هوجو: فانتازيا تاريخية عن السينما بين عصرين
رامي عبد الرازق
سيناريو: جون لوجان
عن كتاب ل : براين سيلزنيك
إخراج : مارتن سكورسيزي
بطولة : بن كنجسلي ساشا كوهين
مدة الفيلم : 126 ق
خمس جوائز اوسكار حصل عليها”هوجو”الذي كان مرشحا لعشرة من اهم جوائز المسابقة الأشهر في العالم, الجوائز الخمس جاءت تقنية(اخراج فني وملابس وصوت وميكساج وخدع)اما الترشيحات الخمس الاخرى فكانت هي الأهم والاكثر قوة (احسن فيلم وإخراج ومونتاج وموسيقى واقتباس للسينما) وهي الترشيحات التي تعكس مدى العمق الفكري والقوة البصرية-ونعني بها الاخراجية وليست المؤثرات والخدع- التي اتسم بها هذا العمل المتقن متعدد الدلالات.
الكتاب المأخوذ عنه السيناريو موجه اساسا للاطفال وتحويله إلى فيلم يخطاب الوجدان الطفولي في المتلقين على اختلاف شرائحم العمرية هو جزء من الدلالة الفكرية للسيناريو, فهو فيلم عن السينما, عن فن اختراع الاحلام على الشاشة, والحلم والخيال والحرية هي اكثر الصفات الطفولية التي تتداعى في اذهاننا جميعا حين نشاهد السينما, فبطل الفيلم هو فتى صغير يعيش في ممرات محطة قطار باريس في عشرينيات القرن الماضي وهناك يلتقي بجورج ميليس(1861-1938)المخرج الكبير الملقب بالاب الروحي لسينما الخيال العلمي والافلام الملونة.
فانتازيا سحرية
نحن امام فانتازيا تاريخية ذات ابعاد تتسم بالواقعية السحرية, فجورج ميليس بالفعل بعد ان انهارت صناعة السينما اثناء وبعد الحرب العالمية الأولى واضطر إلى احراق ملابس افلامه وديكوراته ثم هجر الاستديو الخاص به لم يجد غير مجرد الوقوف في محل صغير لبيع اللعب والعاديات داخل محطة باريس, والفانتازيا التاريخية هي بناء احداث درامية خيالية”بمعني لم تحدث” انطلاقا من احداث وشخصيات حقيقية ومعروفة”حدثت بالفعل”.
اما الواقعية السحرية فهي تلك الحالة التي تخص عمل الطفل الصغير”هوجو”كمسئول عن ضبط الساعات الخاصة بمحطة القطار والتي يضبط عليها الجميع ساعاته وتتحدد على اساسها مواعيد القطارات وهي المهنة التي ورثها عن عمه السكير بعد وفاة والده في حريق بأحد المتاحف.
(ونلاحظ دلالة أن يقوم طفل صغير بضبط الزمن وهي دلالة فلسفية شديدة العمق والايحاء بمدى سيطرة فكرة قوة الطفولة على النص سواء الكتاب او السيناريو)
وبينما يلتقي الطفل”هوجو”بجورج ميليس دون ان يعرف من هو ولا نعرف نحن ايضا! تتبلور تلك المستويات الدلالية للفيلم الذي يشكل اكثر من تحية لعالم السينما والخيال الجميل.

لدينا ذلك المستوى الدرامي المشبع بالمشاعر والانفعالات للعلاقة التي تتطور ما بين هوجو و”بابا جورج” كما تطلق عليه حفيدته صديقة هوجوو هذا المستوى الذي يبدأ بأمساك جورج العجوز للطفل هوجو وهو يحاول سرقة فأر آلي صغير منه ويبدو هنا ان الفأر معادل موضوعي/سيسيولجي لهوجو نفسه الذي نراه من خلال اللقطات التأسيسية للشخصية والمكان يتحرك بين الممرات الداخلية للمحطة من فأر بشري صغير بين ماكينات البخار الهائلة وتروس الساعات الضخمة والنوافذ الزجاجية العاكسة والقضبان الحديدية التي تمثل نافذته على عالم بعيد لم يعد ينتمي إليه سوى بالنظر والخيال منذ وفاة أبيه.
وتتعدد ايضا دلالات الأشياء والديكورات بالفيلم مثل المشهد الذي نرى فيه العجوز جورج وهو يجتاز الطريق إلى بيته عبر المقابر والتماثيل العظيمة المحنطة وكأنه صار واحدا منهم ويتخذ ذلك المشهد دلالة اكبر عندما يعلم هوجو وحفيده جورج ان النقاد والمؤخرين يعتبرون ميلياس متوفي في ظروف غامضة زمن الحرب كرمز للموت المعنوي الذي حاق بهذا الفنان العظيمو فمروره اليومي من المقابر إلى المنزل هو تأطير لهذا الموت المعنوي المعلن.
بين زمنين
المستوى الثاني هو المستوى الفكري الخاص بالمرحلة الانتقالية بين زمنين والتي يعتبر الكتاب والسيناريو ان السينما كانت احدى علاماته وانتاجاته في نفس الوقت, مرحلة البخار التي ترمز لها محطة القطارات البخارية التي تدور بها الاحداث كمعادل موضوعي للعالم في تلك الحقبة الزمنية ومرحلة التطور التكنولوجي المعتمدة على الذكاء الاصطناعي الذي يجسده الانسان لآلي الذي ابتكره ميليس نفسه والقادر على الرسم.
