وضع السينما العربية كوضع مهرجاناتها

يفصل الصيف بين بداية الاستعداد للمهرجانات العربية الكبيرة وبين بداية العمل الفعلي. الصيف هو ثلاثة أشهر من عدم الانتظام في العمل لأسباب تتعلّق بالعطلة التي يفرضها فصل حار يهرب فيه الناس إما إلى الجبال أو إلى البحار أو إلى المدن البعيدة او يقبعون في منازلهم بأقل جهد من الحركة. المهم هو أنهم اعتادوا على عدم العمل خصوصاً في المنطقة الحارّة في عالمنا العربي، وهي منطقة الخليج ومصر.
بداية الاستعداد طفيفة الأثر. ظهور في مهرجان برلين، ثم ظهور أقوى في مهرجان “كان”. في كلا المهرجانين يقوم مستكشفون بمعاينة أفلام عربية وغير عربية لضمّـها إلى جدول الدورة التالية. في “كان” يزداد هذا النشاط تبعاً لحقيقة أن المهرجان الفرنسي هو العالم السينمائي بأسره في مدينة. يؤمّون الحفلات ويقيمون بعضها، يشاهدون الأفلام، يعقدون الاجتماعات ويداومون على الاتصال بمن أنجز عملاً او في سبيل إنجازه ذلك العمل. والمنافسة بين المهرجانات الكبيرة يبدأ هنا بالنسبة للأفلام العربية: على المخرج والمنتج أن يقررا (إذا ما كانا منفصلين) أي مهرجان عربي سيدفعون بالعمل إليه لعرض عربي (او عالمي) أوّل: دبي، أبوظبي او الدوحة.
وحين يأتي الصيف، تستمر مهرجانات أوروبا والعالم (سيراييفو، كارلو?ي ?اري، لوكارنو) لكن كل شيء يتوقّف في عالمنا، وهنا تقع المشكلة الإدارية الرئيسية الأولى التي لن أتقدّم لاقتراح حلّـها (لا أحد يأخذ بالإقتراحات على أي حال) خصوصاً وأن العنوان أعلاه يقترح حديثاً في جانب آخر: كيف يتبدّى مستقبل المهرجانات العربية اليوم؟

إذا أردت أن آتي الموضوع من الآخر، فإن الوضع آيل إلى انحدار وقد يكون انحدارا نوعياً وكميّاً في آن معاً. المهرجانات العربية الرئيسية (وسأضم إليها هنا القاهرة ومراكش) وصلت إلى ذرواتها. بلغت أعلى ما تستطيع القيام به. لا أقول أن ذلك يعني أنها ستتوقّـف، لكن سأدّعي أنها المناسبة التي عليها جميعاً مراجعة ما تعتبره إنجازات وما تبغيه حقّـاً من أهداف.
حين انطلق مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في السبعينات، كان العالم العربي يعيش مرحلة مختلفة تماماً وفي كل شيء. سينمائياً، كان الانكباب على تحقيق أفلام نوعية لا يواجهه سوى العمل على أفلام استهلاكية. أنت هنا او هناك. أربعون سنة إلى الأمام او نحوها، اختلفت الرؤية لما هو نوعي ولما هو كمّـي او استهلاكي. كذلك تعددت أساليب العمل بأسرها: السينما عرفت الدجيتال والدجيتال ساعد على العزوف عن التمسّـك بالعناصر الإنتاجية الأساسية ومحاولة استحواذ كل فيلم لديه فكرة وكل فيلم يحمل مستوى عرض أعلى من المعتدل أصبحت منوال ما تعمل عليه المهرجانات العربية. هذا ما يفسّـر أن العديد من الأفلام المشاركة في المسابقات المختلفة في أكثر من محطّـة تفتقر إلى درجة أفضل من الفعل الإبداعي. في الحقيقة، ليس منها سوى القليل جدّاً، الذي يمكن تأهيله لخوض مسابقة مهرجان سينمائي دولي.

من فيلم “الجمعة الأخيرة”

قيام المهرجانات باحتضانها له ما يبرره (قلّـة عدد الأفلام الجيدة المنتجة وتعدد المهرجانات) لكنه أشاع مستوى ثالث بين الصالح والطالح هو الذي نشاهد من خلاله العديد مما يتم عرضه في المسابقات العربية. ذلك النوع الذي يتوسّـط المسافة في كل شيء. فهو ليس إبداعاً متكاملاً، وفي أحيان ليس إبداعاً على الإطلاق، وليس رديئاً او ركيكاً بالمطلق، رغم وجود استثناءات على الجانبين.

