المال السياسي وصناعة الأفلام في غزة
غزة – أسماء الغول
حين تدخل الأيديولجيات مجال صناعة السينما فإنها تحور التاريخ وتوجه الشخصيات وتحرم الفن أنسنته، وتوزع الأخلاق بمجانية فجة، وهكذا الأمر مع المال السياسي الذي قد يدعم أفلام المخرجين، والحزبية التي غدت اللون الغالب على الأفلام الأخيرة التي يتم انتاجها في قطاع غزة، وكان آخرها فيلم “عماد عقل” الذي كتبه محمود الزهار أحد قادة حركة حماس، ومولته الحركة بتكلفة تربو على المائتي ألف دولار ليأتي عارضاً تاريخ النضال الفلسطيني والانتفاضة الأولى من وجهة نظر الاسلام السياسي، مانحاً البطولة لأفراده دون غيرهم.
إلا أن المال السياسي والأيديلوجيات التي تزيف التجربة السينمائية لم تكن براءة اختراعها حكراً على الاسلاميين وصناعتهم للسينما، بل إن كليشيهات الوطنية المباشرة في تاريخ السينما الفلسطينية كانت بمثابة الفخ الذي وقع ويقع فيه المخرجون في قطاع غزة، وكأن هويتهم كمخرجين لا تصح الا اذاعرضوا عشرات الصور للشهداء والمصابين فيأتي تدخلهم معدوماً ورؤيتهم باهتة في ظل مادة ارشيفية سائدة، واصوات الانفجارات وشعارات وبكائيات لا تنتهي، وصور لأمهات ثكالى وأطفال لا يحلمون كغيرهم من الاطفال بل يتحدثون عن المقاومة والشهادة، ليغيب عن هؤلاء المخرجين الخط الانساني المشترك، والتفاصيل العادية للحياة والحب والموت، والتي انتبه لها أقلية ممن صنعوا أفلام عن غزة من منطلق ابداعي كفيلم :”حبيبي راسك خربان” للمخرجة سوزان يوسف، وفيلم “ماشو ماتوك” لخليل المزين وفيلم “عرايس” لنجاح عوض الله.
هذه بعض أفكار أستعرضها هنا بتصرف بعد نقاشها خلال ورشة عمل بعنوان “واقع صناعة الافلام التسجيلية في غزة”، نظمتها مؤسسة ابداع للانتاج الفني والاعلامي بمقرها في غزة، قبل يومين، والتي تأتي في خضم التحضيرات لمهرجان “الشباب والحرية الدولي للأفلام التسجيلية”، وهي الدورة الثالثة لمهرجان سينمائي تنظمه حكومة حماس في غزة بدعم من وزارتي الثقافة والاعلام، ولكن في دورته الحالية هناك محاولات جدية لمنحه الاستقلالية وتنظيمه من قبل مؤسسات أهلية، وتشكيل لجنة تحضيرية له مستقلة نوعاً ما!!.
الصراحة التي طُرحت على طاولة النقاش من قبل المشاركين والحاضرين تمثل عصفاً ذهنياً لأصحاب الأيدلولوجيات والمطالبين بأن يكون المال السياسي والحكومي داعما للابداع السينمائي كي يفكروا مرتين قبل وضع أجنداتهم الخاصة وفرضها على المخرجين الشباب، لأن استقلالية الفيلم الفلسطيني تعتبر شرطاً هاماً في احترافيته وأنسنة ثيماته، وبالتالي تسويقه ليخرج من شاشات عرض التلفزة والفضائيات المحلية إلى شاشات الفضائيات العربية والعالمية، وتصبح ابداعات المشهد السينمائي الفلسطيني حالة عامة بدل كونها مقتصرة على مخرجين وصلوا العالمية بابداعاتهم كأفراد: هاني أبو أسعد وإيليا سليمان ورشيد مشهراوي.
