الأزهر .. الجامع والسلسلة ( 2- 2)

اشكالية الوثيقة التفسيرية وفرض الانتقائية

أسامة صفار

بين تماس مع الدراما وقراءة للتاريخ من منظور المؤسسة – الضحية قدمت سلسلة الأزهر أربعة أجزاء طرحت خلالها رؤية ملخصها أن المؤسسة العتيقة قامت بدور نهضوي عظيم عبر تاريخها الي أن أوقفت ثورة يوليو هذا الدور وأجهضته بوضعها تحت وصاية المؤسسة السياسية و أنه من الممكن استعادة هذا الدور بتحرير الأزهر ومنحه استقلالية وأكدت السلسلة وخاصة في الجزء الثاني منها أنه حين تتقلص مساحة وجود الدولة المصرية في الشارع يتمدد الأزهر برحابة أفقه في هذا الفراغ وهي مقولة لها جمالها الخاص علي المستوي النظري ولكنها ان صحت تبدو كاشفة لأكثر من تصور يتعامل مع الأزهر باعتباره دولة أخري منافسة في الوجود الوجداني داخل المجتمع لتلك الدولة المصرية وهو تصور يبرر لعسكر يوليو تماما ما فعلوه من وضع للمؤسسة الدينية تحت وصايتهم المباشرة ويؤكد أن ثمة تحليل موازي يمكن أن ينشأ عن قراءة وضع الأزهر تحت حكم الدولة المملوكية ونابليون والعثمانية وتحت حكم دولة محمد علي وليس انطلاقا من ثورة يوليو فقط وبعيدا عن الصياغات القانونية والمؤسسية فان المؤسسة الأزهرية بكل مكوناتها هي جزء من الدولة – الوطن المصري ويصعب معه فصل جزء منها باعتباره موازيا لها أو معادلا أو منافسا وعلي العكس تماما فان كل نهضة مصرية رافقهتا بالضرورة نهضة أزهرية سواء كان الأزهر خلالها تحت الوصاية أم لا .

                                                   اثناء العمل على السلسلة

ثمة مشهدية أخري تدور في ذهنك بينما يطالعك فيلم الأزهر بأجزائه الأربعة حيث تتصور شيخا معمما يقبض علي يدك بحنان أبوي وتدخلان معا الي ساحة لها من الجلال والاحترام ما يدفعك الي الصمت والتلقي دون تساؤل ومع الاضاءة الموحية فان حالة من اللاوعي تتسرب اليك تدخلك في حالة تبقيك بين الوعي واليقظة .. وتبقي قلبك معلق بشيخك ومعمار ساحتك الأزهرية وبينما قصد المخرج عبد الرحمن عادل باضاءته الناعمة تصوير كيف جاء الأزهر بنور العلم ليزيل العتمة من العقول فان ما يشبه التنويم المغناطيسي يتسرب الي روحك لتلتئم مع طفلك القديم فيأخذك الشيخ الي حواديت الألف عام الماضية لتخرج من العمل وقد بني الأزهر داخل روحك بمشايخه و جلاله وعلومه وانطباع قرر صناعه أن يكون هو ما ينبغي أن يكون داخل نفسك عنه وهكذا بدا الأمر في العمل بالمشاهدة الأولي جميلا حد الحلم غير أن الوعي بعناصره المختلفة وتفكيك الرؤية واعادة بنائها للتعرف علي عناصرها يشيران الي سلسلة طويلة من التحليلات تتري عبر مشاهدة هذا العمل الثري
والسلسلة الأزهرية بملامحها وتميزها الخاص علي المستويين الفني والفكري تسوقنا بالضرورة الي التعامل مع مبدعين رئيسيين داخل العمل هما المخرج عبد الرحمن عادل و كاتب ومعد العمل الاعلامي والكاتب عبد الله الطحاوي .. ذلك أن كلاهما امتد في رحابة الأزهر سلسلة وجامعا ليقدم رؤية تكاد تلتصق بصاحبها وتصبح جزءا من ملامحه الفكرية والفنية ومحددا رئيسيا لابداعه والاثنان – عادل والطحاوي هما من قدم من قبل الفيلم الرائد عن البابا شنودة الراحل والذي طرح فيه الطحاوي رؤية – قراءة تفسيرية لرجل تعاطي الدين بقدر ما تعاطي السياسة كرد فعل لمناخ أشاعه السادات وامتد الأمر بعد السادات حيث بدأت الدولة المصرية في طريق الضعف والانحدار فكان البابا رمزا دينيا وسياسيا معا وأوضح الطحاوي كيف تبادل السادات والبابا شنودة الأدوار فلعب السادات دورا يصعب تصديقه كرمز ديني ولعب البابا دورا – جديدا علي بابوات الكنيسة المصرية – كرمز سياسي وكشف الفيلم عن تأسيس سابق علي وجود البابا في الكنيسة لهذا المناخ عبر استقطاب حاد نشأت بوادره في منتصف القرن العشرين وهو ما مهد لوجود البابا – صاحب الرؤية السياسية واللاعب السياسي علي الساحة المصرية والدولية والاقليمية في بعض الأحيان .
وانطلاقا من النقطة السابقة فان الكاتب والاعلامي عبد الله الطحاوي – معد العمل – يستخدم المفردات ذاتها والتي استخدمها مع البابا في تحليل دور الأزهر عبر التبادلية بين دور سياسي ديني متناوب أحيانا ومختلط في أحيان أخري وبينما استطاع في فيلم البابا أن يقبض علي جوهر صلب وأداة تحليل جبارة هي فكرة توظيف التدين والوجدان الديني التي أراد بها السادات خلق دعم شعبي له وسط أغلبية مسلمة ساحقة  تصلح للرهان مفسدا بذلك العلاقة بين عنصري الأمة في مرحلة محددة فان الطحاوي في فيلم الأزهر يتجاهل أن السادات بما فعله لم يكن مكتشفا أو مبدعا بقدر ما كان يقلد سابقيه من حكام مصر وأولهم صاحب قرار انشاء الأزهر نفسه مرورا بمن خلفه سواء من الشيعة في القرنين التاليين أو في القرون السبعة الماضية ولعل الصيغة التي كتب بها الطحاوي التعليق الصوتي ومن ثم طرحت بها الأسئلة فولدت الأجابات التي – من المؤكد – أن الكاتب والباحث المميز كان يتوقعها تماما قد خلقت حالة من الانشاد الحزين الأقرب الي الجنائزية في بعض مناطق العمل وهو ما يشي أنه كان يمنحنا كمتلقين بعضا من الاحساس بالفقد الحسيني لمؤسسة الأزهر دفعا باتجاه استردادها وبقدر ما جاء في التعليق من ملحمية وبلاغة استطاع توصيل هذا الشعور فان ثمة مصادر صنعت ( كسرا للايهام ) الذي قدمه الطحاوي حين تحدثت – مثلا – عن محاولة ضرب الشيخ محمد عبده لأنه أراد أن يدرس علوما طبيعية في الأزهر باعتباره خروجا علي المنظومة الأزهرية .

