“نصف ثورة”…ولكن الفيلم مكتمل..!

لماذا نجح هذا فيلم عن الثورة المصرية فيما فشل معظمها؟

عصام زكريا

ينفتح فيلم “نصف ثورة” على وجه الرئيس المخلوع مبارك على شاشة تليفزيون يلقي أحد خطاباته الأخيرة. الصورة تم التلاعب بها بتكبيرها إلى حد التشوه، وصوته الرتيب الخامل تم التلاعب به قليلا فبدا كما لو كان قادما من فوهة قبر.
كثير من الأفلام الوثائقية التي صنعت عن الثورة تبدأ بخطابات مبارك، وتعتمد على أرشيف من مواد الفضائيات واليوتيوب والمواقع الاليكترونية والصحف، ولكن “نصف ثورة” لا يستعين بأي مواد خارجية فيما عدا تلك اللقطات لخطاب مبارك وبعض اللقطات السريعة على شاشة تليفزيون عن موقعة الجمل.
المخرجان عمر الشرقاوي وكريم الحكيم، اللذين قاما أيضا بتصوير مشاهده، بمساعدات من بعض أصدقائهما أحيانا، تجنبا الاستعانة بالمواد الأرشيفية حرصا على حقوق الملكية غالبا، على عكس الكثير من الأفلام المصرية التي لا تراعي هذه الحقوق، وتقتبس من المواد الأرشيفية دون أدنى تردد، وبافراط يؤثر سلبا على العمل أحيانا كثيرة.

“نصف ثورة” انتاج دينماركي بحكم جنسية شركة الانتاج، وانتماء أحد مخرجيه. عمر الشرقاوي فلسطيني دينماركي الجنسية، بينما مخرجه الثاني، كريم حكيم، مصري أمريكي الجنسية. الشرقاوي وحكيم وجدا نفسيهما بالصدفة في قلب الثورة المصرية…قبلها بأيام أو شهور كانا يخططان للبقاء والعمل في مصر، فالاثنان لديهما ما يشبه العائلة في القاهرة. كريم متزوج من سماهر أخت عمر ولديهما طفل صغير سيكون له دور كبير في مصير الشخصيات. عمر خاطب لفتاة مصرية، وكل من كريم وعمر محاطان بالأصدقاء والأقارب من المصريين والمخلطين الجنسية، حيث يلتقي الجميع في شقة مؤجرة هي محل إقامة كريم وزوجته وطفلهما، وهي قريبة جدا من ميدان التحرير، وتحديدا تطل على مقهى البورصة أحد مواقع تجمعات المثقفين والنشطاء قبل الثورة وخلالها وبعدها.

عمر الشرقاوي يستلم جائزة الجزيرة الذهبية

 الهوية المزدوجة التي يتمتع بها كريم وعمر أعطتهما، وفيلمهما بالتبعية، خصوصية مميزة. من ناحية تحتاج الأفلام الوثائقية إلى نظرة موضوعية غير مستغرقة في الأحداث وقدرة على التحليل والتأمل، ولكن من ناحية أخرى تمثل هذه الهوية المزدوجة ضعفا تراجيديا، ذلك أنها ستدفع صناع الفيلم، وفيلمهما بالضرورة، إلى نقطة تصادم وذروة مؤسفة يتصادف أنها ستكون مصير الثورة نفسها في المستقبل…وسوف يتضح معنى الكلام السابق لاحقا حين أتعرض لمضمون الفيلم.
كنت أقول أن الهوية المزدوجة لمخرجي “نصف ثورة” أكسبتهما خبرة مزدوجة وقدرة على النظرة المتأملة الموضوعية حتى في ذروة اشتعال الأحداث والعنف خلال الأيام الأولى للثورة، ولكنها من ناحية ثانية حالت دون اندماجهما الكامل في الأحداث، بل وكانت وراء اضطرارهما إلى الفرار من مصر كلها مع احتدام الصراع بين الثورة ونظام مبارك الذي نشر بلطجيته وأشاع الذعر من الأجانب خلال الأيام الأخيرة من حكم مبارك.
هذه الهوية المزدوجة هي أيضا سر جمال هذا الفيلم وتأثيره على المشاهد. وإذا كان “الغموض” أو “الالتباس” – كما يرى بعض فلاسفة علم الجمال- هو سر الشحنة الجمالية في أي عمل فني كبير، وفقا لبعض نظريات النقد الأدبي والفني، فإن ما يعطي هذا الفيلم “التباسه” الفني هو هوية صاحبيْه، الحائرين بين الانخراط التام في الثورة والمجتمع المصري والتي تمتد أيضا إلى باقي شخصيات الفيلم بدرجة أو أخرى.
 
