صراع موت وحياة في سينما مخرج فذ

محمد رُضا
لا يمكن تفكيك سينما ألفرد هيتشكوك لتكوين حالات صغيرة. الأشكال المختلفة الناتجة عن محاولة تفكيك ألفرد هيتشكوك تبقى ذات أحجام كبيرة لا تحتمل التصغير والحكم بالمطلق الجاهز. خذ مطلع فيلم «فرتيغو» (1958) وحده تجده مكثّـفاً في منهج عمله وتنفيذه والاسئلة التي يطرحها.
يفتح الفيلم بكلوز أب على وجه إمرأة. الشفتان. العينان. النظرات المتنقّلة بتوتّر. الوجه ذاته يبقى بلا شعور واضح، لذلك تلك النظرات غير واضحة بأكثر من توتّرها. بعد ذلك هناك خطوطاً دائرية تلتف حول نفسها في الوقت الذي تبدو فيه تلك الدوائر كما لو كانت خارجة من الوجه الى الوجه. من وجه المرأة الى وجه المشاهد. دوراناً يرمز للعنوان كما للحالة النفسية الغامضة التي سنشاهدها0
المتوقّع هنا إذاً أننا سنصادف إمرأة ربما كانت خطرة. ربما كانت حائرة. بالتأكيد تمر بأزمة. لكن اللقطات الأولى بعد ذلك هي لبطل الفيلم سكوتي (جيمس ستيوارت) الذي نراه هو من يمر بأزمة.  هناك حافة معدنية  وثمّـة يد تقبض عليها.  ترجع الكاميرا مفصحة عن هذا الرجل (سكوتي) وعن المدينة وعن أزمته: إنه معلّق بقضيب من المعدن الخفيف عند حافّة سطح مبنى عال يشرف على المدينة تحته. كان سكوتي، سنعلم لاحقاً، يطارد مجرماً لكنه لم يستطع القفز بنجاح من السطح الآخر فسقط فوق السطح ثم انحدر وتعلّق بتلك الحافّة وقد تدلّى جسمه  وحمل وجهه رعباً ناتجاً عن خاطرة احتمال سقوطه وموته إذا ما ارتخت قبضتيه او إذا ما تعب من وضعه او حدث ما يتسبب في فك قبضتيه عن الحافة. الشرطي الذي كان يطارد المجرم معه، مرتديّـاً زيّـه بزيّه الرسمي ينبطح فوق سطح المبنى ويحاول مساعدة سكوتي على تسلّق الحافة صوب النجاة. لكن ما يحدث هو أن الشرطي يسقط في الفضاء بعدما فقد توازنه.
بدقيقة ونصف رسم المخرج وضعاً خطراً يحتوي على مأزق حياة او موت. هذا من ناحية.

