الجياد مرآة لارواح اصحابها

محمد موسى – أمستردام
الذين شاهدوا فيلم “الهامس للحصان” ، تعرفوا دون قصد على الامريكي باك برانامان . فهو الذي قام بالحقيقة بكل الحركات الصعبة مع الجياد ، والتي من المفترض ان النجم روبرت ريدفورد أداها في الفيلم. وهو بالاضافة لعمله كبديل (دوبلير) للشخصية الاساسية في الفيلم الذي عرض في عام 1998 ، منح خبرته الطويلة لفريق الانتاج ، كما ساهم بتنقيح وتعديل بعض المفاهيم الشائعة عن الجياد ومروضيها . لذلك ليس غريبا ان يطل الممثل والمخرج الامريكي المعروف روبرت ريدفورد في الفيلم التسجيلي “باك” عن باك برانامان ، متحدثا بامتنان كبير عن الاضافة التي قدمها مروض الجياد في فيلم ” الهامس للحصان “، والذي قام روبرت ريدفورد باخراجه ايضا . كما ليس غريبا ايضا ، ان يتم اختيار الفيلم التسجيلي ضمن قائمة افلام مهرجان “سندانس” السينمائي في دورة العام الماضي، وهو المهرجان الذي يديره ” ريدفورد ” منذ سنوات طويلة.

لا يأخذ حديث فيلم “الهامس للحصان” الا بضعة دقائق فقط من زمن فيلم “باك” التسجيلي ، والذي يعرض حاليا في صالات سينمائية مختارة في بريطانيا وبعد عرضه في الولايات المتحدة الامريكية. فالتجربة السينمائية الوحيدة لم تكن الا محطة عابرة لباك برانامان ، والذي يقضي 9 اشهر من كل عام ، متنقلا بين مدن الغرب الامريكية ، مقدما خبرته، التي تعدت الاربعين عاما، لمئات الامريكيين الذين يواجهون مشاكل مع خيولهم ، مصرا في كل الجلسات العامة التي يعقدها ويطلق عليها “العيادات” : “ان الجياد تحمل بالعادة صعوبة مرآس اصحابها” ، ولا توجد خيول بطباع شرسة، لكن هناك بشر متقلبي المزاج ، وهم الذين يدفعون خيولهم للتمرد والعصيان.

يوفر الفيلم التسجيلي، الذي اخرجته الامريكية سيندي ميهل، مشاهد عدة تشير الى الموهبة الفريدة لباك برانامان بترويض الجياد الصعبة الطباع . هو لا يهمس لها ، كما يفعل روبرت ريدفورد في الفيلم الروائي الطويل ، لكنه يقودها بحركات تتنوع بين الحزم وتفهم كبير الى هدوء لم يعرفه اصحابها ابدا ، حتى انها تتحول بين يدي “باك” الى مايشبه حيوانات السيرك ، لكن دون المساس ابدا بكرامتها ، وكأن هناك طاقة ما تتسلل من المدرب الى الحصان ، لتهديء من روعه اولا ، ثم تجعله ينساق الى رغبات اصحابه . دون ان تخلو هذه العلاقة من إشتراطات ، ترتبط بصدق المدرب واخلاصه لجواده.

باك برانامان ليس ساحرا ، ونجاحه او فشله يرتبط احيانا بفداحة الضرر الذي اصاب الجياد ، فهو يفشل في الفترة التي تتابعه كاميرا الفيلم في ترويض حصان تعرض عند ولادته لنقص الاوكسجين ، الامر الذي اثر على دماغه ، ليتحول الى ما يشبه الحيوان المفترس .هذا الحصان البهي المظهر سيستحوذ على عشر دقائق شديدة الترقب من وقت الفيلم . في مشاهد عديدة سنراقب “باك” ومعه اخريين وهم يحاولون وقفه وحشية الحصان الذي كسر ظهر مربيته ، وعض في مشهد مرعب حقا رأس مساعد ل “باك”. لكن الاخير يرفض ان يصف الحصان بالمتوحش ، ويذكر بالظروف التي احاطت ولادته وكيف كان يمكن تجنب هذا المصير باهتمام مضاعف بالحصان الذي شبهه بالطفل الصعب التعلم.

