” كان”السينمائي فجر اليوم الأول بعد الحرب
محمد رُضا
إذ ينطلق مهرجان “كان” هذه الأيام في دورة تحمل الرقم 65 فإن الحاصل هو استمرار بليغ لحالة من الاحتفاء بالسينما من أيام ما كانت لا تزال منضوية على أساليب عمل تنفيذية للنص، مروراً بتحوّلها إلى تعبير عن رأي ورؤية المخرج، وصولاً إلى ما هي عليه اليوم من مزيج من التطوّرات في المناهج كما في الأفكار.
الواقع هو أنه إذا ما وضع المرء أفلام مهرجان “كان” في مختلف فئاتها وعروضها على نحو متراص من العام 1939، وهو العام الذي حاول فيه أن يولد للمرّة الأولى لكنه ووجه باندلاع الحرب العالمية الثانية ما أجهض المحاولة، إلى اليوم لوجد أشبه بمفكّرة ذات صعد ومستويات كثيرة : هي تأريخ للعالم، وتأريخ للسينما وتأريخ للمواهب التي مرّت بها كتابة وإنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً الخ…
إذاً في العام 1939 حط السينمائيون الرحال في هذا المضرب الساحلي الصغير ليكتشفوا في اليوم الثاني أنه تم إلغاء المهرجان إثر قيام القوّات الألمانية، مدعومة بالقوات السلو?اكية، بغزو بولندا الأمر الذي نتج عنها إعلان فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا في الثالث من أيلول، سبتمبر، بعد يومين على انطلاقة الدورة الأولى.
المهرجان لم يستعيد محاولة الولادة الا سنة 1946 بعد انتهاء تلك الحرب الضروس، فإذا به يعرض نحو 22 فيلماً ويوزّع جوائزه على إحدى عشر منها. منذ ذلك الحين، ومع اختلاف الظروف العالمية إنتاجاً وتوزيعاً وإعلاماً، تبوّأت جوائز مهرجان “كان” السينمائي نقطة عالية من الاهتمام، ثم ارتفعت أكثر في الستينات لتشكّل وجه الاحتفالات السينمائية بأسرها.
إنه، وبسبب هذا التطوّر المتعدد والقيمة المتزايدة لسعفة المهرجان السينمائي، قد يكون مفيداً التذكير بجوائز تلك الدورة الأولى (رسمياً)، أي دورة 1946 خصوصاً وأن المهرجان في ذلك العام عكس، على نحو ملحوظ، الحرب التي انتهت في أكثر من عمل.
أول هذه الأعمال كان شريط روبرتو روسيلليني «روما مدينة مفتوحة» (من إنتاج 1945) وأولويّته تعود إلى أنه وحيد الأفلام الآيلة للذكر هنا الذي لا يزال أكثر شهرة وانتشاراً بين أفلام ذلك الحين وحتى اليوم. مناهض للنازية والمتعاملين الإيطاليين معها من اليوم الأول لاندحار ذلك التحالف لدرجة أن المخرج انطلق للتصوير من قبل تأمين الفيلم الخام ومع ممثلين لم يسبق لكثيرين منهم الوقوف أمام الكاميرا من قبل. هذا فرض أساساً بصرياً حاداً وغير مجذّب التوليف او الظهور، لكن هذا بالتحديد ما جعل الفيلم لافتاً وما جعل المخرج صاحب مدرسة الواقعية الجديدة من دون ريب.

فيلم آخر من نتاجات الحرب التي انتهت هو «معركة خطوط القطار» للفرنسي رنيه كليمان. يتحدّث عن بذل المقاومين الفرنسيين ضد الاحتلال موظّـفاً أسلوب سرد روائي مبني على معالجة فنية تسجيلية، شيء بكر مما اشتغل في إطاره الإيطالي جيلو بونتيكور?و في «معركة الجزائر» (1966). ليست هناك بطولة لفرد او أفراد ولا حكايات شخصية، بل عرض لكيف أسهم موظّفو وعمّـال سكّـة الحديد في المقاومة ضد الجيش النازي بادئاً بمشاهد مقاومة صغيرة مثل تعطيل محرّك او صنع ثقوب في خزنة الزيت، وصولاً إلى معارك فعلية بين المقاومين والجيش النازي ينجل عن قتلى من الطرفين في مشهد طويل أُحسِـن توليفه.
أيضاً نجد بين أفلام العام 1946 الفائزة بالسعفة «الفرصة الأخيرة» للسويسري ليوبولد لنتبيرغ الذي تناول حكاية قسيس في بلدة إيطالية يخاطر بسلامته لأجل مساعدة هاربين إليه من وطأة النازية. هذا الفيلم سبق كل الأعمال الحديثة التي تناولت إيجاباً شخصيات دينية مسيحية تساعد اليهود على الهرب والنجاة من نكبات النازية، والتي توسّطـها، كتاريخ إنتاج، «قائمة شيندلر» [ستيفن سبيلبرغ- 1993].
هذا الفيلم سيكون اكتشافاً مهمّـاً لكل من يسعى للتفتيش عنه ومشاهدته، وذلك بسبب صياغته الفكرية والفنية معاً. ففي ذروته، يدعو الفيلم إلى السلام ملاحظاً أن المجموعة تختلف في الهويات والمشارب والعناصر لكنها متّحدة في مشاعرها المعادية للعنصرية. وفي منخفضاته، يبدو الفيلم راغباً في توزيع التحيات الطيّبة على جميع العناصر والحذر من لوم فريق معيّن. حتى الجنود الألمان هم دائماً على بعد يتحرّكون في لقطات بعيدة معبّرين عن سياسة مفروضة وليس عن وجود فردي الصفات. في مجمله عمل إيجابي يمكن ضمّـه إلى سينما الهولوكوست إنما من دون الكثير من العاطفية الساذجة التي غلبت على معظمها لاحقاً. النيّـة هنا هي في الحديث عن الخيارات الأخلاقية في أوقات المحنة. الجنود الثلاثة كان يمكن لهم الانطلاق منفردين لتأمين وصولهم عوض تحمّل مسؤولية أطفال وعجائز. وسائق الشاحنة التي أقلّت الجنديين كان يستطيع الإفشاء عنهما إلى السلطات، لكنه اختار مساعدتهما المخرج (المولود في النمسا سنة 1902 والمتوفّى عن 81 سنة في 1984) عالج الموضوع بدراية فنية ولو من دون خصائص فنيّة لامعة. تركيزه على الشخصيات وأبعاد الفكرة ربما طاغ على الفيلم، لكن هذا لا يعني أن العمل ليس مسروداً جيّداً وأن مشاهده لا تترك أثرها، إحساساً او تشويقاً، في كل دقيقة من دقائقه الـ 93.
شاهدت هذه الأفلام في فترات مختلفة لكن «المروج الحمراء» للدنماركيين بوديل إسبن ولو لورتزن مفقود وهو بدوره دار عن الحرب العالمية الثانية من زاوية أن الدنمارك لم تكن تملك جيشاً ذا شأن حين غزتها القوّات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، والفيلم يحكي عن المقاومين للغزو والخائن الذي وشى على المجموعة ما أدّى إلى اعتقال بعضهم. واحد من أفلام عدّة دارت عن الحرب بعد زوال الاحتلال وتم تقديمها في دورة “كان” الرسمية الأولى.
مفقود أيضاً «نقطة الاستدارة» للألماني فردريخ إرملر الذي حققه في الاتحاد السوفييتي (حيث كان لجأ قبل او خلال تلك الحرب).