ويصلح المشهد السابق تماما للانطلاق الي المبدع الثاني عبد الرحمن عادل الذي استغل مناطق الصمت في العمل كما استغل الطحاوي مناطق الكلام وصنع معادلا بصريا غير تابع للتعليق الصوتي أو تعليق المصادر في كثير من مناطق العمل وخلق شعورا بالتوازي بين ( البصري والسمعي ) بل تجاوز ذلك الي سباق محموم بينهما خاصة حين قرر أن يمسك بأداة التأثير الدرامي والنفسي الجبارة المدعوة ” المشاهد الدرامية ” وبقدر الحرفية العالية التي استخدم بها عادل أدواته والتي تؤهله لأعمال درامية ملحمية وتدعوه لارتياد عالم الدراما فان ثمة اشكالية حقيقية يكون قد تركها لنا وذهب ,هي اشكالية اعمال المشاعر بشكل مباشر في عمل توثيقي يفترض فيه مخاطبة العقل بالمعلومة والرؤية والواقع أن بعض الأفلام – ان لم يكن معظمها – يمس مشاعر المشاهد بشكل أو اخر والا ما حرص علي مشاهدته لكن الاشكالية التي عمقها عادل تتحدث عن تشكيل موقف المتلقي ليس عبر العقل فقط ولكن عبر مشاعر تخلقها مشاهده وتجعل منها ومن اثارها الأكثر بقاءا في وجدان المتلقي ليكون بذلك قد زرع في الوجدان ما لم يستطع الطحاوي زرعه بالاقناع والاستدلال والبراهين والمعلومات وهو خطر – أو الية عظيمة – قد يخطفنا من منطقة صناعة فيلم وثائقي الي اعادة بناء وجدان أمة عبر نافذتين للروح تستقبلان مشاهد تصطبغ بالفرح أو الحزن أو الجمال وتتخذ موقفا جاهزا تماما لما يقوله الطحاوي عبر المعلق الصوتي صاحب الصوت المشبع بالحالة والقريب من الوجدان ويبقي هنا السؤال : هل يحق للفيلم الوثائقي أن يقرأ الوقائع مفسرا ومشكلا لموقف جديد  مع العلم أن قراءة الوقائع هنا ليست قراءة عادية ولكنها انتقائية بحيث يتم تركيب الأحداث طبقا للرؤية المراد طرحها ويتم تجاهل رجل بحجم الشيخ محمد عبده الذي يستحق وحده سلسلة وثائقية سواء اتفقنا أو اختلفنا معه .
يملك الأزهر شرعية مختلفة في وجدان المسلمين عامة والمصريين بصفة خاصة لا تتعلق بكونه رأس حربة مشروع نهضة بقدر ما تتعلق ببناء وجدان قادر علي العيش في ظل معادلة وسطية لا تجعل المسلم يعتقد أن الحياة ” مجرد ورطة ” عليه أن يتخلص منها سريعا ولا تجعل منه فردا معاديا للحياة والأحياء لمجرد اختلافهم عنه ولكنها تساعده علي التوافق مع الحياة بمفرداتها المختلفة دون أن يخالف معتقده بل ويساعده هذا المعتقد علي صنع حالة سلام خاصة بينه وبين نفسه وعامة بينه وبين الاخرين ويتجسد هذا الدور في حقيقته في هوامش العمل الوثائقي الأكبر من نوعه عن الأزهر اذ ينضم الحرفيون الي الأزهريين في النضال ضد المحتل لكنهم – هؤلاء – الحرفيون وغيرهم يفقدون اهتمامهم تماما بالمؤسسة حين يصافح شيخها وامامها الأكبر ألد أعداء الأمة أو يسخر من حجاب فتاة صغيرة ..ان عبقرية المؤسسة – أي مؤسسة – تكمن في كونها وسيطا بين الناس وبين المعاني التي يؤمنون بها لتعمل علي توصيلها جيدا وتتبني نصرتها وقت أزمتها لذلك يملك الأزهر مقومات النهضة بالفعل ولكن عبر تحوله الي جزء أساسي من حياة الفرد المسلم .


إعلان