة ووجهات القول فيه وتعمل على ضبط دور المتقبّل من خلال تقترح عليه من مواقع للإبصار أو ما تفرض عليه من العمليات الاستدلاليّة.
هي صورة مركّبة تضم، من بين مكوّناتها صورة للرئيس السّابق، من بين تلك التي تعتمد ضمن إستراتيجيته الدعائيّة، ومشهدا من مشاهد الثّورة. وحتى نفكّك مختلف روابطها الدّاخليّة سنبحث في مكوّناتها بين واجهة (1er plan) حيث صورة الرّئيس السّابق وخلفيّة (3éme plan) تضمّ الجماهير المنتفضة ثمّ نبحث في مختلف عناصر التفاعل المخصب بين المكوّنين.
I) في الواجهة:
تمثّل الواجهة ضربا من ضروب التأطير داخل الإطار، بحيث يشتمل على مجموع ينزع إلى الاستقلال عن مجمل تكوين الصورة من ناحية وفي الآن ذاته ينخرط ضمن هذا التّكوين ليغيّر من دلالته فيعيد قراءتها ضمن معطيات جديدة أو يتأثر به باعتباره سياقا خارج نصيّ يوجّه مؤثّرات معانيه نحو آفاق جديدة. تكاد هذه الواجهة تختصّ بصورة دعائية للرئيس السّابق “زين العابدين بن علي” تستغرق الإطار كلّه فتتوزّع على مختلف أثلاثه ضمن تكوين متوسط يختصّ بعرض تفاعل الموضوع المصوّر مع الفضاء، فعلا فيه أو تأثرا به وخضوعا له. ولئن جاءت هذه الصورة ثابتة فإنّها تكتسب حركتها من عمل المتقبّل على ملء فراغاتها وتلوين بياضاتها. فتكتسب في حالنا ذات سمة وصفيّة فلا تنمو، من بداية إلى وسط إلى نهاية شأن الحركة ذات السّمة السّرديّة، وإنما تمنح الفعل اسمرارا وديمومة يستغرقان الزمن ولا يتحوّلان بتحوله.
تتضمّن الصوّرة خطوطا وهمية عمودية وأفقيّة توجه الإدراك إلى مواطن القوّة منها فتشغل القامة المنتصبة الخطّ العموديّ الأول ويخترقها الخطّ الأفقي الأول على مستوى العينين. فيشكّل نقطة ذهبيّة تشدّ إلى التّحديق في البعيد بوثوق ونفاذ وتجعله واليدَ على خط أفقي واحد. فيتّجه إلى الجماهير ويجعل مدار الحركة على رئيس يحيي شعبه، ورغم ثباته، ينقلع منه شيء فيتّجه صوب هذه الجماهير ليبادلها شوقا بشوق وعشقا بعشق في فيض عاطفة و”في كنف النخوة والاعتزاز”.
لنا أن نصنّف هذا الفعل في الفضاء إذن، بكونه فعلا عاطفيّا بالأساس. ولعلّ ورودُ الصورة المتوسطة ضمن خلفية فارغة أن يدعم استنتاجنا هذا. ففراغ الخلفيّة يولّد صورة سائلة تدفع باهتمام المتقبّل إلى تمليّ ملامح الشخصيّة والبحث عن المؤثر العاطفي منها، ضمن قراءة انفعاليّة. وليس في الملامح غير نعومة ونظرة ثاقبة تشيعان تصميم الشخصية وثقتها بنفسها. ولعلّ الملابس الرّسمية والشعر الفاحم الذي يتباين عميقا مع الخلفيّة فيمنح انطباعا بالشباب الخالد للرئيس الأبديّ، أن يدعما هذه الثّقة.
تكشف النظرة، في بعد من أبعادها، تطلّعا للأفق واستشرافا للمستقبل. فالسّمة الوصفية من الصّورة وما تشيع من الرّتابة النّاشئة عن تماثل البداية بالوسط بالنهاية تجعل المتقبّل الضمنيّ يقدّر أنّ الغد وجه من وجوه اليوم وتقليب لنجاحاته على أصل واحد.
لا يتمثّل المتقبّل الصّورة ما لم يتبنّ زاوية نظر المصوّر ويحل افتراضيّا في موضعه فيصادق على إدراكه البصريّ. ولا يتوقّع منظور الشّخصيّة المصوّرة وكيفية انفعالها بما ترى ما لم يتسلّل إلى باطنها ويتبنّ، وإن إلى حين، وجهة نظرها بصريّا وذهنيّا.
وهكذا يكون المتقبّل أمام وضعيّة مفارقة. فهو في الآن ذاته أمام الصورة وداخلها. فيحلّ، ضمن عمليّة تماه بالشخصية، محل زين العابدين نفسه فينظر، حيث ينظر هو، إلى الشّعب الذي يبادله التّحية والحب وإلى المستقبل الباسم. يجعل هذا الحلول إذن (المتفرّج / المواطن) أمام ضرب من القدريّة والحتم. فلا خلاص له من هذا الرّئيس الأبدي ولا سبيل لرؤية المستقبل بغير روحه هو وفكره هو.
في حقيقة الصّورة لا وجود لهذا الشعب إلاّ في محلّ الافتراض ضمن الفراغ وخارج الإطار. فالسّمة النرجسية للرّئيس تجعله يحتل الفضاء كلّه وتلغي كلّ من يحيط به فلا تبقي سواه ذاتا مطلقة، ماثلة هناك أبدا، بحيث لا تجوع ولا تعطش ولا تأخذها سنة ولا نوم كالإله تماما أو تجعله أبا يراقب الجميع وتجعل المجتمع أبويّا لا قوام له في غير تراتبيّة تتدرّج من المهيمن إلى الخاضع. وخلف هذا التواصل النّاعم بين الأب القائد والشعب المحبّ تضحي النّظرة أداة للرؤية الكلّية. فتراقب الأبناء لتصونهم من الزيغ والضلال وتستبق تورطهم في العصيان والخروج عن الطّاعة وتقدّم العقاب الأخلاقي ضدّ كلّ أشكال انحرافهم “السّياسيّ” وتحوّل الرّئيس، بالنّتيجة، إلى سجّان وتجعل من حضوره في الشارع آلية ضبط للسلوك السّياسي حتى يتوافق مع المؤمل.
نكتشف إذن أن الوضعية الإدراكيّة على قدر من التعقيد. فنحن بين وضعيّة أولى يتولى فيها المارة النّظر إلى الرّئيس، ولكنها وضعيّة مخادعة غير مقصودة بذاتها، ووضعية ثانية مقصودة تذكّر المارة باستمرار أن عيني الرّئيس لا تغفل أبدا عن مراقبة الشعب وإحصاء حركاته. وهذا ما يستدعي عمليّة “الفحص” التي يتحدّث عنها فوكو في أثره “المراقبة والمعقابة” . فضمنها يكون المنظور إليه/ الشعب، موضوعا للنّظر وشيئا تجري مراقبته ومعاقبته عند الضرورة. وبقدر ما يتماهى النّاظر مع شخصية الرّئيس، فيرى بعينيه تعلّق الشعب به وعرفانه بفضله، يتماهى في الآن نفسه، مع شخصيّة السّجان منه. فيكون ناظرا ومنظورا ويكون سجّانا يسجن نفسه بنفسه ويخلق بإدراكه هذا آلية مراقبة ذاتيّة.