في مهرجان كان السينمائي: الحب حتى الموت أو بالموت

أمير العمري
مرة أخرى يعود المخرج النمساوي الكبير مايكل هانيكه (70 عاما) الى مسابقة مهرجان كان السينمائي بفيلمه الجديد “حب” Love وهو أول أفلامه بعد “الشريط الأبيض” الذي حصل على السعفة الذهبية قبل عامين.
مرة أخرى يأتى هذا الساحر الكبير الذي يملك ناصية الفن السينمائي، ويمكنه التلاعب كما يشاء، بالشكل، كما سبق أن جرب في أفلام مثل “الشفرة: غير معروفة ” Code: Unknown و”مخفي” Hidden ثم فاجأنا بالتصاقه بالشكل التقليدي اللا تقليدي في فيلم “معلمة البيانو” و”الشريط الأبيض”.
بـ”التقليدي” نقصد قدرته على استخدام طريقة الحكي أو القص التقليدية، التي لا تتمثل بالضرورة في رواية قصة (لا يروي هانيكه قصصا مكتملة أبدا)، بل في أسلوب تدفق الأحداث، أو بالأحرى طريقة تدفق الصور حول الحدث الواحد، فهو أسلوب يسير الى الأمام، لا يلجأ كثيرا الى القفز بين الأزمنة والأماكن، ولا يعتمد على التداعيات وعلى تداخل عناصر من خارج الصورة ومن خارج المشهد، بل يبدو مخلصا تماما لتكوين المشهد (الذي يدور داخل ديكور واحد محدد المعالم)، وملتزما بفكرة تصعيد الحدث الى أن يأتي الى نهايته “الذهنية” وليست تلك النهاية “الآلية” التى تبدو كـ”خاتمة” فالخاتمة عند هانيكه قد تكون بداية لحالة أخرى جديدة “ذهنية” يريد أن ينقلها أو يجسدها للمشاهدين. ولهذا نقول إنه أيضا “غير تقليدي” رغم تقليديته الظاهرية. إن صوره ولقطاته تخفي أكثر مما تظهر، أو تشير في ظاهرها الى ما يوجد في باطنها من دلالات، ولذلك فهو أقرب الى برجمان، منه إلى أي مخرج سينمائي آخر. ولأفلامه ايقاع خاص بطيء ممتد، متعمد لكي يتيح للمتفرج مساحة للتأمل، للإحاطة بتفاصيل المكان، وهو لذلك يعتمد على التكوين (عناصر تكوين الصورة تشكيليا من قطع ديكور واضاءة تلعب دورا في تجسيد الحالة الدرامية) وعلى أداء الممثلين، وعلى الكاميرا الثابتة واللقطات التي تستغرق مدة أطول من المعتاد على الشاشة بغرض اتاحة مساحة للتأمل، خصوصا أن الانتقال من لقطة الى أخرى لا يتم حسب تتابع الحوار بل يتجاوز هذا إلى الابقاء على اللقطة حتى بعد أن يتوقف الحوار.
هنا.. في فيلمه الجديد الصادم، نحن أمام ثنائي: زوج وزوجة، بلغا الشيخوخة وأصبحا يقفان على عتبة الموت: آن وجورج.. إيمانويل ريفا- 85 سنة (بطلة الفيلم الشهير “هيروشيما حبيبي لآلان رينيه قبل 53 سنة) وجان لوي ترنتنيان- 82 سنة (الحائز على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان عام 1969 عن دوره في الفيلم الشهير “زد- إنه حي” Z.

