الأدلّة البصرية في “ثورة الغريب”

سنتعرّض في هذه الدراسة النقدية لفلم “ثورة الغريب” للمخرج شريف صلاح وهو من إنتاج “الجزيرة الوثائقية” التي تتوفر على باع طويلة في هذا المضمار. قسّم المخرج فلمه إلى أربعة أقسام، وكان يهدف من هذا التقسيم إلى بناء فلمه على أربعة مستويات رئيسية تكشف للمتلقي رؤيته الإخراجية التي يحاول تأكيدها بواسطة المضامين العميقة، والأدلة البصرية الدامغة التي تعزز من مصداقية فلمه الوثائقي الذي انضوى تحت اسم رمزي يتوفر على أبعاد دلالية سنلمسها بين تضاعيف هذا الفلم، وفي نهايته المعبِّرة على وجه التحديد.
انتقى المخرج شريف صلاح اثنتا عشرة جملة مكثّفة لاثني عشر شخصاً من المساهمين في فلمه الوثائقي الذي اشتمل على “22” شخصية كانت تعبِّر عن وجهات نظرها على مدار الفلم الذي بلغت مدته “54” دقيقة. وغالبية هذه الآراء تؤكد على أن الثورة قد بدأت من السويس، وأن روح المقاومة مترسِّخة في أعماق المواطنين “السوايْسة” الذين حوّلوا بلدتهم إلى ساحة معركة حقيقية، وكتبوا على كل جدار فيها “يسقط حسني مبارك”، وأنهم لن يسمحوا بعد اليوم بأن يعيشوا غرباء أو مهمّشين فيها وهم الذين قاوموا القوات الإسرائيلية المحتلة على أرضها وألحقوا بها هزيمة نكراء لا يزال يتذكرها الصغار والكبار على حدٍ سواء.

اللقطة التأسيسية
يعتمد هذا الفلم على العديد من اللقطات والمَشاهد الأرشيفية المهمة التي تُغني الفلم وتعزّز أدّلته البصرية “Visual evidences”، كما تقوّي في الوقت ذاته حجاجه البصري ” Visual argument”، خصوصاً في الجزء الأول من الفلم الذي سيُفتتح بلقطة تأسيسية “Establishing shot” مهمة تُحيل إلى السويس كمكان يتوفر على معطيات جغرافية أبرزها البحر الأحمر وخليج السويس وما ينطويان عليه من ثروات كثيرة سنأتي على ذكرها لاحقاً. كما أن شخصية عبد المنعم قناوي التي تتصدر اللقطة التأسيسية هي واحدة من الشخصيات المحورية التي يعتمد عليها بناء الفلم برمته، فإضافة إلى كونه أحد أبطال منظمة سيناء التي قاومت العدوان الإسرائيلي ودحرته في معركة السويس في 24 أكتوبر 1973، فهو يمثِّل العصب النابض الذي يمّد أبناء المدينة بنسغ المحبة والولاء النادرين لأرض السويس خاصة، وعموم الأراضي المصرية بشكل عام.
تشكِّل “الرؤوس المتكلمة” بتعبير المخرج والسينارست الأميركي باري هامب نقطة ضعف في العديد من الأفلام الوثائقية، لكن هذا الضعف يتلاشى حينما يعزّز المخرج سياق فلمه الوثائقي بالأدلة البصرية القوية والجدال البصري العميق اللذين يقدِّمان في نهاية الأمر قصة سينمائية محبوكة تصل إلى المتلقي من دون تشويش أو ارتباك.

