“أمل” لنجوم الغانم: من الوثائقي إلى الدكيّودراما

دبي : عدنان حسين أحمد
للفلم الوثائقي شروطه الصارمة كأن يكون البطل شخصاً لا يحترف التمثيل كمهنة يعتاش من ورائها، وأن يُكتَب السيناريو بعد التصوير، وأن يُمسك المخرج ببعض المشاعر والانفعالات الداخلية الصادقة التي تأتي عفو الخاطر، وأن لا يتوخى المخرج الربح من إنجازه لهذا الفلم الذي يتمنى أن يرتقي به إلى مستوى الوثيقة وغيرها من الاشتراطات التي يعرفها المعنيون بالفلم الوثائقي. لقد عزمتْ المخرجة الإماراتية الجادة  نجوم الغانم على أن تنجز فلماً وثائقياً بادئ الأمر عن الفنانة المسرحية السورية أمل حويجة، لكنها غيّرت رأيها شيئاً فشيئاً حينما اكتشفت أن المادة المُصورة تتجاوز حدود الفلم الوثائقي وترتقي به إلى مستوى الدكيّودراما، ذلك لأن الانعطافة التاريخية التي مرّت بها الشقيقة سوريا كانت أكبر من كونها حدثاً عابراً لذلك قررت المخرجة نجوم الغانم أن تعيد بناء الفلم وتقدمه بالصيغة الجديدة التي اقتنعت بها. يمكننا أن نختصر القصة السينمائية لهذا الفلم بالشكل التالي: “قرّرت الفنانة المسرحية وكاتبة أدب الأطفال أمل حويجة أن تغادر سوريا إلى الإمارات العربية لمدة سنة لكي تعمل وتجمع بعض النقود، وتعود إلى سوريا لأنها وعدت أعضاء فرقتها المسرحية هناك أن ترجع لهم بعد هذه المدة المحددة، لكنها، بحسب تصريحها الشخصي غب عرض الفلم في دبي، قالت إنها كذّبت عليهم ولم تلتزم بالوعد الذي قطعته على نفسها، وبقيت في الإمارات لمدة خمس سنوات، وحينما عادت إلى سوريا كان البلد يشهد غلياناً كبيراً لم تستطع أن تسهم فيه بالقدر الكافي لذلك قررت العودة ثانية إلى الإمارات التي أحبتها كثيراً، لكنها لم تلبِّ كل طموحاتها الثقافية والفنية”.

                         المخرجة نجوم الغانم

الغربة والاغتراب
لابد من الإشارة إلى أن الفنانة المسرحية أمل حويجة تعاني من الغربة المكانية والاغتراب الروحي في آنٍ معاً. فعلى الرغم من العلاقة الحميمة التي تربط أمل بمدن أبو ظبي ودبي والشارقة وغيرها من حواضر الإمارات العربية المتحدة إلا أنها تظل بحاجة ماسة إلى رائحة الأهل والأصدقاء والمعارف، وعبق الحارة والمنزل والحدائق والمتنزهات العامة، فالوطن ذاكرة قبل أن يكون محفظة نقود ممتلئة أو سكن مريح أو إقامة في بلد متطور تتوفر فيه كل المعطيات العصرية الراهنة. لا شك في أن أمل حويجة تحب أبو ظبي أيضاً وبقية المدن الإماراتية التي عاشت بها أو مرّت بها مروراً عابراً، لكنها كانت تشكو من قلة البروفات المسرحية على عكس بلدها سوريا التي تزدهر فيها كل مفاصل الفن والثقافة، كما أنها تشكو من ضيق هامش الحرية بسبب اشتراطات البلد وما يتوفر عليه من التزام بالعادات والتقاليد والأعراف المرعية التي يجب أن يخضع لها الجميع، بما فيهم الوافدون الأجانب الذين تصل نسبهم إلى 70% من المجموع الكلي للسكان الإماراتيين. الفلم معني بالأمكنة الكثيرة التي أحبتها الشخصية الرئيسية في الفلم مثل البرّ، والبحر، وحديقة المنزل، والمتنزهات العامة، والمراكز الثقافية العامة، وصالات الرقص والغناء والفن التشكيلي وما إلى ذلك. كما توقفت المخرجة، وهي شاعرة أصلاً، عند التفاصيل الصغيرة في كل زاوية من زوايا البيت الحميم الذي كانت تعشقه الشخصية الرئيسية التي تتوفر على قد كبير من الإبداع في أكثر من حقل أدبي وفني. ومن المفارقات المثيرة أنها أنها لم تتزوج إلا بعد مدة زمنية طويلة من سنِّ الاستحقاق، إذ وجدت في حبيبها وزوجها لاحقاً “شحاذة” أنموذجاً للرجل الذي كانت تحلم به، فهو يجمع في حياته بين العمل الأدبي والسياسي في آنٍ معاً، فثمة فنان في داخله، وهذه الآصرة الأدبية والفنية معاً هي جمعته بالفنانة أمل حويجة. وحينما قررت العودة إلى سوريا لم يستطع زوجها الذهاب معها إلى هناك فاضطر إلى السفر إلى أثينا والإقامة هناك إلى أن تعود الأمور إلى نصابها الصحيح. وحينما عادت أمل من سوريا إثر ثورة الربيع العربي هناك عاد هو إلى الإمارات لكي يواصلا حياتهما الزوجية. تؤكد المخرجة بأن بطلتها كانت تشعر بالغربة المكانية لأنها بعيدة عن أهلها وذويها في سوريا، لكنها كانت تعوِّض هذه الغربة بواسطة محبتها الفائقة التي تغدقها على كل الأصدقاء والناس المحيطين بها سواء أكانوا إماراتيين أو عرباً أو من جنسيات عالمية مختلفة. كما تشعر بالاغتراب الروحي والثقافي لأنها فقدت شهرتها التي صنعتها على مرّ سنوات طويلة، ولابد أن تؤسس لشهرتها ومجدها الأدبي والفني من جديد.

