“36ساعة من بنغازي إلى بن جواد”
توثيق المشاعر الذاتية المتماهية بالحس الجمعي الليبي
عدنان حسين أحمد – لندن
إنَّ ما يميز فلم “36 ساعة من بنغازي إلى بن جواد” للمخرج صهيب أبو دولة عن غيره من الأفلام الوثائقية التي رصدت ثورة 17 فبراير الليبية هو جمْعُهُ بين تقنية الفلم الوثائقي التقليدي من جهة وبين فلم الطريق من جهة أخرى. كما أنه ينطلق في بنائه المعماري ومعالجته الفنية من الذات إلى الموضوع فيما يتعلّق بالشخصية الرئيسية التي اعتمد عليها مخرج الفلم وهي شخصية توفيق أبو رمضان بوصفه شخصية رئيسية ومهيمنة إضافة إلى بقية الشخصيات المؤازرة التي سنتوقف عندها تباعاً.
تنفتح اللقطة التأسيسية لهذا الفلم على مشهد مؤثِّر شديد التعبير لمجاميع من الناس الليبيين وهم يشيّعون شهداء الثورة، ويصلّون عليهم صلاة الغائب بغية دفنهم بعد أن عادت أرواحهم إلى بارئها. ينبثق من قلب هذه اللقطة التأسيسية زهير البرعصي، وهو من شباب ثورة 17 فبراير ليتحدث لنا عن كيفية خروجه هو ومحمد نبوس، قبيل استشهاده، من أرض بلعون التابعة لمنطقة الفويهات الواقعة جنوب بنغازي وذهابهما إلى ضريح شيخ الشهداء الليبيين عمر المختار. ثم أحاطنا علماً بالمناوشات التي كانت تقع بين المتظاهرين وقوات الأمن الليبية، مشيراً إلى أنّ الاعتصام قد بدأ أمام بعض الكتائب والمقرات الأمنية والاستخبارية. وما أن يمّر بساحة الشهداء حتى نرى بعض الجنازات محمولة على الأكتاف وسط رجال يهتفون “لا إله إلاّ الله والشهيد حبيب الله”، بينما النساء يزغردن، حتى يبدأ بالتعليق قائلاً: “ربما يكون هذا الشهيد قد استشهد في بنغازي أو أجدابيا أو في مناطق أخرى لا تزال فيها المناوشات قائمة مع كتائب القذافي”. وغالباً ما تستقبل هذه الساحة العديد من الشهداء بحسب احتدام المعارك ودرجة عنفها ووحشيتها.
تأخذنا تقنية الـ “الفويس أوفر” إلى ساحة المحكمة في بنغازي، معقل الثورة الليبية، ثورة السابع عشر من فبراير التي دعت إلى إسقاط نظام العقيد القذافي بعد أن حكم ليبيا بالحديد والنار لاثنين وأربعين عاماً. وعلى جدران مجمّع المحاكم علّق الناس صور الضحايا سواء الذين قتلوا في هذه الثورة أم الذين أُعدموا في سنوات سابقة لأنهم كانوا من معارضي النظام، وسوف تبقى هذه الصور معلّقة على جدران الزمن لكي تذكِّر الليبيين بالسنوات العجاف التي مرّوا بها طوال أربعة عقود ويزيد. من بين المئات من صور الشهداء يتوقف زهير البرعصي أمام صورة شهيد راسخة في أذهان أهالي مدينة بنغازي ومحفورة في ذاكرتهم الجمعية، وهي صورة الشهيد الصادق حامد الشويهي الذي استُشهِد في 6 يوليو 1984 في بنغازي، وتناقلت الناس حكايته لأسباب عديدة منها أنه أُعدم بشكل وحشي في مكان عام، وتمّ التمثيل بجثته وهو الذي لم يجتز عامه الثلاثين عاماً. يعزز المخرج صهيب أبو دولة مشَاهِد فلمه ببعض الأدلة البصرية التي تميط اللثام عن بعض الأسلحة الخفيفة والثقيلة التي كانت تستعملها قوات كتائب العقيد ضد الثوار والمحتجين في بنغازي وغيرها من المدن الليبية الثائرة.
وجد الشباب الليبيون أنفسهم في مواجهة معركة غير متكافئة، وقد اضطروا لخوضها بعد سنوات طويلة من الظلم والاستبداد. فهذا هو المتحدث الثاني في هذا الفلم مفتاح حسن “مواليد بنغازي 1985” الذي لما يزل في ريعان شبابه قد ترك الدراسة ملبيّاً نداء الأرض التي تنشد التحرر من الطاغية القذافي وأولاده والمرتزقة الذين استقدمهم من بعض البلدان الأفريقية. لقد شبّه مفتاح حسن الأرض بالأم، وحينما تستدعي الأم ابنها أو تنتخيه لا يُردّ لها طلباً. وكان عليه أن يشترك في تنظيف الأرض الليبية وتطهيرها من دنس القذافي وزمرته الباغية.