المخرج فائق جرادة أحد المشاركين في الورشة قال أنه بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة أصبح المنتج البصري غزيراً ولكن دون أفلام فلسطينية بل كانت في الغالب مواد إخبارية، ما أدى إلى تقوقع الافلام التسجيلية في دائرة الاحتلال الاسرائيلي والحصار، وغابت أفلام لها صيغة اجتماعية، أو أخرى لها علاقة بالمعاناة اليومية، منبهاً إلى أن صانعي الأفلام من الشباب يواجهون العديد من الصعوبات للانطلاق نحو الابداع والمواضيع الجديدة.

وشدد على أنه من المهم للمخرج الشاب أو المخرجة الشابة التحرر من كل الأجندات والأفكار المسبقة للقضية وذلك بهدف الوصول لابداع مغاير، ومؤكداً أهمية صناعة الأفكار قبل الأفلام وتحررها قبل انتاج العمل الوثائقي أو الروائي، ومنتقداً غياب رأس المال والدعم المؤسساتي المستقل.
أما المخرج غسان رضوان مدير الانتاج الاعلامي في المكتب الاعلامي الحكومي مدح الفيلم الفلسطيني قائلاً انه لم يشاهد فيلماً فلسطينياً خرج عن دعم القضية، مؤكدا استعدادهم لدعم الافلام الوثائقية القصيرة او الطويلة سواء الروائية أو الوثائقية.
ولفت إلى أنه مسجل لديهم حقوق 450 فيلماً فلسطينياً ما بعد عام 2009 ، تسعة منهم روائية والبقية ما بين الوثائقي والتسجيلي، مؤكداً أنهم لم يرفضوا اعطاء تراخيص لأية مهرجانات للأفلام في قطاع غزة، فهناك ما يزيد عن العشر مهرجانات تقام سنوياً، فالحرية التي يجدها المخرج في غزة خلال التصوير وانتاج أفلامه لن يجد لها مثيلاً في مكان آخر، ومستدركاً وجود معايير قد يعتبرها البعض مجحفة ولكنها في النهاية واقعية.
من جهته قال المخرج محمد ابو قوطة مدير مكتب قناة فلسطين اليوم في غزة أن هناك خلل تاريخي في موضوع التصوير التلفزيوني من بدايات انتاج العمل المرئي الذي كان يخرج من فلسطين والذي كان في أغلبه ينحصر في الانتاج الصهيوني او البريطاني، مشيراً إلى وجود بَكرة سينمائية تم تصويرها عام 1925 تستعرض حياة اليهود في القدس، وكذلك صور متحركة من مؤتمر هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، متابعاً أن بروز المقاومة الفلسطينية في الخارج أوجد اهتماماً ملحوظاً في أرشفة كل شيء يخص القضية الفلسطينية والتي اختفى أرشيفها دون أن يعلم أحد مكانه، وكانت تضم مجموعة من باكورة الأعمال التسجيلية والروائية الفلسطينية.
وأوضح أن هذا الخلل لا يزال حاضراً حتى الآن، ويتعلق بضعف الامكانيات المادية، والرؤية المستقبلية لأهمية الفيلم التسجيلي، وضعف العمل الفني، والتعتيم على الافكار وعدم تبينها بشكل مطلوب، منبهاً إلى وجود العديد من الأعمال السينمائية الفلسطينية التي قد نراها على القنوات الفلسطينية ولكن ليس على شاشات القنوات العربية بسبب ضعفها التقني، وربما بسبب ضعف تسويقها.
واستمر النقاش حامي الوطيس بين المشاركين والحضور الذي كان أغلبه من الشباب والشابات صانعي الأفلام الذين لا يجدون مجالا للابداع الحقيقي بعيدا عن رعاية المؤسسة الحزبية والحكومية، ما يجعل أفلامهم لا تغادر حدود المقربين منهم، كذلك تم توجيه انتقادات جدية للحكومة التي في الوقت الذي تسمح باقامة المهرجانات فإنها تمارس دوراً رقابياً بمشاهدة جميع أفلامها مسبقاً ومنع بعضها، وكذلك الأمر مع شركات الانتاج والقنوات الفضائية التي تطلع إلى منطق تجاري في اختيار الافلام وعرضها، وتبعية المخرج لها فينحاز إلى لقمة العيش وصناعة الأفلام التي تطلبها منه هذه الشركات والقنوات دون السعي وراء الأعمال الابداعية الحرة المستقلة.