والذي يرسم بالفعل صورة لافيش اشهر افلام ميليس”رحلة إلى القمر”وهي دلالة عن المستقبل والتطور الهائل الذي بدأ بفكرة جول فيرن/ادب مرحلة الآلة البخارية وتجسد في فيلم ميليس/السينما رمز التطور التكنولوجي, ثم تحقق بعد اقل من نصف قرن حيث صعد الانسان للقمر كما تنبأ الادب وصورت السينما.
لقد أعتبر السيناريو ان السينما هي التطور الانساني الاكبر على المستوى الفكري والفني والابداعي وانها لا تقل اهمية وقوة وخيالا عن الادب, وذلك من خلال شخصية حفيدة جورج ميليس صديقة هوجو التي تعيش في عالم الكتب المقروءة, ولكن هوجو يصطحبها إلى السينما لاول مرة في حياتها لترى وتسحر بعالم الاحلام والتي يصبح طريقها إلى اكتشاف هوية جدها وحقيقته الكبرى.
3D سكورسيزي
نتصور أن استخدام سكورسيزي لتقنية ال 3D في صناعة الفيلم لم تأت لاسباب تجارية أو مواكبة لصرعة الأبعاد الثلاثة ولكنها تبدو كتحية من السينما للتكنولوجيا التي صارت السينما ابنتها وابنة عصرها الشرعية, وتحية للسينما نفسها التي تمكنت من تجسيد الحلم عبر الابعاد الفيزيقية الثلاث للبشر والأشياء(الطول والعرض والأرتفاع) وذلك بعد قرن واحد فقط من اختراعها وابتكار الحيل السينمائية بشكلها البدائي على يد ميليس وجيله.
وقد استخدم سكورسيزي اخراجيا اللقطة المتحركة “TRAVELING SHOT “واللقطة المعقدة COMPLEX SHOT””في مشاهد الممرات الداخلية للمحطة ليس فقط لاعطاء مساحة لتقنية ال3D بامتاع المتفرج بصريا ولكن لمحاولة التعبير الحركي عن واقع متحرك بالفعل او على حد تعبير جودار(محاولة الامساك بالواقع في حركته”المتحركة” ابدا) لان تلك الممرات التي يتحرك ويعمل بها هوجو كفأر الكتروني صغير, ويحاول اصلاح الانسان الآلي الذي تركه له والده كأرث ثمين وطموح لفهم اسباب الحياة-كما يقول لصديقته حفيده ميليس- هذه الممرات هي المعادل لكواليس او باطن الحقبة البخارية الحبلى بالتطور التكنولوجي الذي افصحت عنه السنوات التالية, وبالتالي فكل لقطاتها متحركة ومعقدة على عكس الكثير من لقطات ساحة المحطة التي تتسم بالاذدحام ولكن الاستاتيكية والبطء والركود وضيق الأفق وهو ما عبرت عنه شخصيات المحطة مثل بائع الجرائد العجوز الذي يحب صاحبة المخبز التي تربي كلبا صغيراو وبائعة الورد المبتسمة مثل دمية بلهاء,

وبالطبع مفتش البوليس رمز السلطوية العسكرية التي دمرت نفسها اثناء الحرب ودمرت معها الحركة الفنية التي كان ميليس أحد علاماتها وضحاياها, والتي تبدو مثل كل السلطات العسكرية شبه عاجزة او مشوهة, حيث المفتش يعاني من جرح في ساقه يجعله يضع لها قائم معدني ويسير بشكل مرعب ومضحك في نفس الوقت ويحيله إلى”ابو رجل مسلوخة”في المخيلة الطفولية التراثية العربية وقد قدم الممثل “ساشا كوهين” الدور باتقان شديد حيث بدا في تشكيله الحركي والجسدي اقرب لدمي العساكر التي يلعب بها الاطفال حيث زوايا جسده مربعة وحركته آليه . ويعد ادائه وشكله الحركي جزء من عالم النظرة الطفولية التي تسيطر على مخيلة الفيلم بأكلمه.
اما اختيار الممثل المخضرم بن كنجسلي فجاء جزء من الحالة السينمائية المميزة بحكم الشبه الكبير بينه وبين ميليس الحقيقيو كما انه ممثل باطني هائل القدرة على ابراز مشاعره وانفعالاته من خلال نظرة عين او انحناءه جسد وهو ما عبر عن طبيعة حياة ميليس في الفترة الاخيرة من حياته حيث اختزن حزنه وتاريخه وخبراته في نظرة عين شجنية ومشحونة بالاسى والصمت.
اما الطفل “اسا بترفيلد ” الذي لعب دور هوجو فقد جاء مكملا لطبيعة الشخصية على المستوى الخارجي والداخلي ليس فقط في قدراته التمثيلية المبكرة ولكن بعيونه الزرقاء الواسعة التي تتطلع لعالم في رحم الغيب لكنه مؤمن بأنه آت, وهي مفردة سينمائية مميزة لأن العيون هي المستقبلات الرئيسية للصورة والسينما والأفلام.