“موت للبيع” يفوز في المهرجان الدولي للسينما الأورب

عابرون للزمن باحثون عن وجودهم في مدينة غير مكترثة لهم ، باحثون عن إجابات تتعلق بحياتهم وغربتهم مع أنفسهم، عن هذه المدينة التي لا يجدونها ملاذا بل شقاء وحياة سلبية وهامشية ، لا شيء يلبي طموحاتهم ولا أحد يجيب عن أسئلتهم، الأسئلة التي تتعلق بالغد والآتي والمستقبل والحياة والمرأة ، لااحد يمكن ان يخرجهم من دوامات القلق والتيهان في حياة مشتتة يطحنها الفقر وتتشربها نوازع الخوف ولا شيء يحف بالإنسان غير السلطة ورجال الدين والمخدرات والجنس والخمر والبحر المترامي واللا جدوى ، إنها عناصر تحف بكائنات فيلم موت للبيع للمخرج المغربي فوزي بنسعيدي ، عناصر ثقيلة الوطأة على بضعة شباب هم ليسوا الا صورة مصغرة وعينة محدودة لشريحة اجتماعية يطحنها الفقر وتلهث وراء فضاء ما يحقق لها أحلامها الممزقة التي صارت بالتقادم أحلاما مغمسة بالدم والعنف والسرقة وانتزاع الفرصة بأي ثمن .
في ذلك الفضاء المضطرب سيبحث الأصدقاء الثلاثة كل عن وجوده في وسط الضجيج واللا جدوى، لا يربطهم رابط سوى ذلك التوغل في قرارة الذات في محنة وجودها وكينونتها في فضاء الهامش الذي احتواهم واحتوى عائلاتهم فهم وغائلة الفقر صنوان فيما المدينة القاتمة التي لا تكاد تشرق شمسها وغالبا ما لفّتها غيوم قاتمة، المدينة ليست الا مسرحا لتفجرات آلامهم وصراخهم الصامت .

سينما الحياة هي سينما الواقع المر الذي لا يحتاج الى ضجيج ولا صخب لغرض أن ندرك حقيقته وانعكاساته وهي سينما بنسعيدي في هذا الفيلم فالبساطة عنصر أساس وسمة غالبة سواء في رسم الشخصيات أو تعبيرها عن أنفسها أو من خلال أماكن التصوير التي صارت مثل مكان متصل لا فرق بين هنا وهناك ، فالأزمة التي تطارد الشخصيات والقلق والتشتت والعنف لا تستثني مكانا عن آخر … الأصدقاء الثلاثة هم مالك(الممثل فهد بنشمي )  الذي يعيش في كنف أسرة ممزقة ، يعيش مع زوج والدته التي لاحول لها ولا قوة سوى انها ربة منزل تؤدي عملها الروتيني المعتاد وزوج الأم يجرب حظه في دكان لبيع الخبز وشقيقة مالك تعمل في مصنع للملابس وزوج الأم يتسنزفها ومالك وسط هذه الدوامة خاضع دوما الى غلضة زوج الأم وزجره حتى يلفق له تهمة الاتجار بالمخدرات ويتخلص منه بسبب وطأته على أمه، وهو في وسط أزمته تبرز على سطح حياته “دنيا” (الممثلة ايمان المشرفي ) التي يطلق عليها المغاربة ” بنت الزنقة ” بمعنى انها فتاة عادية ورخيصة يقع مالك في حبها محاولا اخراجها من بيئة الدعارة والذل ويعيش معها كما تعيش هي حياتها بلا قيود ولكن يبقى سبب انقاذها الوحيد هو المال ، فمن اين يأتى بالمال الذي استحوذ هاجس الحصول عليه  على كل شيء. دنيا الشخصية المضطربة التي تستعرض فتنتها ورشاقتها تبتلعها الحياة السطحية العابثة وتظهر مشاهد علب الليل وحشد المراهقين والمراهقات الذين انزلقوا الى عالم الخمر والمخدرات والجنس الرخيص.. دنيا بديل مفزع بالنسبة لمالك فلا هو يستطيع أن يعيش معها حبا رومانسا حالما ولا هو قادر على انتشالها مما هي فيه ولا هو قادر على تركها .
أما علال، فهو الخارج توا من السجن وهو الذي يفتتح به الفيلم فهو يعيش مع اب يعاقر الخمرة سرعان ما يبتعد عن عالمه ، فعند علال تختصر الأحلام بضربة قوية في تجارة المخدرات تجعله ثريا ولهذا فأن علاقة التسكع مع هؤلاء الثلاثة لاتعدو التأمل في  المارة وشوارع المدينة  مع هجمات هنا وهناك على سيدات عابرات يتم اختطاف حقائبهن واقتسام مافي داخلها بين اولئك الثلاثة ، درس السجن ووطأة الحياة والفقر وانعدام شكل الأسرة تجعل حياة علال موجهة الى غاية محددة هي العنف والسرقة واي شكل من اشكال مخالفة القانون والهرب والتخفي وماالى ذلك ولهذا فلا قيمة عنده لشيء حتى تغدو خيانته لصديقة مالك امرا عاديا باعتدائه على دنيا في غيابه.