في المدّة ذاتها قدّم بطله في حادثة ستشكّـل خلفية شخصيّته ومبرراً لتصرّفاته اللاحقة.
وفي المدّة ذاتها، قاد المشاهد إلى منتصف حدث دائر بلا مقدّمات لأن من تفوته تلك الدقيقة والنصف خسر مفتاح الفيلم بكامله بعد ذلك.
سوف لن نعلم كيف نجا سكوتي من الحادثة. سنراه في اللقطات الأولى بعد هذه المقدّمة يمشي بعكّاز، لكن هيتشكوك لن يجيب إذا ما تحامل سكوتي على نفسه وزحف الى أعلى، او إذا ما وصل شرطي آخر وساعده. كذلك لا نعرف كيف حدث أن ساقه معطوبة بحيث يحتاج الى عكّاز.
كان يمكن بالطبع ترقيع لقطة تظهر الطريقة التي تم بها إنقاذ حياة سكوتي. لكن هيتشكوك فضّل أن لا يفعل. وبذلك تركنا مع بطله وحوله علامة استفهام  أبدية سنزورها في الدقائق القادمة. وإذ تمر مشاهد كثيرة في «فرتيغو» كما لو كانت حلماً، علينا أن نذكّر أنفسنا أن الفيلم ليس عن حلم، بل عن حكاية لا يمكن أن تؤخذ الا إذا كانت مُعاشة إما في الواقع او في واقع الميّت0
ما يعيدنا الى حقيقة ما حدث في المشهد الأول حين تعرّفنا على سكوتي معلّقاً بين السماء والأرض. في تفسير نفسي خاضه باحثون، أن المرء في لحظة من تلك اللحظات التي يجد فيها نفسه بين الحياة والموت، تتنازعه رغبتان حادّتان: الرغبة في الموت (إغراء أن يترك الرجل نفسه يهوى) والخوف منه (أن يحاول جهده الثبوت في مكانه وتحسين وضعه للبقاء حياً). والحقيقة أنه لولا الخوف لمات الكثير من الناس انتحاراً، لكن في لحظة يصل المرء الى ذروة ذلك الإختيار فإن الرغبة في الموت قد تنتصر على الخوف. فهل تخلّى سكوتي عن الحياة فترك ذلك القضيب المعدني من قبضته وسمح لنفسه بالسقوط؟
لن أتوقّف عند هذا الفيلم لتحليله. الرغبة هنا هي منح القاريء قدراً من المنهج الهيتشكوكي ولماذا هو فريد إلى اليوم، وذلك للإجابة على السؤال حول السبب الذي لا يزال هيتشكوك مهمّـاً إلى هذا الحين.
الجواب الأسهل هو التالي: إنه مهم اليوم لأنه، ككل فنّـان مر في سماء السينما، من غريفيث وايزنشتاين إلى ترنس مالك، يبقى مهمّـاً. لكن الجواب الأصعب هو تحليل مكامن تلك الأهمية خصوصاً وأن البعض يعتقد أن حقيقة أن هيتشكوك تعامل، غالباً، مع سينما التشويق يجعله كامن في مرتبة أقل من تلك التي للياباني ياسوجيرو أوزو او الفرنسي جان-لوك غودار او النمساوي الآني ميشيل هنيكه.
مجرد اعتبار أن السينما هي منوال واحد (وهو ما ينم عنه ذلك التعامل) هو خطوة إلى الخلف لأن العديد من المخرجين الكبار اشتغلوا على منوال او آخر لا يمكن وصفه بأنه رقي فكري او فلسفي او طرح لموضوع سياسي. لكن أيا منهم، بمن فيهم هيتشكوك ذاته، لم يكن فقيراً في مد سينماه بالعمق المطلوب لتحليل شخصيّة او لتأليف كيان لغوي لمفرداته البصرية. وتأليف العمق لا يأتي، كما يعتقد كثيرون حولنا، من الحديث عن موضوع سياسي او ثقافي او فلسفي، بل في أن يتبلور الفيلم كفعل سياسي وثقافي وفلسفي وأفلام هيتشكوك لا تخلو من ذلك. طبعاً، لم يتحدّث عن مخاطر القنبلة النووية ولا عن القضية الفلسطينية، لكنه تحدّث عن الإنسان في مأزق حياته كما عنه في مواجهة مخاطر كانت حقيقية من النازية إلى الفساد الإداري وصولاً، وهذا الأهم، إلى الفساد الإنساني.
رغم ذلك، فإن البحث في هذه المسائل هو جزء من الصورة الخاصّـة بالسؤال المطروح. الجزء الآخر هو ما يمت إلى إنفرادية المخرج بجعل المشاهد لا يرى الفيلم بل يعيشه أيضاً. هناك مئات الأفلام التي صوّرت شرطياً يرتاب في شخص ما، لكن من بين هذه المئات هو فيلم واحد جسّد هذا الإرتياب إلى حد أن الخوف من اكتشاف الحقيقة يصيبك أنت وذلك في مشهد من فيلمه «سايكو» (1960) حين ركنت جانيت لي (التي سرقت مبلغاً كبيراً من المال) سيارتها لجانب الطريق ونامت، لكي تصحو على طرقات الشرطي على زجاج السيارة. كل لقطة محسوبة لأن تحل في الموقع الصحيح في الوقت المناسب لتجسيد ما يفكّر به الشرطي (“هناك شيء غريب في تصرّفات هذه المرأة”) ولتجسيد ما تفكّـر به المرأة (“هل أثرت ريبة الشرطي؟ هل سيلقي القبض عليّ او يسأل تفتيش السيارة؟”) وهي كلها الأسئلة التي تنتاب المشاهد ليس فقط إذا ما شاهد الفيلم لأول مرّة، بل حتى حين يشاهده للمرّة الثانية او ما بعدها، لأن من نجاح الفيلم أن يجعلك، حين تشاهد الفيلم مرّة أخرى، أن تعيشه من جديد.