                                        أمل حويجة

وهذا الشعور كان ينتاب المخرجة نفسها حينما تغربت عن الإمارات وذهبت إلى أستراليا وأميركا بهدف إكمال دراستها الجامعية، بينما كانت في الإمارات اسماً مكرساً ومعروفاً كشاعرة وأديبة مبدعة. لقد وفت أمل حويجة بوعدها، وعادت في نهاية المطاف إلى سوريا، وإلى فرقتها المسرحية على وجه التحديد، لكنها لم تستطع أن تشارك بالقدر الكافي في الربيع العربي الذي أطاح بالعديد من الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، لكن المؤسسات القديمة ظلت على ما هي عليه من فساد إداري وأخلاقي مزمنين، فكأننا أطحنا بالتماثيل الكبيرة وأبقينا الأصنام الصغيرة في مواقعها السرمدية. هذه الانعطافة هي التي حفّزت المخرجة نجوم الغانم لأن تحوّل فلمها من وثائقي صرف إلى دكيّودراما لأنه ينطوي على اشتراطات هذه الأخيرة، فما كان من بطلة الفلم أمل إلا أن تعود ثانية إلى الإمارات التي عشقتها وهامت بها حُباً لتواصل حياتها الفنية والثقافية التي بدأتها قبل ست سنوات أويزيد، وتعيد ترتيب أوراقها، وتتنازل عن بعض الاشتراطات التي قد لا تتوفر في كل زمان ومكان. فالغربة على حد قول زميلتها منى سعيد التي تعمل معها في مجلة “ماجد” المخصصة للأطفال بأن الغربة قد منحتهم الأمان، وزوّدتهم بأسباب العيش الكريم، ورعت أبناءهم سواء في المدارس أو في الحياة العامة، وفتحت أمامهم آفاق المستقبل الذي يعدهم بالكثير. ثمة شخصيات مساندة كثيرة أطلت إلى جانب الشخصية الرئيسة أمل حويجة نذكر منها زوجها الذي آزرها في كل المواقف الصعبة التي صادفتها في حياتها، وزميلتها الصحفية منى سعيد التي كانت تعمل معها في مجلة “ماجد” وغيرها من الشخصيات الموازرة سواء ضمن الإطار العائلي أو خارجة. كما توقفت المخرجة طويلاً عن العالمين الداخلي والخارجي للبطلة أمل حويجة، وقد نجحت المخرجة في تقديم صورة بانورامية تنتقل بسلاسة من الذات إلى الموضوع وبالعكس. بقي أن نقول بأن نجوم الغانم قد أخرجت العديد من الأفلام نذكر منها “ما بين ضفتين”، “المريد” و “حمامة”. وقد فازت بالعديد من الجوائز من بينها جائزة أفضل مخرجة إماراتية.


إعلان