تأخذ فيلماً مثل «الجمعة الأخيرة» ليحيى عبدالله: فيلم جيّد التكوين، موضّـب لطرح موضوع اجتماعي جاد وفائز بالجائزة الأولى في أحد المهرجانات العربية. في النظرة المتعمّـقة لا يخلو من عيوب عمل تشمل عناصر فنيّة. خذ «دمشق مع حبي» لمحمد عبدالعزيز، تجد أنه يبحث عن نبرة فنيّـة يتحدّث من خلالها، فهو بين النقد الجاد وبين النقد الهازل. يحمل موضوعاً مهمّـاً فيه مشاهد لا معنى لها. لكنه شوهد في أحد هذه المهرجانات على أي حال.
وفي حين أن الفيلم اللبناني «الحوض الخامس» لسيمون الهبر فيه ما يُقدّر، لكن ذلك لا يستمر طويلاً مع تكشّف فجوة بين المنشود والمعمول به، أما «حلبجة- الأطفال المفقودون» لأكرم حيدو فتجد أن موضوعه الجيّد ينتفي بعد نصف ساعة. النصف الآخر من الفيلم دوران حول نفسه بسرد رتيب.
لكن هذا هو المستوى الشامل ويستطيع الواحد منا أن يتساءل كيف يمكن لمهرجانات السينما أن تكون مسؤولة؟
لو تابعنا مسيرة مهرجان “دبي” السينمائي مثلا نجده أكثر المهرجانات العربية تجسيداً للرغبة في تحقيق مستقبل أفضل للسينما العربية على طول مساحتها من المغرب وموريتانيا إلى الإمارات. وهو بعد تسع سنوات من إقامته، لا يزال المصدر الأول لما هو سينما عربية جامعة مع عروض تشمل، عددياً، أكبر كم من الأفلام المنتجة. لكن وتبعاً للمنافسة القائمة من مهرجاني أبوظبي والدوحة، اضطر لتسليم بعض خصائصه وأفلامه- وبالتالي- انفرادته إلى الغير. هذا الغير يحاول بنجاح متفاوت جذب السينمائيين العرب وأعمالهم وهذا من حقّه المشروع. المنافسة لابد أن تؤدي إلى فائدة الجمهور والسينمائي- لكن، وفي حالنا العربي الراهن، بثمن باهظ.

مع تعدد المهرجانات “الدولية” الهادفة لوضع هذا المهرجان او ذاك البلد على “الخارطة العالمية” اختلفت العلاقة التقليدية بين صانع الفيلم وبين المهرجان.
أولاً: صار ممكناً لصانع الفيلم أن يختار بين المهرجانات الكبيرة. مرّاكش محصور في أحلامه الفرنسية. القاهرة (الذي غاب عاماً وعليه الآن أن يبرهن عن حسن إدارته خصوصاً بعد النجاح الذي أنجزه مهرجان الإسماعيلية التسجيلي مؤخراً) لم يعد في الصف الأول عربياً. أبوظبي والدوحة ودبي هي الملاذ كون جوائزها تحمل مبالغ مادّية مرتفعة. ثم هناك الحوافز المالية الإضافية: ابرم عقدك معنا فنساعدك على إنجاز الفيلم لقاء أن يأتي عرضه الأول عندنا وليس عندهم.
أي وضع يتركه هذا في ذات السينمائي العربي؟
نحن أمام ثلاثة وضعيات:
أولاً: صار يحقق فيلمه بقصد أن يشترك في أحد هذه المهرجانات.
ثانياً: صار يحقق فيلمه ضمن معطيات أن الحوافز ستمكّنه من إنجاز العمل وهي بحد ذاتها كافية لأن ما يريده هو إنجاز العمل بالفعل. بمعنى أنه إذا لم ينل الجائزة فقد أنجز الفيلم بمساعدة مهرجانتية.
ثالثاً: بات هناك تعامل مختلف بينه وبين المتلقّي. التقليد هو أن يصنع المخرج فيلمه إما لجمهور عريض أو لفئة محدودة.

