غالب شعث: السوريون أخذوا أرشيف السينما الفلسطينية
“ضاع مشروعي السينمائي كما ضاع الوطن”
حوار: أسماء الغول
الوحدة والذكريات ما تبقى للمخرج الفلسطيني غالب شعث بعد تحطم العديد من النماذج على مدار عمره الطويل في الوطن والابداع والاخراج، لكن الاحلام لا تزال تراوده: تلك التي بدأت ولم تكتمل وأخرى قاربت على الاكتمال لكن الاحتلال قوضها، وأحلام لا تزال عالقة في الرأس يتطلع لتحقيقها.
كان شعث من أول المخرجين الفلسطينيين ممن حققوا العالمية وكذلك من أول من صنعوا أرشيف السينما الفلسطينية الذي ضاع وضاعت معه حقيقة اختفائه.
المخرج المقيم في القاهرة حيث التقته الجزيرة الوثائقية لا تزال روح الشباب تشوب صوته وابتسامته، يتكلم عن المستقبل بتفاؤل لا تعيقه أعوامه التسعة والسبعون، رغم أنه حين يتكلم عن الوطن تشعر بثقل عمره دفعة واحدة، فإحباطه مقيم في القلب، لكن ليس من الأرض بل ممن فاوض عليها.
عن وحدته ومشوار حياته وأفلامه فتح لنا شعث قلبه في هذا الحوار، كما فتحه حين كتب سيرته الذاتية التي ستصدر قريبا في القاهرة:
كيف تشعر الآن في القاهرة وأنت تنظر للماضي؟
أشعر بالرضا إلى حد ما، وأشعر بالراحة في الوطن العربي. وقد عشت في أوروبا عشر سنوات، ولم أتمنَ يوماً أن تكون بديلا عن وطني، فأنا لا أنتمي إلى هناك، ثقافتي مختلفة عنهم، ناهيك عن أن القدس ظلت في روحي تواسيها من غربة المكان، فقد ولدت فيها وعشت إلى أن بلغت الثالثة عشرة من عمري، إذ كنت أعيش في البلدة القديمة التي بقيت مبانيها وشوارعها في ذاكرتي.. هي ذكريات مغبشة لأنها قديمة، ولم تتجدد فالاحتلال يمنع ذهابي الى هناك، ورغم هوية غزة التي أحملها الآن إلا ان مشاعر القدس والحنين لها لا تزال تعشش في الروح.

إذن السفر والترحال أغناك عن أرض الوطن ذاتيا وابداعيا؟
لا شيء يغني الذات عن الوطن، ولكن الابداع عندما يتحقق في الغربة يصبح وطنا ليمنحك بعض الرضا، وأعترف أن تنقلاتي الكثيرة في حياتي بين بيروت وتونس مع منظمة التحرير الفلسطينية وتواجدي في أوروبا تكثف حنينا فوق حنين، أوجد في أفلامي الوطن. وبالنسبة لمشواري فأنا من مواليد القدس عام 1934، وبقيت أراها كما كنت أراها قبل 1948 إلى أن لجأنا الى غزة وانتهيت هناك من مرحلة الثانوية، وبعدها ذهبت الى السعودية إذ كان العمل فيها في تلك السنين ملجأ للشباب الفلسطيني المُهَجر، وبعدها توجهت إلى النمسا في عام 1957، وكنت احلم أن أصبح مخرجاً، وبالطبع عائلتي لم تقتنع ان اذهب لدراسة السينما لذلك بدأت في دراسة الهندسة المعمارية وخلال دراسة الهندسة دأبت على مشاهدة أفلام السينما، ومنها أفلام صهيونية تؤيد إسرائيل، مما جعلني أقرر مواصلة دراستي العليا في معهد السينما باكاديمية الفنون التعبيرية في فيينا، لأتخرج منها في العام 1967
لكني لا أتخيل أن السينما وقتها كانت بنفس فاعليتها اليوم..
