ما هي السينما الخالصة..؟؟
يتردد كثيرا في أدبيات النقد السينمائي الغربي بل والعربي أيضا، تعبير “السينما الخالصة” pure cinema أو السينما الصافية، وفي سياق الكثير من المقالات النقدية كثيرا ما يصف النقاد أفلاما معينة بأنها تنتمي الى “السينما الخالصة”، لكن الملاحظ أنه كلما زاد استخدام هذا التعبير أو المصطلح في الكتابات النقدية، كلما قل وضوحه أو مدى فهمنا له، فالتعبير يستخدم عادة في سياق النقد التطبيقي، أي في إطار الكتابة عن فيلم محدد ترتسم له في أذهاننا صورة محددة بتفاصيلها، ولكن دون أن نملك العودة الى تلك التفاصيل وتطبيقها على ما يذكره الناقد من مبررات لوصفه الفيلم بذلك الوصف المثير للإعجاب، فغالبا ما يأتي التعبير دون شروح أو تنظيرات محددة، بل في سياق إبداء الإعجاب بالفيلم والرغبة في خلع صفة “السينما الخالصة” عليه.
ويعتقد كثيرون أن “السينما الخالصة” وصف يطلق عادة على الأفلام التي تعلي كثيرا من شأن التعبير الدرامي عن طريق الصورة، أو ربما تعتمد على الصورة فقط، وتقلل كثيرا من شأن الحوار أو تلغي وجوده تماما، أي أن السينما الخالصة تعبير مرادف للسينما الصامتة (المصحوبة بالموسيقى فقط). وهو اعتقاد خاطيء تماما، فالحوار جزء أساسي من الفيلم ليس من الممكن الاستغناء عنه، وهو لا يلغي خاصية نقاء الفيلم أي تخلصه من المؤثرات الأخرى القادمة من المسرح والأدب وغير ذلك من الأجناس الفنية الأخرى.
كان ألفريد هيتشكوك، الذي يعتبره بعض النقاد والمؤرخين، أحد أساتذة “السينما الخالصة” في العالم يقول إن “الصور الفوتوغرافية لأناس يتكلمون لا علاقة لها بفن السينما” وكان يدعو إلى ضرورة “رواية القصة بطريقة بصرية وجعل الحوار جزءا من الجو العام”.
البحث في البدايات

ولكن دعونا أولا نبحث عن بدايات ظهور هذا المصطلح أو الصفة النقدية، من المسؤول عنها وإلى أي عمل سينمائي منحت أول ما منحت??.
كان السينمائي الفرنسي هنري شوميت Henri Chomette في العشرينيات من القرن العشرين، هو أول من استخدم تعبير “السينما الخالصة” لوصف فيلميه القصيرين التجريديين “انعكاسات الضوء والسرعة” Reflets de lumiere vitesse”(1925) et de و”خمس دقائق من السينما الخالصة” Cinq minutes de cinema pur” (1926).
كان شوميت يستخدم في الفيلمين الإيقاع والحركة والضوء والتكوين، ولكن ليس بغرض تجسيد قصة ما، بل بشكل تجريدي لتوصيل احساس ما بالتجربة الجمالية الخاصة التي يستخدم تقنيات السينما في تجسيدها. وربما يكون شوميت قد وضع الأساس العملي للسينما الخالصة لأنه لم يكن يؤمن مثلا بأن الفيلم مجرد وسيلة أخرى لرواية قصة تختلف عما يستخدم في المسرح والرواية، بل كان مؤمنا بأن السينما فن قائم بذاته، مستقل عن غيره من الفنون، أي لا يترمم على الفنون الأخرى ولا يقتبس منها، بل وسيلة لخلق فضاء سينمائي خاص يمكنه توصيل إحساس خالص ممتع، وهو إحساس لا يشعر به المتفرج في حالة الموسيقى والرقص والمسرح والرواية والتصوير الفوتوغرافي.
وقد أسس شوميت حركة “السينما الخالصة” في باريس مع عدد من السينمائيين مثل مان راي ورينيه كلير وفرنان ليجيه والسينمائية الفرنسية جيرمين دولاك Germaine Dulac هذه المجموعة من السينمائيين صورت عددا من الأفلام القصيرة التي تعتمد أساسا على المونتاج والتكوين وحركة الكاميرا. واستخدمت المجموعة حركة الكاميرا الطويلة، والتعاقب السريع والبطيء والتكوينات الموحية والمونتاج بأسلوب خلاق وليس بهدف ربط أطراف قصة محددة، بل من خلال بناء شعري لا يعتمد على التسلسل المنطقي، وظلوا يعرضون هذه الأفلام التجريبية في الصالونات والمقاهي الباريسية طوال العشرينيات.
السينما الخالصة إذن، ليست مجرد وصف أو تعبير نقدي عن نوع من الأفلام، بل مذهب سينمائي أو اتجاه وحركة سينمائية لها جذورها وملامحها وروادها أيضا.
السينما الخالصة والسينما القصصية
من الناحية النظرية يمكن القول إن نظرية”السينما الخالصة” مضادة لـ”السينما القصصية”.. أي للسينما ذات السياق القصصي التي تعتمد على تقديم شخصيات وأحداث في إطار زماني ومكاني محدد مهما اختلفت الأماكن وتداخلت الأزمنة وذلك بغرض توصيل “رسالة” ما من خلال “القصة” أو “السياق القصصي”، بينما السينما الخالصة هي شيء أقرب الى الموسيقى بتجريديتها، فهي أولا تتخلص من عقدة القالب القصصي لأن هدفها ليس رواية قصة داخل سياق، أي التعبير عن أفكار “أدبية” في الفيلم، بل تحرير الفيلم من سطوة الأدب والمسرح، والسعي لتوصيل أحاسيس ومشاعر وخلق حالة ذهنية واثارة الأفكار من خلال الصورة، الفضاء، التداخل بين الصور، التناغم بين الألوان، الإيقاع، الحركة.. إلخ
أما من الناحية العملية الأقل غلوا في التطرف، فالسينما الخالصة هي السينما التي تملك وسائل “سينمائية خالصة” للتعبير عن الموضوع أو بالأحرى عن “الرؤية” الخاصة للسينمائي، للمخرج المبدع (في مقابل المخرج الحرفي). هنا سنجد مثلا أن أكثر الجوانب الفنية في العمل السينمائي سينمائية، هي حركة الكاميرا، والمونتاج أي الايقاع الذي ينتج عن توليف اللقطات، واستخدام الزمن السينمائي (وهو غير الزمن الواقعي بالطبع) والمونتاج عنصر أساسي أيضا في خلق ذلك الزمن السينمائي. لكن السينما الخالصة تعتمد أيضا على الاستخدام الفني للإضاءة والصوت والموسيقى والألوان والتكوين التشكيلي في اللقطات باعتباره جانبا بصريا بالدرجة الأساسية وليس أحد جوانب الشرح، أو الحكي اللفظي كالحوار (الذي يعد سمة المسرح) مثلا.
السينما الخالصة ليست إذن، سينما “تجريدية” أو مجردة بالضرورة، بل يمكن أن تصوغ قصة ولكن من خلال اللغة البصرية- السمعية والتلاعب بتلك الأدوات من أجل توصيل حالة ذهنية أو حالة شعورية لدى المتفرج، وهذا ما كان يحاوله بل ويعبر عنه، سيد دراما التشويق الفريد هيتشكوك.
![]() |