يبدأ “نصف ثورة” بجزء من خطب مبارك الأخيرة ثم ينتقل إلى شقة كريم حيث تلتقي شخصيات الفيلم الأساسية، والتي نتعرف عليها من خلال عناوين على الشاشة.
بالإضافة لكريم ووالده وزوجته سماهر وطفلهما وعمر نتعرف على فيليب، اللبناني الفرنسي المصري الإقامة واللهجة، وإسلام، المصري الذي نشأ وعاش في الكويت قبل أن يعود إلى مصر شابا، ورشا، الشابة المصرية التي تعاني هي أيضا من اغترابها وهويتها المزدوجة ثقافيا.
بالنسبة لهذه الشخصيات، بالضبط، يمثل يوم 25 يناير قفزة إلى المحيط من فوق قمة جبل عال… قفزة داخل الهوية المصرية التي تشكل نواة كل منهم رغم أطياف الهويات المتتابعة فوق وجوههم وألسنتهم. سواء في مشاهد الالتحام بالجموع التي غطت الميادين، أو لقاءات شخصيات الفيلم وأحاديثها حول ما يجري لهم وحولهم، تكتشف الشخصيات هويتها وإحساسها الوطني الذي يدفعها في لحظات ما إلى تعريض حياتها للخطر في سبيل الجماعة والبلد.
الاندماج في الجماعة هو أول مظاهر الثورة الشعبية، ولكن الاندماج والتوحد لا يعنيان دائما أن يفقد المرء فرديته وعقله وثقافته. والهوية المزدوجة التي أشرت إليها ربما هي التي حمت  شخصيات الفيلم من الوقوع في أوهام الجماعة. ومن الغريب أنه في الوقت الذي كانت تنادي فيه “الجماعة” – الأغلبية- بنزول القوات المسلحة يوم 28 يناير، وفي الوقت الذي كانت ترتفع فيه آيات التهليل والتكبير بنزول الجيش، كانت عدسة عمر وكريم ترصد شيئا آخر تماما: مصفحة الجيش التي دهست أحد المتظاهرين في ميدان التحرير، وزميلتها التي قامت بتوصيل الذخيرة الحية إلى قوات الشرطة الرابضة بين وزارة الداخلية والميدان، وقيام المتظاهرين باحراق إحدى المصفحات العسكرية في الميدان. هذه المصفحة التي اختفت تماما في اليوم التالي، بعد أن قرر الجيش أن يدعي الوقوف على الحياد!
عمر وكريم سيضطران بعد أيام إلى الرحيل من مصر كلها…عندما يرسل مبارك ورئيس وزرائه الجديد أحمد شفيق بلطجيته لقتل المعتصمين في الثاني من فبراير – في موقعة الجمل الشهيرة، ستتحول المناطق المحيطة بالميدان إلى مصائد للثائرين، حيث يتجول البلطجية بالأسلحة بحثا عن أي مشتبه فيه، خاصة لو كان أجنبيا.