ربما أكثر، فقد وجدت لحظتها ان السينما سلاح رهيب وقوي، فهنالك العديد من الناس يصدقون السينما، ويأخذون مواقف مع اسرائيل ضدنا بمجرد حضور فيلم، وبدت لي حينها السينما كأنها عبارة عن وسيلة تروج لتاريخ جديد، وفي هذا الوقت تزامن نشاط المنظمات الفلسطينية، وكنت رئيساً للتجمّع الطلابي الفلسطينيين في فيينا، وهذا دعم قراري لأتخرج من معهد السينما وألتحق بإعلام الثورة، وأساهم في خلق شيئا اسمه سينما فلسطينية، حيث لم يكن يوجد، حسب معلوماتي آنذاك أحد فلسطيني يفكر في التخصص بدراسة فن الإخراج السينمائي.
وهل كان العمل الذي خضت فيه على مقدار أحلام الطالب الذي يريد مواجهة السينما الصهيونية؟
“يهز شعث رأسه، وفي عينيه حزن قديم قائلاً ..”
الاجابة المباشرة على هذا السؤال هو فخ بحد ذاته.. خاصة أننا نعرف أن الثورات داخلنا وأحلامها تبقى دائما أقوى مما لو خرجت إلى الواقع، وسأجيبك بشكل آخر أو بوقائع، ففي بداية رجوعي مكثت في مصر بهدف اكتساب الخبرة العملية أولا قبل أن أتفرغ للعمل في سبيل القضية ببيروت، وكنت في مصر عملت بعض الأعمال في التلفزيون المصري، واشتهرت بعض تلك الأعمال حينذاك رغم أن دراستي متخصصة في السينما. ثم بدأت بكتابة سيناريو أول أعمالي السينمائية، واشتركت مع مجموعة من المخرجين الشبان في تشكيل جماعة أطلقنا عليها اسم “جماعة السينما الجديدة”، وصنعنا فيلمين هما “أغنية على الممر” من إخراج الزميل علي عبد الخالق و”الظلال في الجانب الاخر” من إخراجي وهو مقتبس عن رواية بنفس العنوان للكاتب المعروف محمود دياب. لكن الرقابة في مصر منعت الفيلم من العرض في ذلك الوقت لأسباب واهية، وبقيت أنتظر الإفراج عنه دون فائدة، مما جعلني أعجل في طلب تفرغي للعمل في بيروت، وكنت بصدد السفر حين تفاجأت بجريدة الاهرام وقتها تنشر خبرا مفاده فوز فيلم “الظلال في الجانب الاخر” في مهرجان كارلو فيفاري في تشكوسلوفكيا وكان من ارسله بعض الجهات التي ساهمت في منعه، وبعد اخذ الفيلم للجائزة سمحت به الرقابة لتمنعه مرة اخرى بعد اسبوع لما اثاره من مشاكل سياسية.
وماذا كانت قصة الفيلم ليستفز الرقابة إلى ذلك الحد؟
يحكي الفيلم قصة مجموعة من الطلبة الدارسين للفنون الجميلة في السنة النهائية، ومن بينهم شاب فلسطيني، وكل واحد منهم يعمل على بلورة مشروعه الإبداعي للتخرج في كلية الفنون. والفلسطيني بدأ يعمل على قضية اللاجئين، ثم تجاوباً مع نشاطات الثورة، قرر إنجاز مشروعه عن المقاومة الفلسطينية. وكي يرسم هذا الشاب مشروعه يذهب ليعيش في الاغوار مع المقاومة، وينضم للفدائيين فتنقطع أخباره عن زملائه، وينتقل إلى بيروت، ولكنه رويداً رويداً يشعر بالإحباط من الثورة التي لم تعد بسبب حصارها قادرة على التعبير عن نفسها بشكل صحيح، فيقرر أن يهاجر ويذهب لألمانيا، وهناك يبيع الصحف ومن ثم يكمل دراسته، وتتوفر له كل مقومات الاستقرار من عمل ودراسة وقصة حب إلا أنه لا يحس بالانتماء لحياته تلك، ومن هنا بدأ يلتقي بالفلسطينيين من جديد، وبطريقة سينمائية يشعر المشاهد ان البطل انضم لمجموعة فدائية جديدة.
