على أسطوانات: تاريخ السينما حسب غودار
تواريخ السينما | جان لوك غودار ?(1997)
Histoir(s) du cinéma | Jean-Luc Godard
?في العام 2004 قام “معهد الفيلم البريطاني” ببادرة الإحتفاء بمئة سنة على ميلاد عيّن ذلك التاريخ طبعاً بناءً على العرض الجماهيري الأول الذي أقامه الأخوين لوميير سنة 1895 على أساس أن يتم إنجاز الفيلم في العام 2005 وبذلك يأتي في الذكرى المئوية الأولى في الوقت المناسب. بعض مداولات استقر الرأي على المخرج جان-لوك غودار لتقديم هذا المشروع. من هو أفضل منه فكراً ونضجاً واختلافاً عن السائد يستطيع أن يُلقي تلك النظرة الفاحصة لهذه المناسبة.?
الاختيار كان صائباً. النتيجة لم تكن كما توقّعت إدارة ذلك المعهد الرصين. جان-لوك غودار في «تواريخ السينما» (وكما يلاحظ قراء الفرنسية هو “تاريخ” ملحق به حرف الجمع الفرنسي S ما يجعل الكلمة أقرب إلى “تاريخ/ تواريخ”) نصب كميناً للمحتفين محوّلاً الفيلم من مادة لدراسة مئة سنة سينما والتداول فيما أنجزته (او لم تنجزه) إلى مادة لنقض هذا الاحتفال. وهو لم يكترث للإسراع في تحقيق الفيلم ليناسب المئوية، بل أنجزه بعد عامين من مرورها، أي سنة 1997 وما أنجزه كان جزءاً أولاً، الثاني حققه بعد ثماني سنوات من ذلك التاريخ.
إذا أردنا الإمساك بلب الموضوع المثار في هذا الفيلم التسجيلي البالغ 266 دقيقة والذي بات متوفّراً على أسطوانات (من جديد) من نحو شهر ونصف، فإن «تواريخ السينما» ينفي أن عمر السينما مئة عام لأن البداية، تبعاً لغودار، ليست الإنجاز التقني الذي مكّـن الأخوين لوميير من تصوير وعرض أفلامهما في ذلك العام، كما بالتأكيد ما توحي به المناسبة على نحو تلقائي من أن ولادة السينما تجارية، بل تعود إلى أصول الفن السينمائي. ما يعيبه المخرج على المحتفين هو ميلهم لتكريس تاريخ هو مجرد فعل تقني وتناسي أصول الفن المتنامية رسماً وموسيقا وثقافة.
مثل معظم ما أنجزه غودار من مطلع التسعينات وما بعد، كل ذلك مُعالجاً بطريقته المعهودة في «اللا سرد». ففي حين أن الفيلم، حتى ولو كان تسجيلياً، يحتاج إلى توالي مشاهد تنطلق من نقطة لتصل إلى نقطة أخرى في برمجة سردية معيّنة، هو عند غودار مناسبة للقفز فوق كل ما يمكن أن يوصل بين النقاط صوتاً او صورة. تتداخل لقطاته وتنفصل وعليك أن تتابع ما يُعرض على النحو الذي يفرضه عليك مخرجه. هذا ما يجعل من أفلام غودار أعمالاً صعبة التفكيك (ولو في ردّ الفعل الأول).
ليس هناك، وعن قصد، أي تسلسل منطقي او غير منطقي لما يعرضه المخرج في هذا الفيلم، وبما أن كلمة Histoire تعني، بالفرنسية، “حكاية” فإن المشاهد قد يفترض أن هذا العنوان “حكايات السينما” هو المعني، لكن هذه الحكايات بدورها ليست منسّـقة ولا منساقة في جدول سرد معيّن. تتداخل المشاهد السينمائية المتقافزة من تواريخ مختلفة مع لقطات لطبيعة او للوحة او لشاشة سوداء مع مقطع لشوبان او سواه، يلغي فكرة الاحتفاء بذلك الميلاد ليطرح البديل الثقافي والسياسي لكل ما له علاقة بعالمنا اليوم وبما يجول في بال غودار بعد مئة سنة من السينما بما في ذلك، مثلاً، حرب البلقان وتاريخ النازية والصهيونية واستعمار فلسطين.
أبناء كاتي إلدر | هنري هاذاواي (1965)
THE SONS OF KATIE ELDER | Henry Hathaway

?يبقى جون واين، بصرف النظر عن تاريخه السياسي كمدمن يمين أقرب إلى التطرّف، من أهم الوجوه التي اعتلت الشاشة إلى اليوم. غودار (الذي تحدّثت عنه آنفاً) قال عنه، وهو المخرج اليساري الملتزم) “كيف لي أن أغفل ذلك الحنان في عينيه؟”. كان آنذاك (مطلع الستينات) يتحدّث عن نظرات وأين في فيلم جون فورد «الباحثان» [جون فورد- 1956] لكن تلك النظرات العاكسة للعاطفة من دون تكلّـف موجودة في كل ما شاهده هذا الناقد من أفلام قام واين ببطولتها وهي ازدادت سطوعاً مع الأيام كما الحال في هذا الفيلم الذي قام ببطولته أمام دين مارتن، مايكل أندرسن، إيرل هوليمن، دنيس هوبر وجورج كندي من بين آخرين.?
