قاسم حوّل: حينما تسقط الثقافة يسقط الوطن
ولكن حينما تسقط السياسة يسقط النظام فقط..
صالح سويسي – تونس
كان لقاء نابل الدولي للسينما العربية فرصة كي نلتقي المخرج والناقد العراقي قاسم حوّل، صاحب التجربة المسرحية السينمائية الطويلة والهامّة كتابة ونقدا وإخراجا وتمثيلا…
في هذا الحوار تحدث حوّل لموقع الوثائقية عن بداياته وشغفه المبكر بالشاشة وهوسه بالفنّ، حيث انطلقت تجربته مبكرا جدا مقارنة بعمره، أسس فرقة مسرحية وشركة إنتاج سينمائي وأصدر مجلة متخصصة بالنقد السينمائي في عمر 26 سنة فقط، بل وأنتج أول أفلاكه وقتها…
في الحوار أيضا نقف عند علاقة المخرج بالرئيس الراحل صدام حسين والنظام العراقي السابق وحياته في المهجر وعن جديده…
انطلقت في سن مبكرة جدا مسرحيا وهو ما تزامن مع انطلاق مشاكلك مع السلطة؟
كنت أتابع المسرحيات التي يتمّ عرضها في مدينتي وهو ما قادني إلى هذا العالم المدهش.. أن ترى جمهورا ينظر ومبدعا يقدم مشهدا من الحياة، كما أنني كنت مهووسا بالقراءة منذ صغري والحركة السياسية في العراق وقتها كانت تساعد على ذلك، كان هناك نضج سياسي في العهد الملكي والقوى اليسارية والليبرالية كانت لديها اهتمامات بالثقافة بل وتشكل الثقافة جانبا من تصوراتها، والتعليمات التي تصدر لوسائل الإعلام والقوى الديمقراطية قادتنا إلى أن ننحو منحى ثقافيا في حياتنا ومنحى تقدميا في تصوراتنا والفن بطبيعته ظاهرة تقدمية في الحياة.

وأنا لي قناعة وأقول دائما “حينما تسقط السياسة يسقط النظام ولكن حينما تسقط الثقافة يسقط الوطن” بما أن الثقافة هي هوية الوطن، وذلك كان اهتمامي الوطني والثقافي وفي ذلك الوقت كانت الحركة السينمائية في بدايتها في العراق، وأنا كنت أحب الشاشة السينمائية وكنت مهووسا بالمشاهدة ولا أظنّ أن فيلما عرض في العراق في تلك الفترة ولفترة طويلة من حياتي لم أشاهده، وحتى لما توجهت لكتابة النقد السينمائي في الصحف العراقية ومن يرجع لتاريخ تلك الحقبة يجد أنني كتبت عن أغلب الأفلام بشكل أسبوعي حتى تعود الجمهور على كتاباتي لاحقا وصار كثيرون لا يشاهدون فيلما إلاّ عندما يقرؤون رأيي عنه. إذن كانت هناك حركة ووهج ثقافي، لكنّ التحولات السياسية الدرامية التي حصلت في العراق قادت إلى ارتباك في الثقافة العراقية. الثقافة العراقية هي عطاء فردي في أغلبه في الرسم في الشعر في القصة في الرواية عدا السينما التي تتطلب عملا جماعيا، ولذلك تأثرت السينما بالأحداث الدرامية السياسية وكانت النتائج سلبية.
المثقف يمكن أن ينزوي ويرسم لوحة أو يكتب قصة، لكن السينمائي لديه كاميرا تظهر في الشارع وعنده أجهزة إنارة وتراخيص ويحتاج إلى قاعات سينما، وهو ما جعل السينما عملية صعبة سيّما أنني بعد تخرجي من معهد الفنون الجميلة وأنشأت فرقتي المسرحية “مسرح اليوم” وشركتي السينمائية “أفلام اليوم” وأصدرت مجلة “السينما اليوم” وأنتجنا أول أفلامنا الذي حمل عنوان “الحارس” والذي نال التانيت الفضي لأول دورة لأيام قرطاج السينمائي ووقتها حجب التانيت الذهبي ما يعني أن الفيلم تحصل على الجائزة الأولى.
أول أفلامك وعمرك 26 سنة وصاحب شركة إنتاج مسرحي وأخرى سينمائية، فضلا عن أنك أصبحت مرجعا لمشاهدة الأفلام لدى الجمهور من خلال كتاباتك النقدية، هذا يعني أنك تحملت مسؤولية تاريخية في سنّ مبكرة؟
فيلم “الحارس” أنجزته وعمري 26 سنة وتعرضت فيما بعد إلى مضايقات مع وصول سلطة فاشية للحكم في العراق، حيث تمّ سحب ترخيص الشركة وإغلاقها وتمّ اعتقالي أيضا، إبّان الانقلاب العسكري وبداية الحكم البعثي، وأنا اليوم آسف على سقوط النظام الملكي في العراق، لأنه كان نظاما هادئا وكان التطور الاجتماعي والاقتصادي سلميّا وطبيعيّا وتلقائيّا، لكنّ الحركات الثورية كانت دائما تريد أن تنجز تغييرات قسرية، ونحن اليوم أمام أشكال منها في العالم العربي.