فوزي بنسعيدي

من الجهة الأخرى هنالك المراهق سفيان الذي يقيم في دار الأيتام والذي تسيطر عليه فكرة الانتقام من كل شيء وهو لا يتورع عن السرقة والاعتداء لينتهي به المطاف ان يستدرج من طرف احدى الجماعات “السلفية التكفيرية ” التي تلقنه القتل واثارة الهلع واستخدام السواطير وذبح الناس ومالى ذلك من ممارسات ارهابية وعدوانية ، وفي موازاة ذلك يمنحونه فرصة لكسب بعض الدراهم ببيع الأسطوانات المدمجة التي تضم الخطب والمحاضرات الدينية التي تحض على العنف …
.الثلاثة الذين اعتصرتهم أزماتهم سيلتقون في النهاية في نقطة واحدة هي سرقة أكبر محل للمجوهرات في مدينة تطوان لنكون امام مشهد بوليسي بامتياز تحتشد فيه الشرطة وافرادها وسياراتها لتطويق المكان لكن مالك مثلا سيفلت حاملا المجوهرات ليسلمها الى دنيا التي تغدر به تاركة اياه معلقا بين السماء والأرض في مشهد لافت ..

فوزي بنسعيدي، المخرج يطيب له ان يظهر في فيلمه كما فعل في فيلم سابق له “ياله من عالم رائع ” 2006 وهو في “موت للبيع” يظهر بدور ضابط شرطة بملابس مدنية ، يسعى لتجنيد مالك لجلب أخبار عن المتطرفين في مقابل منحه المال ومساعدته في البقاء الى  جانب حبيبته دنيا بل ان علاقتهما تذهب الى ما هو أبعد من ذلك اذ يظهران وهما يتشاركان طاولة الخمر لكن الشرطي   ما يلبث أن ينقض على مالك ويلاحقه فيما بعد ، لكن بنسعيدي في كل الأحوال بدا مقنعا الى حد كبير في أدائه لذلك الدور وليعكس وجها آخر من المعادلة والقوى الفاعلة في تلك الحياة المأزومة وهي السلطة والقوة التي تحضر متماهية مع حياة القلق والهامش والعنف لكي يكون لها دور ما في إحكام المعادلة .
خلال هذه الرحلة تجد الشخصيات في مشاهد عديدة وهي على هامش المدينة وفي طرف من أطرافها تبدو فيها من زاوية مرتفعة قاتمة تلفها الغيوم وحتى البحر فهو ليس ذلك الملتقى للناس للمتعة والتفاعل مع الطبيعة بل هو شاطئ مهجور في طقس لا يخلو من البرودة ، تتوزع عليه قطع خشبية لأشجار مقطوعة وهو مكان آخر للقاء الأصدقاء الثلاثة ومرور دنيا بصحبة أحد زبائنها .
كاميرا بنسعدي تتميز بديناميكيتها ولهاثها للحاق بالشخصيات وتفسير المكان وتجسير الصلة البصرية بين الجبل والبحر والمدينة واقبية الفقر ، لقطاته العامة لايريد من ورائها عنصرا جماليا لشكل المدينة وان تضمنت ذلك ، بل ان الخلاصة ان لاشيء سيختلف ان اتسعت المدينة او صغرت فهي قوقعة كبيرة لفقر جاثم  على الصدور.. وفي مواقف اخرى كانت الصورة اكثر تعبيرا عن الشخصيات في ازماتها الطاحنة كمثل الحوارات المشتتة بين علال وابيه وبين دنيا ومالك وبين سفيان والتكفيريين …
عاب بعض النقاد خاصة في المغرب على الفيلم استخدامه كمّا كبيرا  من الكلمات السوقية البذيئة والشتائم وأظهر الحياة في المدينة برمتها بهذا الشكل ، لا أمل فيها ولا بصيص إشراق، وفي الحقيقة تجد أن المخرج عمد الى الغوص في القاع بما هو عليه ولهذا لم يشذب لغة التخاطب مما هو شائع في الحياة اليومية خاصة في أوساط الهامشيين والمتشردين والمتصعلكين وذوي السوابق الإجرامية واللصوص ومتعاطي المخدرات وهي الشريحة التي تصدى لها الفيلم ..

حصل الفيلم على أهم جائزتين في مهرجان بروكسل الدولي للسينما الأوربية في دورته العاشرة التي اختتمت مؤخرا  الأولى هي الجائزة الذهبية لأفضل  فيلم سينمائي  وهي  “جولدن ايريس اوارد” كما حصل على  جائزة سينو-أوربا .وسبق أن حصل في وقت سابق على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الفيلم الوطني في طنجة والجائزة الكبرى للمهرجان الدولي للسينما المتوسطية .والمنافسة في مهرجان بروكسل كانت واضحة للعيان فقد شاهدت جميع أفلام المسابقة الرسمية الاثني عشر فلما وأغلبها كانت على مستوى متميز للغاية في الموضوعات والإخراج والقيمة الجمالية ومن مختلف دول القارة وهو تميز في هذه الدورة أكده لي المخرج “كوين مورتييه” عضو لجنة التحكيم خلال لقائي به ولهذا فإن فوز هذا الفيلم بهذه الجدارة وسط المنافسة الكبير هي نقطة مهمة للمخرج وفريقه  علما انه إنتاج بلجيكي فرنسي مغربي وإماراتي بسبب دعم حصل عليه من هناك ايضا.


إعلان