مباشرة بعد “دوخة” أنجز هيتشكوك فيلماً رائعاً آخر سنة 1959  هو North By Northwest  فيه مطاردة تقع فوق جبل ماونت روشمور حيث تماثيل رؤساء أميركا. في سعي بطلي الفيلم كاري غرانت وإي?ا ماري سانت للبقاء حيين هرباً من العصبة التي تعمل لصالح العدو، يجدان نفسيهما عند حافة التمثال.  كلاهما تدلّى بدوره ومهدد بالسقوط. الخوف من السقوط من علو شاهق احتل عند هيتش قدراً كبيراً من الأهمية0 وهناك تلك اللقطة التي لا تزال تحيّـر نقاداً ومؤرخين: لماذا عمد المخرج إلى المزج بين صورة نصفيه لبطل الفيلم غاري غرانت، مع صورة خلفية لرؤساء أميركا ولثانية واحدة بدا كما لو أنه جمّدها فوقهم. سيتطلّب الأمر تدقيقاً يشمل الفيلم بأسره، وهو ما أقاوم إغراء القيام به، لكن ما أطمح هنا من وراء ذكر هذا المشهد هو تقديم مثال على عمق الدلالة المتأتية فقط من الصورة. وإذا ما راجعنا تاريخ السينما بأسره فإن أكثر أفلامها خلوداً هي تلك التي تعتمد الصورة لا الحوار ولا التعليق طريقة لتوفير ما تريد توفيره من مدلولات.

 في هذين الفيلمين («فرتيغو» او «دوخة» و«شمال شمالي غرب» يأتي الخوف من السقوط في النهاية لتعقبها سلامة البطل. إنها كتذكير بأن الحياة كادت أن تلفت من كم مرتديها. من هو القابض على الحافّة يصبح أمراً لا يهم كثيراً. لكن في  فيلم “دوخة” يأتي هذا الخوف من السقوط في البداية ولغايتين: الأولى: معظم الفيلم يتعلّق بخوف يعتري بطل الفيلم سكوتي من العلو  (هناك عدّة حالات  أكثرها  انتشاراً أسمها أكروفوبيا) والثانية: أن عدم الجواب عن السؤال حول كيف بقي حيّاً يمتد ميتافيزيقياً ليقترح أن سكوتي ربما سقط وربما مات وربما ما يتراءى له (كما ستكشف الأحداث) لا يقع مطلقاً. واقعياً (قدر ما يمكن للمشاهد أن يستخدم هذه الكلمة) فإن سكوتي خرج إنساناً ضائعاً من التجربة بأسرها. لقد تخلّى عن عمله كتحري بوليس ويقول لصديقته الفنانة  أنه لم يترك البوليس فقط، بل ترك كل شيء آخر…. تراه مات؟
تراه مات كل واحد من أبطاله خلال مأزقه الأول وما نراه هو خيال ناتج عن حالة ما بعد الموت؟ هذا سؤال وجداني وككل وجدان يتجاوز المنطق دون أن يلغيه?.?
هيتشكوك، في النهاية، هو أكثر مخرجي السينما صدرت عنهم الكتب. هناك عشرات عن غريفيث وفيلليني وكوروساوا وانطونيوني وبرغمان، لكن هناك أكثر من مئة كتاب صدرت عن ألفرد هيتشكوك وحده… وكلها لا زالت تحاول قراءته والكثير منها ينجح لكنه، مثل بطله، لا يزال مرتاباً إذا ما نجح تماماً او لا.

تقييم الأفلام الواردة بلمحة
Vertigo *****
Psychco *****
North By Northwest  ****


إعلان