تليفزيون مبارك كان يردد أن الميدان يمتلئ بالعملاء الأجانب من إيران وإسرائيل وأمريكا…والأجنبي الذي كان يقع في يد مؤيدي مبارك كان ينكل به، أو بها. الأجهزة الأمنية المصرية معتادة على استهداف الأجانب والنساء، والنساء الأجنبيات بوجه أخص، لضرب المعارضة في مقتل، وهي سياسة ستستمر ما بعد مبارك بشهور طويلة، ولكن “نصف ثورة” يتصادف له أن يمر بهذه المحنة مبكرا جدا…وتحت الخطر المحدق بهم من جحافل البلطجية في الشوارع المحيطة، وتعرض فيليب، اللبناني الفرنسي، لإعتداء كاد أن يفقده حياته، يتسلل كريم وزوجته وطفلهما وعمر صباح التاسع من فبراير، قبل تنحي مبارك بيومين، للفرار بجلودهم وابنهم الرضيع من خطر الموت أو الاعتداء أو الاعتقال.
هل كان من الأفضل لو بقيا قليلا، ولو مختبئين في بيتهما؟
أعتقد أن الحظ الطيب للفيلم كان يكمن أيضا في رحيلهم المبكر، فقد نجوا من الفرح الزائف الذي أعقب تنحي مبارك لأسابيع أو شهور قليلة، قبل أن تتكشف ملامح الخدعة الكبرى.

بالنسبة لكريم وعمر، فقد غادرا وهما يحملان ندبات هذه الخدعة في قلبيهما. لقد شاهدا جرائم الجيش المبكرة، وتم خطفهما من قبل أعوان النظام، وتعرضا لخطر القتل على أيدي البلطجية…ومن الزاوية التي رصدا بها أحداث الثورة، فقد رصدا قوة ووحشية هذا النظام، ولم يكن من السهل أن تنطلي عليهما الحيل التي انطلت على غيرهما. أعتقد أن “الهوية المتعددة” ساهمت في هذه القدرة على فهم الأمور، كما أن امتزاج الذاتي بالموضوعي والشخصي بالعام يتجاوز هنا مسألة مشاركة صانع الفيلم في الثورة كواحد من المحتجين. بالنسبة لشخصيات “نصف ثورة” الأمر يتعلق بالبحث عن الذات نفسها وسط الأجساد والدماء والغازات المسيلة للدموع وأغاني المتظاهرين. وهم معا يشكلون صورة لهذه الهوية المعاصرة المتعددة والمتحررة التي تحلم بها مصر، ولكن تخشاها. وهذه الهوية هي النقيض التام لحالة رهاب الأجانب ورهاب الفوضى وعدم الاستقرار وكل مصادر الخوف التي لعب عليها النظام القديم قبل وبعد خلع مبارك، والتي ساهمت مع قوى الرجعية الدينية في إعاقة إكتمال هذه الثورة.
بناء الفيلم، من هذه الزاوية، هو أهم نقاط قوته، فهو يحقق ما يوصف عادة بالعضوية بين العناصر: المضمون مع الشكل، والخط الرئيسي مع الخطوط الثانوية. هنا لا تستطيع أن تفرق بين قصة الثورة، وقصة أسرتي كريم وعمر ومجموعة الأصدقاء المقربين منهما.
يرحل صناع الفيلم هاربين، وينتهي العمل بهذا الاحساس المسيطر بالخوف من انتقام النظام…لذلك يعد “نصف ثورة” من الأفلام القليلة التي أدركت وعبرت عن طبيعة الصراع غير المحسوم، والمستمر، بين قوى الثورة والرجعية في مصر، وذلك على الرغم من أنه انتهى فعليا – من ناحية الزمن الذي جرى خلاله تصوير الفيلم- قبل تنحي مبارك، ومن ناحية الانتهاء من بناءه وتوليفه، يعد من أوائل الأفلام التي صنعت عن الثورة.
إن تعقيد وفنية وتأثير “نصف ثورة” يدحض الفكرة القائلة بأن الأحداث التاريخية الجسيمة تحتاج إلى وقت طويل لتختمر فنيا…فالمسألة لا تتعلق بالوقت بقدر ما تحتاج إلى عقل نقدي مركب ومتأمل، أما الوقت وحده فلا يكفي لجعل التفكير السطحي عميقا، أو العكس!


إعلان