هناك قصة شخصية قاسية لباك برانامان ، سنتعرف على جزء منها في الفيلم التسجيلي . هو الابن الذي فارقت امه الحياة مبكرا ، ليبقى تحت رعاية أب كان يضربه بالسياط ويجبره على تعلم العاب رمي الحبل ومهارات اخرى يشتهر بها رعاة البقر الامريكيين. الصدفة بعدها ستنقذ الابن من تصرفات الاب السادي ، لتنقله الشرطة الى بيت عائلة تقوم برعايته. ما تركته سنوات الطفولة سيلاحق “باك” معظم حياته ، وهي “الحياة” التي سخر جزء كبير منها لفهم عالم الخيول ، والذي سيكون الطريق الاساسي واحيانا الوحيد له لفهم عالم البشر!

الطفل المختبأ تحت الدمية
هناك ما يجمع بين باك برانامان و كيفين كلاش ، والاخير هو الشخصية التي يسلط عليها الانتباه في الفيلم التسجيلي “ان تكون إلمو: رحلة محرك الدمى ” للمخرجة كونستانس ماركس والذي يعرض حاليا في صالات سينمائية في بريطانيا (عرض ايضا في الدورة قبل السابقة لمهرجان سندانس الامريكي). فهما لم يعرفا طفولة عادية ، واتجها في وقت مبكر جدا وبشغف كبير الى هوايات ، والتي ستتطور بعد ذلك لمهن ، كما ان مسار الشخصيتين في الحياة يتشابه في اخلاصه لهاجس ، بدا واضحا من سنوات فتوتهما المبكرة.

لم يشبه كيفين كلاش في صباه اقرانه من الاطفال السود في الحي الذي ولد ونشأ فيه ، فبينما كان معظم ابناء الحي يتجهون الى الرياضات بانواعها ، كان “كيفين” يفكر بعالم الدمى المتحركة ، والتي سيقوم بعمر مبكر بصناعتها وتحريكها بنفسه ، في غرفته الصغيرة ، قبل ان تنتبه الى موهبته قناة تلفزيونية محلية ، وبعد ذلك قنوات تلفزيونية كبيرة في مدينة نيويورك . ليجد نفسه بعد سنوات فقط من عمله الاحترافي الاول ، ينضم الى فريق مسلسل “افتح ياسمسم” الامريكي ، وهو البرنامج الذي جذب جمهور واسع الى برامج الدمى ، ولازال يعد واحدا من اكثر البرامج التلفزيونية تاثيرا في العالم.

النجاح الحقيقي لكيفين كلاش سيكون عندما يستلم مهمة تحريك وصوت دمية “إلمو” ، فبعد ان كانت هذه الدمية على مقربة من الحذف من برنامج “افتح ياسمسم” بسبب عدم شعبيتها ، ستخضع على يدي كيفين كلاش لعملية تغيير شامله تبدأ من الصوت ، والذي سيؤديه كيفين بنفسه ، الى الشخصية ذاتها ، فهي ستتحول من حيوان متقلب المزاج الى آخر بريء، محب لغيره ، ولا يشبع من العناقات التي يطلبها من الجميع. هذه الشخصية ستحقق نجاحات كبيرة جدا ، بعضها تجاري ، اذ بيعت مئات الالف من لعبة حقيقة تشبه “إلمو” حول العالم ، واخرى تلفزيونية ، حيث كرست برنامج “إفتح ياسمسم” كاحد اكثر البرامج الاطفال تاثيرا . كما ان شعبية لم تقتصر على الاطفال ، فمشاهير كثر ظهروا من خلال حلقات البرنامج ، كان من آخرهم زوجة الرئيس باراك اوباما (ميشيل).

على صعيد العائلة ، تختلف نشاة شخصية فيلم ” ان تكون إلمو: رحلة محرك الدمى ” عن تلك في الفيلم الاول . فكيفين كلاش تلقى الكثير من الحب من والديه ، وهم الذين سيلهموه في ادائه لشخصية ” إلمو ” . فالعاطفة التي تتفجر من الدمية هو تشبه تلك التي حصل عليها من والديه ويامل ان يعيد جزءا منها لهم ، وكما يصف هو نفسه في الفيلم. وعندما يظهر والدي كيفين في الفيلم ، وهما المسنان الآن، يتحدثان بحب كبير عن الابن الذي دعما هوايته منذ البداية ، ثم يظهر بعدها كيفين وهو يقدم عروض خاصة لاطفال يعانون امراض مميته و يحاول ان يهبهم سعادة قصيرة ، تبدو إن دائرة انسانية عذبة قد إكتملت.


إعلان