كسر شوكة المحتل
لاشك في أن قصة مقاومة المحتل الإسرائيلي، وكسر شوكته، لن تكتمل ما لم يسرد الجميع أدواراهم فيها. فعبد المنعم قناوي يتذكر جيداً كيف تشكّلت “منظمة سيناء” وهو أحد أعضائها البارزين الذين قاوموا المحتل ودحروه فوق أراضي السويس بعد أن كبّدوه خسائر كبيرة في الأرواح والمعدّات. يؤكد قناوي بأن ثمن الانتصار كان غالياً فقد قدّم أهالي السويس خيرة شبابهم فداءً للوطن أمثال الشهداء أحمد أبو هاشم وإبراهيم سليمان وأشرف عبد الدايم وفايز حافظ أمين وغيرهم الكثير، فهؤلاء هم أبرز الشهداء الذين ذاع صيتهم في حينه، وتناقل الناس أخبارهم، ربما بسبب الواجبات الخطيرة التي أُسندت إليهم، فبعضهم هاجم الدبابات الإسرائيلية، وبعضهم الآخر اقتحم مبنى قسم شرطة الأربعين وأصبح هدفاً سهلاً  للنيران الإسرائيلية، فلا غرابة أن تصبح تضحيات “السوايسة” بالمئات لأن المعارك المحتدمة كانت وجهاً لوجه، ولا مجال أمامهم للتراجع والانكفاء. يعزِّز هذه القصة أحمد العطيفي، وهو أحد أبطال منظمة سيناء أيضاً الذي يتذكر اسم الدبابات الإسرائيلية “سنتورين 7” وكيف كان المقاومون السوايسة يقتحمون الدبابات، ويضربونها بالقنابل، ويلاحقون أفراد طواقمها الذين لاذوا بالبيوت المحاذية لها، بل أنه يتذكر عدد الدبابات التي أحرقوها بجرادل البنزين وهي “36” قطعة خشية أن تقوم إسرائيل بهجوم آخر وتستعيد فيه هذه الدبابات. أما الشيخ حافظ سلامة، قائد المقاومة الشعبية بالسويس، فقد قال بأن عدد الدبابات والمدرعات العسكرية قد وصل إلى “67” قطعة دُمرت كلها بالأسلحة البسيطة المتوفرة لدى المقاومين. لم يمت كل المهاجمين الإسرائيلين الذي تمترسوا بقسم شرطة الأربعين فهناك ستة أفراد لاذوا بالفرار ونجوا بجلودهم ومن بينهم شخص معروف هو الذي كتب لاحقاً كتاباً أطلق عليه اسم “التقصير”. وبحسب قناوي فإن الله سبحانه وتعالى أراد لهؤلاء المُحتلين أن يعودوا إلى إسرائيل ويسردوا لأهلهم وذويهم قصة المقاومة العنيفة التي صدمتهم وكبّدتهم خسائر جسيمة في الأرواح والمعدّات الثقيلة.

السخرية المُرَّة


ينطوي هذا الفلم على نفس تهكمي أيضاً يمكن تلّمسه في بعض الجُمل المتناثرة التي تفوّه بها السيد عبد المنعم قناوي لمناسبة تكريمه من قِبل السيدة جيهان السادات في أول عيد قومي للسويس حيث قال بالحرف الواحد: “جاءت جيهان السادات واحتفلت بهذا اليوم المجيد وكرّمتنا، أعطتنا كل واحد منا شهادة استثمار بعشرة جنيه”!. يشعر المواطنون السوايسة بأن حقهم مغموط تماماً كمقاومين ومواطنين في آنٍ معاً. فالسيد طلعت خليل، عضو الهيئة العليا لحزب الغد بالسويس يقول إن الناس الذين قاوموا المحتل في 24 أكتوبر 1973 تم اهمالهم بشكل غريب، فهم لم يتكرموا حتى على المستوى المعيشي. وهذا ما يؤكده الشيخ حافظ سلامة الذي ذكر بأن أحداً لم يُكرَّم من رجال المقاومة، ولكنه أشار إلى حصول كل واحد منهم على “نوط الامتياز” الذي لا تتجاوز قيمته “50” قرشاً أو “5” جنيهات في أفضل الأحوال! إنّ التكريم الأساسي، كما يذهب، العم قناوي هو “أولاً وأخيراً عند رب العالمين”، ويبدو أنه لا ينتظر شيئاً من الحكومة المصرية التي كانت ضنينة معه إلى حدّ اللعنة. لقد تحول العم قناوي إلى رمز روحي وأخلاقي في نفوس السوايسة صغيرهم وكبيرهم، فالناشطة السياسية الشابة جهاد محمد تقول بأنها “تربّت على كلمات الكابتن غزالي، وحكايات الحاج عبد المنعم قناوي، وكل الرجال المصريين الأبطال”. أما سعود عمر، القيادي العمالي بمدينة السويس فقد جاشت مشاعره حينما تذكّر العم قناوي الذي يسافر من السويس إلى القاهرة وبالعكس على قدميه، ويحمي مؤخرة الجيش الثالث، ويقوم بالعديد من الأعمال البطولية، لكن حينما تنتهي الحرب، وينفضّ الحصار عن السويس، يعود العم قناوي كسائق ميكروباص لكي ينقل أطفالنا، الذين تتماثل مشاعرهم الطفولية مع مشاعره الصادقة، من البيت إلى المدرسة يومياً ثم تخنقه العبرة فتتلاشى صورته. الكابتن غزالي، مؤسس فرقة أولاد الأرض له وجهة نظر أخرى تماماً فهو يرى أن التكريم قد خطفه الناس الذين لا يستحقونه أبداً حتى على صعيد صعيد علاقتهم بالوطن.