رجعت إلى الوطن بعد اتفاق أوسلو في النصف الأول من التسعينيات فكيف تصف مشاعرك، بالسعادة أم أن ما يقوله الكاتب كارلوس فوينتس :”من النادر أن تتوافق السعادة مع التاريخ” صحيح؟

“ينظر بعيداً بتأمل ويقول..”
بالطبع صحيح.. فحين تكون هناك ثغرات من الظلم المحفورة عميقاً في تاريخ شعب فغالبا ما يلجأ هذا الشعب ليعبئها بنفسه بأوهام وأحلام عن الوطن، ورغم هذه الأحلام الكبيرة بالعودة إلا أنني كنت مِمّن رفضوا اتفاق اوسلو المشبوه، وما تحقق لم يكن حلماً او أي شيء بل كان كابوساً حرمني الحد الأدنى من حقوقي، ونحن نرى ماذا أخذنا من اوسلو وكان علي أن أختار ما بين السيء والأسوأ: الرجوع الى ما هو متاح من الوطن أو البقاء في الغربة، واخترت أهون الشرّين بأن أعود إلى بلاد لا تشبه بلادي تسود فيها أخلاق غير أخلاق الثورة التي شاركنا فيها في شبابنا، فما حدث كان مختلفاً، فهناك من حاولوا اقتسام الأرض والوطن كما يقتسمون الغنائم وبدون مراعاة للقدرات والكفاءات. وانكسر نموذج الوطن كما انكسر مشروع السينما، ورجعت إلى القاهرة محبطاً وهي كلمة رقيقة بالنسبة الى حالي التي كنت عليها.
دائما الأمكنة والمدن مفاصل محورية في ابداعنا الأول وعملنا الأول، كي يكتمل أو تشعر بالرضى عنه وأنت تنقلت من مصر إلى بيروت وتونس فكيف تواءمت المدن مع تطلعات الشاب الثورية؟
كان في مرحلة السبعينيات، إلى حد ما، الكثير من الإحباط خاصة بعد الهزيمة، ولكن الجيل حينذاك كان يحلم بالاستقلال لذلك كان العمل مدفوعا بهاجس الانجاز والابداع، وفي بيروت كنت بالفعل متفرغاً بشكل كامل للمساهمة في تطوير السينما الفلسطينية دون أن أعاني ما كان يعانيه البعض من الأنا المتضخمة التي منعتهم من الانجاز الحقيقي، فقد أردت أن أوجد حالة من الابداع بكليتها الفلسطينية في ظل الشتات أكثر من أن أبرز اسمي، وحين نظرت حولي في بيروت اكتشفت انه لا يوجد هناك “سينما فلسطينية” بل محاولات “افلام تسجيلية عن فلسطين”، وكان عندي مشروعي المرئي والسينمائي الذي قدمته الى اصحاب القرار في الانتاج السينمائي والذي كان مسؤول عنه دائرة الاعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية، تحت مسؤولية المخرج الراحل مصطفى أبوعلي لكنهم رفضوا المشروع، وبذلك مات كثير من التفاؤل حين وصلت الى بيروت، فقد وجدت اناسا يجلسون وراء المكاتب واهدافهم شخصية تتركز حول امتلاك سيارة أو بيت وأثاث فخم، ولا توجد أبدا مؤسسة سينمائية بالمعنى الصحيح…
“يسكت متنهداً بثقل….”