                                           مايكل هانيكه

آن وجورج من الموسيقيين المخضرمين. نراهما في بداية الفيلم يذهبان الى حفل موسيقي لأحد تلاميذهما.. لكننا لا نرى العازف، بل نشاهد الجمهور وهو يستمع الى العازف في الحفل. لكننا قبل ذلك ندلف الى الموضوع من خلال المشهد الذي يسبق نزول عناوين الفيلم على الشاشة: ضابطا شرطة يقتحمان شقة باريسية، لكي يعثرا على جثة متحللة ترقد على الفراش. وإذن نحن أمام موضوع يدور من البداية حول الموت.
بعد عودتها من الحفل تصاب آن بجلطة تقعدها.. تنتقل الى المستشفة حيث تتلقى علاجا ثم تعود الى المنزل حيث يرعاها جورج، يعد لها الطعام والشراب، ويدلك لها ساقاها لكي تسترد عافيتها. وهناك امل كبير يرواد الاثنين في أنها يمكن بالفعل أن تستمد عافيتها سريعا.
ابنتهما إيفا التي تقوم بدورها احدى الممثلات المفضلات عند هانيكه وهي إيزابيل أوبير، تزورهما وتبدي قلقها الشديد على حالة والدتها، وعلى قدرة الأب- الزوج على القيام بكل تلك الأعباء وهو على تلك الحالة من الشيخوخة.
تفقد المرأة الذاكرة بشكل كامل تقريبا، تتعرض لجلطة أخرى تتركها مشلولة في نصف جسدها الأيمن. تجلس في مقعد للمعاقين يدفعه الزوج. يرفض جورج باصرار ان ينقلها الى مصحة أو بيت للمسنين رغم ضغوط الابنة. 
الحدث بأكمله يدور لمدة ساعتين (هي زمن الفيلم) داخل شقة الزوجين المحبين اللذين تربطهما ذكريات مشترة وتاريخ مشترك.. الحب حالة توحد بينهما رغم الألم الذي تفصح عنه الحالة التي بلغتها الزوجة الآن. تمسك جورج حتى النهاية بالقيام برعاية زوجته يعكس مقدار حبه لها. لكن تدهور حالتها وزيادة جرعة المعاناة تؤدي به الى الاقدام على الفعل الذي يبدو قاسيا، خاليا من الانسانية، فيما يراه هو قمة الرقة.
في مشهد صادم للجميع، يضع جورج وسادة على رأس زوجته ويضغط ويظل يضغط الى أن تلفظ هي أنفاسها. يخرج ويعود بباقات من الورود. يجلس لكي يكتب رسالة بعد أن يسد منافذ الشقة كلها بالأشرطة اللاصقة لكي لا تتسرب الرائحة على ما يبدو الى الخارج.
أين يذهب جورج: هل ينتحر؟ هل يغادر الشقة؟ هل يبقى الى أن يواجه هو الآخر مصيره؟ لا أحد يعرف ولا يبدو أن من المهم أن نعرف فلسنا أمام فيلم “بوليسي” يهتم بالتحقيق فيما حدث ومن فعل ماذا، بل يبدو مسار اهتمامه متركزا أساسا على الحالةالعقلية والذهنية التي تدفع الى ما رأيناه.
في أحد المشاهد.. تتسلل حمامة الى داخل الشقة من نافذة مفتوحة.. تسير الحمامة بتمهل وكأنها تعرف المكان جيدا.. تلتقط من أرضية الصالة ما تلتقطه وما تراه هي فقط ولايراه غيرها.. يتأملها جورج قليلا ثم يطردها من النافذة.
وبعد قيامه بفعل “القتل الرحيم” يجد جورج أن الحمامة قد عادت الى الشقة مجددا.. يأتي بقطعة من القماش ويحاول جاهدا أن يضعها على جسد الحمامة وهي تسير على الأرض لكي يقبض عليها. ينجح في ذلك بالفعل بعد عدة محاولات.. ثم لا نرى شيئا.. لكننا نعرف من خلال الورق الذي يدونه، على طريقة مذكرة الانتحار، ربما قبل أن يرحل هو الآخر بعد أن يتخلص من حياته بطريقة لا نراها، نعرف أنه أطلق سراح الحمامة هذه المرة أيضا.

                       فريق الفيلم اثناء قبل عرضه بقليل

 لاشيء يمكن أن يستخدمه مايكل هانيكه في فيلمه دون معنى ودون أن يكون له سبب لديه.
في مشهد من مشاهد الفيلم يقرأ جورج خبرا مفاده أن الولايات المتحدة ستستقبل أخيرا رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو استقبال رجل دولة، وتقيم له مؤتمرا صحفيا. هذا الخبر يمر دون أي تعليق لكنه الخبر الوحيد في الفيلم الذي يتوقف أمامه هانيكه فهل تخفى دلالته!
“حب” فيلم عن الحب من منظور قد لا يخطر على بال أحد، بل وقد يصدم الكثيرين، لكنه يعكس احساسا صادقا بمسار الحياة عندما تضغط على المرء وتصبح أحيانا عبئا على من لايزالون يتمتعون بقسط منها.
في فيلم من هذا النوع يبرز كثيرا التمثيل: نحن هنا أمام ثلاثة من عمالقة التمثيل في السينما الفرنسية.
أداء ايمانويل ريفا يجعلها بلا أي شك المرشحة الأولى لنيل جائزة أحسن ممثلة في “كان”. إنها تتمكن بعبقرية وخبرة وحنكة خاصة، من التحكم في عضلات وجهها وجسدها، بل وبنظرات عينيها، لكي تعكس الحالة “الفيزيائية” للشخصية التي تؤديها كما ينبغي أن يكون الأداء: نظرات زائغة تائهة، تلعثم في الكلام، تعثر في الحركة، صعوبة في فتح الفم.. إنها تجعلنا نقف في خشوع أمام الشيخوخة، أمام فكرة الاقتراب من الموت خاصة وأننا نعرف أننا نشاهد تلك الممثلة التي كانت لها فتنتها في الماضي.. عندما كنا أطفالا وكانت هي في عز شبابها.
وتلك أيضا هي حالة جان لوي ترنتنيان الذي يبدو هنا وقد طعن في السن، لكنه يتمتع بالحضور الذهني وقوة الشكيمة والقدرة على الحركة، والاصرار على أن يقدم لشريكته في الحياة كل ما عنده بل إنه لا ينسى أن يحضر الورود لكي يضعها حول فراشها كما سنرى في مشهد البداية عندما يكتشف رجال الشرطة الجثة المتحللة على الفراشة محاطة بالزهور.

ان فيلم “حب” تعبير خاص عن تلك الحالة من الحب التي تصل الى مستوى من الشفافية قد يعجز العقل الإنساني بتكوينه المحدود من إدراكها وتمثلها بسهولة. وتلك هي عظمة هذا الفيلم.


إعلان