وحينما تحررت من هذه الورطة التي تمّ زجّي فيها سافرت إلى بيروت وتعرفت على غسان كنفاني وصرنا أصدقاء وعرض عليّ العمل في مجلة الهدف وتسلمت القسم الثقافي، ومارست الكتابة الصحفية ولم أبتعد عن السينما، وسرعان ما رتبت أوضاعي في لبنان وأنشأت قسم سينما للفلسطينيين وأنتجت عددا من الأفلام الوثائقية وأحرزت على أول جائزة للسينما الفلسطينية وهي جائزة فضية، ثمّ أنتجت فيلم “عائد إلى حيفا” عن رواية غسان كنفاني وكان أول فيلم روائي في سينما المقاومة، ثمّ أرخت للسينما الفلسطينية من خلال كتاب أصبح فيما بعد مرجعا لكثير من الدارسين وأصحاب الأطروحات. وعموما قدمتُ أكثر من عشرين عملا جلها وثائقية…
ثمّ عدت للعراق وانطلقت في أعمال أخرى؟
في تلك الفترة تراجعت السلطة في موقفها مني وأرسلت لي وفدا إلى بيروت وطلبوا منّي الرجوع، فعدت ولكن بضمانات فلسطينية، وطلبوا مني أن أخرج فيلما، وأسست اتحاد السينمائيين الفلسطينيين العرب وكنت رئيسه وكنت قبلها أسست السينما البديلة مع عدد من السينمائيين العرب، وفي العراق أخرجت سنة 1975 فيلم “الأهوار” ثم طُلب مني أن أخرج فيلما روائيا وكان شريط “بيوت في ذلك الزقاق” سنة 1978 وعرض في قرطاج والفيلم عن فكرة للكويتي جاسم المطير، ولكني لم أحضر افتتاح الفيلم لأنني كنت هربت حينها لإيطاليا بعد أن رفضت مقابلة صدام حسين، وقيل لي وقتها أنّ عشرات الألوف حضروا العرض وأن قاعة العرض تكسرت من فرط الزحام وأنّ الجمهور كان يهتف باسمين ولقي تجاوبا نقديا هاما.
سينما المهجر

هل يمكن الحديث عن سينما عربية في المهجر؟
لا يمكن صناعة سينما عراقية خارج العراق، كما لا يمكن إنجاز سينما أمريكية خارج أمريكا أو سينما تونسية خارج تونس، لأنني لو احتجت إلى فضاء للتصوير أن أغيّر شارع الرشيد مثلا بشارع آخر في بلاد أخرى أو منطقة الأهوار المائية بمنطقة أخرى، والسينما دائما هي فن الواقع حتى في مجالها السريالي أو التجريبي هي دائما الواقع، وحتى لو كان نمط التفكير أو أسلوب التفكير مغايرا للواقع لابد أن يكون الواقع هو مادة السينما. ولذلك كلما أردت أن تصنع سينما عن بلدك تذهب لبلدك، فإذا ابتعدت عنه تبحث عن حلول ولكنها تبقى عرجاء.
إذن لم تخرج أي عمل عراقي في المهجر؟
طبعا لا، لم أخرج أفلاما عراقية خارج العراق، أنجزت فيلما في هولندا وهو فيلم هولندي، كما أنجزت ستّة أفلام حول التراث الليبي فهي أفلام ليبية. إلى أن خطر لي إنجاز فيلم المغنّي الذي وجدت له تمويلا فرنسيا وذهبت للبصر مدينتي سنة 2099 لإنجازه.
إذن عدت للبلد أخيرا وفتّحت أبواب العراق من جديد؟
نعم ولكن هي مفتوحة للدخول للبلد فقط، وأسأل هل أنني لو فكرت في صناعة فيلم حول الأيديولوجيات الدينية في العراق، هل يمكنني ذلك؟ بالطبع لا يكون ذلك مسموحا، إذن فالمسألة ليست الدخول للوطن أو الخروج منه، أنا كان يمكن أن أدخل زمن الديكتاتور وبالعكس كان يمكن أن أعود معززا مكرما وأن يفتحوا لي الآفاق التي أريدها، لأن صدام طلب أن يراني حتى يكرمني ولكني رفضت، إذن المسألة مرتبطة بحرية التفكير، كان يمكن أن أتنازل عن أفكاري تجاه الديكتاتورية، وكان أمامي بلد غني يمكنني أن آخذ ما أريد، ولكن الفكرة هي كيف تكون أمينا للواقع لأنك إزاء مسؤولية تاريخية أمام نفسك أولا ثم أمام شعبك. لأن أخطر شيء هو سقوط المثل، لو كان هناك ممثل في عقول الناس سياسي أو ثقافي إذا سقط ستسقط أمور كثيرة في الوطن… أنا دائما أقول إنّ الإيمان والتمسك بالموقف إزاء الحياة وليس كي يقال فلان عنده موقف بل من أجل الحقيقة التي تقتنع بها مسألة أساسية في الثقافة فضلا عن القيمة الإبداعية والشكل الفنّي.