ثم ماذا حدث..؟
كان العمل السينمائي مشتتا يشبه تشتت الشعب الفلسطيني، وكنت في قسم السينما الذي يقع تحت مسؤولية حركة فتح، وحاولت مرارا خلق قاعدة لجسم سليم بالتعاون مع الراحل عبدالله الحوراني الذي كان مديرا لدائرة الثقافة في المنظمة، ولكن لم تنجح المحاولات. ولكن مسؤول الاعلام الموحد في منظمة التحرير، وهو “ماجد ابو شرار” رحمه الله، نصحني بالبقاء في بيروت لان هناك مؤسسة إنتاجية اسمها “صامد” وهي “معامل أبناء شهداء فلسطين”، اقتنع رئيسها ابوعلاء قريع ان يكون في المؤسسة قطاعا للسينما لانتاج الأفلام، وبالفعل بدأنا في التأسيس وأصبح حلمي بدل أن أعمل فيلماً أن اصنع مؤسسة تنتج افلاماً، ونسيت مشاريعي الخاصة، وبدأت أشتغل على أساس مؤسسة تنتج وتصنع افلام روائية وافلام تسجيلية وتعليمية، وأنتجنا في البداية فيلما اسمه “المفتاح” من خلال “قطاع السينما” ومن ثم فيلم “يوم الارض” وفيلم “غصن الزيتون”، وكنا نتطور بالفعل بدليل الجوائز الدولية المتميزة التي حصلت عليها تلك الأفلام ، وكان هناك تخطيط ان يكون لدينا معمل سينمائي كامل، فمثلاً حين صورت فيلم “المفتاح” في بيروت كان المونتاج والطبع في لندن وفيلم “يوم الارض” كان مونتاجه وطبعه في روما، وعندما نضجت فكرة فيلم “غصن زيتون”، كان معمل الصخرة السينمائي قد اكتمل في 1982. عندها شعرت بالفعل اني احقق حلمي وأني أصنع فيلما من الألف الى الياء في بيروت، في معمل فلسطيني وبأيدٍ فلسطينية.
من حديثك سأتوقع هنا أن الحلم تقوض مرة أخرى بإجتياح بيروت، فأحلامك مثل وحش الهيدرا في الميثولوجيا كلما قطعت رأسها ينمو آخر وأحيانا أكثر، ولا يوجد هرقل ليقضي عليها؟
“يضحك بمرارة ويتابع..”
حتى الآن لا يوجد هرقل ليقتل أحلامنا، لأن غيرها ينمو بشكل دائم كلما قطعوها، وفي تلك السنة كان من قتل الحلم الإجتياح وضاع كل شيء سواء مؤسسة صامد للسينما أو مركز الأبحاث، ومن هذه الأشياء التي ضاعت الارشيف السينمائي فقد قيل ان اسرائيل سرقته، وحين سألت رئيسي المسؤول المباشر وقتها، أبو علاء، عن المعمل وعن الأرشيف، قال لي إن السوريين هم من أخذوه. ولا أعرف هل هو أمر جيد أم سيء أنني في يوم الاجتياح كنت في السعودية لأمر خاص، وحين علمت بالاجتياح الذي حال دوني والعودة إلى بيروت رجعت إلى مصر حزينا على المشروع الكبير الذي تخليت عن اسمي من أجله. وفي مصر تجدد الحلم فقد كان هناك مشروع قديم بيني وبين ابوعلاء قريع بإيعاز وإشراف القائد أبو عمار، بأن نبني هناك مؤسسة للانتاج السينمائي، وهكذا تجدد الأمل، على أن تكون هذه المؤسسة فرعا لشركة انتاج في بيروت رخصتها لبنانية، ويهمها الانتاج التجاري إلى جانب الأفلام الفلسطينية، ولكن مع الأسف لم تأخذ التصريح المفترض في مصر، بسبب إصرار البعض منا على أن تسجل المؤسسة باسمهم . وماتت الفكرة.