اللقطة الأولى في هذا الفيلم هي لجون واين وهو ينظر إلى شيء بعيد. من مكانه يتابع مراسيم دفن ما. ثم يقترب من المكان بمزيج من الحذر والفضول. إنه غير مرحّب به كونه عاش خارجاً عن القانون. عاد من منفاه لحضور جنازة والدته. المناسبة تجمع بينه وبين أشقائه الثلاث ليكتشفوا أنها كانت ملاكاً عانى من جحود أبيهم، كما من محاولات أحد المستثمرين شراء البيت والأرض الصغيرة التي تحيط به. الأخوة يقررون الامتناع عن البيع كما فعلت والدتهم ما سيجرّهم إلى مشاكل مع القانون الذي يديره شريف فاسد (بول فيكس) وشرير الفيلم الأول (جورج كندي). في النهاية، الحق ينتصر لكن الثمن باهظ0 هذا ليس وسترن لمن اعتاد مشاهدة جون واين في شخصية لا يمكن اختراقها. قوّة يمينية صامدة. إنه واحد من أدواره الأكثر أهمية على صعيد ما تتيحه من دراما. واين دائماً ما أبدى قدراً كبيراً من النظر إلى الأشياء بعيني مراقب تختلفان عن روح المقاتل التي في أفلام كثيرة. إنه مثل أب بلا أبناء. وهنا هو واحد من أخوة كلّهم أصغر سنّاً
الحكاية فيها مواقف تقليدية وشخصيات تتصرّف نمطياً حسب المعهود والمتوقّع، لكن المخرج هاذاواي طالما اهتم، كبطله بإيقاع متباطئ ضمن أسلوب عمله الجلي. هذا البطء مرحلي وليس دائماً. المعركة التي تقع في الفصل الأخير من الفيلم مشحونة بإيقاع جيّد. تنتقل في موقعها (جسر وتحته) موظّفة المكان والنقلات المثيرة بين المحاصَرين والمحصورين. لكن ما سبق ذلك مدروس لأن يكون عاكساً لإيقاع الحياة من دون أن يقصد أن يكون تعبيراً خاصّاً. هاذاواي، كغيره من جيله، لم يكن يعرف التكلّف وكان يدرك قيمة التواصل مع الناس، لكن عوض أسلوب ألان دوان او راوول وولش (وكلاهما اشتغل في الوسترن أيضاً) السريع والمتواصل في إيقاعه رأيناه أكثر من مرّة يتمهّل ليمنح الشخصيات وضعا يصلح لدراستها
هذا الفيلم هو الثاني بين جون واين و(المغني أساساً) دين مارتن إذ التقيا سنة 1959 في فيلم وسترن آخر تحت إدارة هوارد هوكس أيضاً في »ريو برافو«. كلاهما كان نجماً وبان عليهما احترام كل واحد منهما للآخر. ليس هناك من محاولة سرقة مشهد لا بينهما ولا بينهما وبين الممثلين الأقل شهرة اللذين لعبا دور شقيقيهما هوليمن ومايكل أندرسن جونيور. كل الشخصيات لديها الوقت لتعكس بعداً ما مهما كان صغيراً، لكن الأفضل في كل هذا أن الحبكة جيّدة من حيث أن هؤلاء الرجال لا يواجهون أطماع المستثمر ورجاله فحسب، بل وجودهم المعنوي في هذه البقعة من الزمان والمكان0
نهاية الأسبوع المفقودة | بيلي وايلدر (1945)
The Lost Weekend | Billy Wilder

أول فيلم يخطر على البال حين الرغبة في تحديد عمل سينمائي يتحدّث عن الإدمان على الكحول هو هذه الدراما المفنّـدة لحياة كاتب روائي يحاول التغلّب على خلوّه من الوحي والإلهام ومتاعبه العاطفية عموماً بالشرب.
راي ميلاند رائع في الشخصية يعالجها بمرجعيّته الفنية وموهبته ويبتعد عن تنميطها تماماً. تشعر معه وتقبل مشكلته من دون أن تعاديه او تتّـخذ منه موقفاً سلبياً. السبب هو الحيثيات المتوفّرة والحبكة الجيّدة كما منوالها الجاد في عرض المشكلة وظروفها. بين الزجاجة والاختيارات الصعبة يقع دون/ ميلاند أكثر من مرّة ويفوّت الفرص المختلفة على نفسه والآخرين لمساعدته. المخرج يخلق التوتّـر طوال الوقت من البداية (ناتجة عن رغبة دون في الشرب حتى ولو تخلّف عن القطار الذي سيستقلّه مع شقيقه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في الريف وعدم معرفة شقيقه بالزجاجة المخبّـأة على الرغم من معرفته بمشكلة أخيه) وحتى النهاية التي يخسر فيها دون كل شيء لقاء شهوته التي لا يستطيع مقاومتها.
في هذا النطاق، هذا فيلم وايلدر الأدكن من بين كل أعماله (بما فيها «تأمين مزدوج»). بما أن الحوار محدود فإن الموسيقا تأتي للمؤازرة (كتبها ميكلوش روشا) لكن أداء ميلاند هو المسيطر دائماً والعمل به وبسبب معالجته كدراسة من دون تعميق علمي غير ضروري، معاد للشرب وممتاز في كل خانة من خاناته الفنية.
سنة 1946 كان هذا الفيلم واحداً من إحدى عشر فيلماً نال السعف الذهبية لمهرجان “كان” الذي نشأ في دورتيه الأولتين على عادة منح أكثر من سعفة.
الفيلم يهبط الأسواق هذا الشهر مع فيلم رائع آخر لبيلي وايلدر هو «تأمين مزدوج» ربما توقفت عنده في الأسبوع المقبل.