عرّافة مبارك
يلفت أحمد الكيلاني الانتباه إلى شيء غريب في شخصية الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي زار محافظات مصر كلها مرات عديدة خلال ثلاثين سنة من سنوات حكمه المشؤوم، ولكنه لم يزر السويس مرة واحدة في حياته! وحينما ندقق كمتلقين في السبب الرئيسي الذي يمنعه من الزيارة نرى أنه، بحسب الشيخ حافظ سلامة، كان يخشى من زيارة السويس لأن عرّافة أسرّته بأن نهايته ستكون في السويس إن هو زارها أو دخلها بأي شكل من الأشكال! لذلك يعتقد حسين الشاذلي، وهو مشارك في ثورة 25 يناير، أن مبارك أهمل السويس، وهمّشها، وأقصاها من مجال تفكيره. فلا غرابة أن يعتقد الشيخ حافظ سلامة بأن السويس خُطط لها أن تكون جنة أرضية في أقل تقدير، لكنها الآن أشبه بمقبرة، وهذا التوصيف الدقيق عززته الكثير من الأدلة البصرية التي أُخدت في مختلف أحياء وأزقة السويس حيث شاهدنا الجدران المتآكلة التي سقط كساؤها الخارجي، ورأينا مواسير المياه الصدئة التي تنقِّط ماءً، كما روّعتنا أكداس النفايات التي ارتفعت على أرصفة الشوارع الرئيسية والفرعية للمدينة. إذاً، كانت السويس عروساً للبحر الأحمر قبل العقود الثلاثة من حكم مبارك، وها هي الآن أشبه بمقبرة على الرغم من أنها أغنى محافظة في مصر، كما يذهب أحمد الكيلاني، في نقل أحساسيس المواطنين السوايسة الذين يعتقدون بأن ثلث الثروة النفطية، وثلث الصناعة المصرية موجودة في السويس، فهذه المدينة التي يبلغ تعدادها “750” ألف نسمة، فيها أربعة موانئ كبيرة، وفيها نصف قطاع الصيد تقريباً، وأن مواطنيها يعتقدون بأنها هونغ كونغ المنطقة، لكن نظام مبارك أفقرها، وهمّشها، وجعلها تغص بالبطالة. وقد ذكر أشرف محسن، وهو من المشاركين في ثورة 25 يناير بأن عدد العاطلين عن العمل قد بلغ “35” ألف مواطن لم يعثروا على فرصة عمل في مدينتهم وهم مضطرون للبحث عن عمل خارج السويس. ويعتقد أن السبب هو استقدام نظام مبارك للعمالة الأجنبية، وقد رأينا دليلاً بصرياً منشوراً في إحدى الصحف يكشف بأن مصر استقدمت “40” شركة أجنبية وبمعيتها “8” آلاف عامل أسيوي، هذا إضافة إلى القمع، والاعتقالات العشوائية، وانعدام الجانب الأمني. ربما تكون مشاركة الناشطة السياسية الشابة جهاد محمد متفردة، ليس لأنها امرأة حسب، وإنما لأنها واعية ومدركة لخطورة هذا النظام القمعي الذي خطف سفينة البلاد الكبيرة وغامر بها على مدى ثلاثة عقود طويلة، وأوصل الناس إلى الاحساس بفقدان كرامتهم. لنستمع إلى ما تقوله الشابة جهاد: “حاسة إني ماليش كرامة في بلدي” وتضيف: “وممكن يحبسني مئة سنة، وممكن أتبهدل بدون أي سبب”! عيد جمال، وهو مشارك آخر في ثورة 25 يناير، يُسجن، ويُعلّق يوماً كاملاً في غرفة التعذيب لأنه طلب من عنصر مباحث قسم الأربعين هويته.


إعلان