أكرم حيدو مخرج “حلبجة- الأطفال المفقودون”

لا النوع الأول ولا الثاني يحدد قيمة العمل، فهناك الجيد والرديء في كل صنف، لكن ما يجده اليوم متاحاً هو تحقيق فيلمه على نحو عريض يتوجه به إلى المهرجانات العربية ويطرحه للجمهور الواسع في الوقت ذاته. إذا ما أحسن المخرج العمل على هذين الجانبين، او إذا ما كان ذا خبرة في هذا المجال، فإن المحاولة قد تكون ناجحة (قد)، لكن إذا ما كان المخرج جديداً فإن الحاصل هو تناقض الصورة بعضها مع بعض.
معروف أن المخرج يرسم خطّـه الفني بالاستناد إلى كل ما سيؤلف الفيلم من عناصر وملامح وأساليب، وأن لديه اختياراً يعمد إليه منذ البداية. هو إما يلتزم بهذا الجانب الإبداعي او يتخلّى عنه. مقابل كل لقطة يصنعها في سبيل الاقتراب من جمهور خارج مساحة الفئة المثقّفة او النوعية التي تنتظره، هناك تنازل. معظم الأفلام تتوقّف دون تنازل شديد، لكنه تنازل كاف لوضعها في مستوى العمل الذي لم ينجز أفضل ما بالإمكان إنجازه. المهرجان العربي في الوقت الذي لا يطلب من المخرج العربي التنازل، الا أنه- بحوافزه- يترك الباب مفتوحاً أمام معالجة متسرّعة تفيد ذلك التنازل او تدعو إليه، فبعض لوازم الإبداع هو المعاناة. المخرج الذي لا يُعاني غالباً ما يصنع الفيلم الذي يتوجّه إلى القسم الغالب من المشاهدين، وهذا ما يؤدي إلى انتشار أعمال جيّدة لكنها ليست جيّدة على نحو كاف.
رابعاً: إذا ما كان المخرج قادراً على عقد الصفقات، فما هي الحاجة إلى المنتج؟ لقد ساعدت المهرجانات العربية من حيث لم تشأ في تهميش دور المنتج وتحويل الدفّـة صوب المخرج الذي سيستطيع جلب الاستثمار بنفسه بناء على اسمه والاستعداد المسبق من المهرجانات لعقد تحالف معه من قبل إنجاز الفيلم. تهميش دور المنتج لا يمكن أن يعود بالفائدة على السينما العربية. المنتج هو الجانب الصناعي الكامل للعمل. السينمائي الذي سيعمل لصالح الفيلم بصرف النظر عن الجانب المهرجاناتي. سيكفل له العناصر التي تستطيع الإيفاء بما قرأه على الورق وناقش فيه المخرج من جوانب. سيؤمّن أفضل شروط العمل الممكنة له وسيرتفع بفيلمه كما سيرتفع الفيلم به. الإجهاز على هذا الدور هو تفتيت عضد يؤذي ولا يفيد. 
كل هذا وسواه بات جزءاً من واقع المهرجانات العربية المتنافسة، لاستحواذ الأفضل. وفي حين كان من المأمول في البداية أن تُثير تعددية المهرجانات سباقاً إلى الأمام. لكن السنوات الأخيرة بدت كما لو أن هذه المنافسة تضخّمية في معظم الحالات. دخول المهرجانات (لا يهم كانت عربية او أجنبية) طرفاً في “التحفيز” هو طرف في “الإنتاج” وهو ليس من صنعها ولا شأنها، لكنه بات ممارساً تحت مسميّات مختلفة، لكن بالنظر إلى التجارب الماثلة، فإن العديد من الأفلام التي تم إنتاجها بتوفير دعم مهرجاناتي عربي، لم يصل إلى المستوى الفني اللائق.
والخوف من أن يؤدي كل ذلك إلى انتكاسة خصوصاً وأن المهرجانات العربية لا تستطيع أن تستمر هكذا من دون حسابات مالية (بعضها بدأ ينكمش فعلاً). هناك سقف وهذا السقف حين يصل إلى حدّه الأعلى فإن احتمالات انخفاضه تصبح- على الأقل- متساوية مع احتمالات توقّفه عنده. الأفضل هو أن يواصل السقف ارتفاعه، لكن هذا ليس خياراً وقت الحاجة، بل منهج عمل من البداية وهو ما كانت معظم المهرجانات العربية بحاجة إليه قبل اليوم.


إعلان