المغنّــــي
بالعودة إلى فيلم المغنّي، كيف انطلقت الفكرة؟
كنت أعمل وقتها في قناة تلفزيونية صغيرة في إسبانيا وقرأت خبرا أن ابن الديكتاتور العراقي أراد أن يهين أحد المغنّيين لأنه تأخر عن موعده، فقام بنزع كل ثيابه إلاّ الملابس الداخلية وأمره أن يغنّي عاريا ثم يقبّل قدميه، فقال له المغنّي ألاّ يتركه يفعل ذلك أمام الناس والنساء، فأمره أن يغنّي ووجه للحائط. وكنت أفكر في فيلم عن الديكتاتورية فجاءتني الفكرة بدون أن أذكر الأسماء لأنني لست بصدد تصفية الحسابات مع أحد وهذا ليس دور الثقافة أيضا، أنا اشتغلت على فكرة الديكتاتور وليس عن شخص بعينه، وحين عرض الفيلم في المغرب العربي تصورت أن يجد استياء لأن الناس هنا يتعاملون مع صدام على أنّه محرر ومنقذ وهناك تعاطف كبير معه، ولكن لحسن الحظ وجد الفيلم صدى طيّبا والجميع فهم أن الفيلم يتحدث عن الديكتاتورية بشكل عام.

ما جديدك الآن؟
لديّ عمل تاريخي أشتغل عليه منذ سنوات عن الإمام الحسين، وسأسافر قريبا للعراق من أجل التفاوض حول الفيلم، والثاني معاصر.
فيلم حول الإمام الحسين في هذه الفترة بالذات؟
بالعكس أرى أن الفيلم يمكن أنْ يمثّل عامل توحيد ووحدة للثقافة الإسلامية لأنه سيعتمد على كشف الحقيقة الموضوعية وليس على الزيف المتداول، لأننا منذ أكثر من ألف عام ثمّة فرقتان تكتبان عن بعضهما البعض وكلاهما على خطأ، لأنهما لم يكشفا الحقيقة الموضوعية التي يشتغل عليها الفيلم.
يعني هو فيلم يكشف الحقيقة بين السنّة والشيعة؟
لا سنّة ولا شيعة في الفيلم أصلا، الإمام الحسين هو حفيد الرسول، من قتله؟ مجموعة من المجرمين في المجتمع الإسلامي، وهؤلاء لا من السنّة ووقتها لا وجود للفرقتين. هذه الحقيقة الموضوعية التي يجب كشفها وإذا انكشفت سوف ترمي كل الدجالين الذين يكتبون من هذا الطرف أو ذاك ليزجّوا بالإسلام في خلافات لا أساس لها، أنا لا أتحدث عن الدين بل عن الحقيقة، ثم الحسين لم يحارب ولم يستعمل سيفه ليقتل أحدا كما يقولون إنه واجه الأعداء.
إذن أنت ترى أن هذا الفيلم يأتي في سياق ما يسمّى بالربيع العربي وما أحدثه من إرباكات في المجتمعات العربية؟
عني أتحدث وأرجو أن ينشر ما أقول، أنا أعتقد أن الثورة الوحيدة الحقيقية هي التي حدثت في تونس، تونس الربيع العربي والحالة التونسية نضجت والبوعزيزي كان الشرارة التي فجرت هذه الحالة الموضوعية، وتونس فاجأت العالم سواء في ثورتها أو في سرعة إعادة ترتيب البيت بحيث تمّ تجاوز الخسائر المتوقعة، وهنا شعر العالم أنّ هذه الثورة ستمتد إلى المنطقة العربية، فتحركت القوات الأجنبية أصحاب المصالح في المنطقة العربية ليخلقوا أكثر من ربيع، لكن كلها لم تفلح باستثناء الربيع التونسي. أبناء تونس أثبتوا أنهم يمتلكون وعيا سياسيّا وثقافيا عاليا جدا وهذا لم يأتِ اعتباطا بل هو حصيلة تركة ثقافية وسياسية كبيرة قادها رجل جدير بالاحترام وهو الحبيب بورقيبة الذي قادها باقتدار لتأسيس مفاهيم الحرية والديمقراطية والتحضر وهو بناء ليس من السهل أن يتهدم، والشعب كان له دور كبير في ذلك.