![]() |
أشرنا قبل قليل إلى أن هذا الفلم يعتبر من “أفلام الطريق”، ليس لأن المخرج أراد ذلك، وإنما لأن واقع الحال يفرض عليهم التنقل القسري بهذه الطريق الطويلة الممتدة من بنغازي، مروراً بأجدابيا، وانتهاء ببن جواد، ولو أن هدفهم المُفترض كان مدينة “سرت” مسقط رأس العقيد وقلعته التي كان يظن أنها حصينة، ولكنها أصبحت أوهن من بيت العنكبوت بفعل غارات النيتو وهجمات الثوار المتتالية. في أثناء تواجد المخرج صهيب أبو دولة وفريق التصوير في بنغازي كان الثوار قد سيطروا على أجدابيا والبريقة وراس لانوف غرب بنغازي، تلك المدن التي تسمّى بـ “الهلال النفطي” وعليهم الآن اقتحام مدينة “بن جواد” لتفتح لهم الطريق إلى مدينة “سِرت” التي تنطوي على أكثر من محمول رمزي. حينما تمّ الاتصال مع بعض القادة الميدانيين على ضرورة نقل فريق التصوير إلى خطوط القتال قام هؤلاء القادة بالتنسيق مع مجموعة ستنطلق الليلة من بنغازي وتتجه إلى جبهة القتال الأمامية لتشارك في المعارك الدائرة هناك. ومن بين أفراد هذه المجموعة هناك شاب يُدعى توفيق أبو رمضان هو الذي سيتولى حماية فريق التصوير، وسيكون بطبيعة الحالة، الشخصية الرئيسية التي سيتمحور الفلم عليها كما أشرنا سابقاً، ويرافقه محمد البرعصي في هذه الرحلة الطويلة التي سوف تستغرق “36” ساعة من بنغازي إلى بن جواد.
يؤكد توفيق بأن الثوار قد وصلوا إلى بن جواد في المرة السابقة، ولكن القوة المفرطة التي كانت تستعملها قوات العقيد من طائرات ومدافع ودبابات هي التي أجبرت الثوار على التراجع من بن جواد إلى أجدابيا وبنغازي، فسلاح الثوار لا يتعدى بندقية الكلاشنكوف والآر بي جي 7. يتمنى توفيق أن يعيش ابنه الصغير رمضان الذي لم يجتز عامه الثاني بعد بظروف أفضل ليس فيها القذافي وأولاده، وهو يدعو الله في كل صلاة ألا يرى ابنه ما رآه هو من ظلم وتعسّف ومشقّة.
يسعى توفيق لدخول “سِرت” بأي شكل من الأشكال، لأن دخولها مع أفراد سريته هو سانحة حظ لها دلالات رمزية كثيرة، خصوصاً أن الثورة قد زادت من لُحمة الشعب، وقوّت أواصره الاجتماعية. تتعطل السيارة التي قطعت مسافة طويلة وأنهكتها الحرب المتواصلة فيكون فحصها أو تصليحها مؤقتاً فرصة لتأمل المكان الذي هم فيه، خصوصاً وأن بعض الثوار يتجمعون ويتجهون في سيرهم صوب جبهات المواجهة حاملين علم الاستقلال الأصلي قبل أن ينقلب القذافي على الملك إدريس السنوسي عام 1969.
يتوقف توفيق وفريق التصوير في أجدابيا التي شهدت معارك طاحنة وقصفاً كثيفاً من قبل كتائب القذافي، فلا غرابة أن تفوح رائحة الموت من أرجاء المدينة، فآلة القتل المروّعة للكتائب لم تفرّق بين ضحية وأخرى. وأكثر من ذلك فإن المدينة كانت تفتقر إلى غالبية الخدمات المعروفة من ماء وكهرباء، هذا إضافة إلى النقص المروّع في الغذاء والدواء. فبعد دكّ المدينة بالقنابل والصواريخ يدخل رجال الكتائب ويقتلون كل من يصادفونه في شوارع المدينة وأزقتها الخاوية. ثم نعرف أن توفيق أبو رمضان هو من مدينة أجدابيا وقد تعرض بيته للقصف من قبل كتائب القذافي فاضطرت عائلته للرحيل منها. وقد رأينا أدلة بصرية مفجعة تعزز تقوّض هذا المنزل ودماره مثل المئات من المنازل الأخرى التي قوّضتها القنابل. وعلى الرغم من اللحظات المحزنة التي يعيشها توفيق أبو رمضان إلاّ أنه سمع خبراً مفرحاً مفاده بأن زوجته وطفله موجودان في البريقة التي سيمرّون فيها في طريقهم. تتواصل الرحلة فنرى عدداً من نقاط التفتيش على الطريق العام. يبيتون على مشارف المدينة، ويتجاذبون أطراف أحاديث شتى، بعضهم يمزح بأن القائمين على الثورة يدلّلونهم، فهذه “ثورة دلع” لأن الثوار يأكلون الـ” كورنفليكس”، ويصنعون الشاي بغلايّات القذافي!
![]() |