تسجيلي اسرائيلي عن الجاسوس الفلسطيني وعائلته
أمستردام – محمد موسى
بقيت السينما التسجيلية العربية والفنون الاخرى بعيدة عن تناول قصص الفلسطينيين الذين تعاونوا أمنيا مع اسرائيل ، وحتى وسائل الاعلام العربية الشعبية من فضائيات او صحف لم تقدم على خطوات كبيرة على الاطلاق لكشف خفايا هذا العالم. فقبل أعوام ، وعندما كانت النشرات الاخبارية تنقل بصورية دورية أخبار عن إنكشاف أمر “متعاونين” فلسطينيين مع اسرائيل ، وهو الامر الذي كان يؤدي بالغالب الى قتلهم بطرق وحشية ، لم تثر تلك الانباء فضول الأعلام كثيرا. بدت القصص الاخبارية تلك مكتملة الى حد كبير ومغلفة بعدالة لا تطالها اي شكوك ، من هنا يكتسب الفيلم التسجيلي الاسرائيلي “المتعاون وعائلته” ، اهمية كبيرة ، فقط لانه واحد من الاعمال الاولى التي لم تأبه الى حساسية الموضوع وتعقيده وصعوبة تنفيذه، فالاجهزة الامنية الاسرائيلية لن تطير من الفرح لكشف جانب من عملها في اجتذاب فلسطينيين للتعاون معها ، كما ان من العسير جدا التعرض للموضوع مع الجواسيس الفلسطينيين أنفسهم ( لاعتبارات أمنية بالطبع )، او مع أهلهم بسبب المحرم الاجتماعي الذي يحيط التعاون مع “عدو” في صراع يعد الاقسى والاطول في التاريخ الحديث.
يقدم الفيلم التسجيلي الذي أخرجه الاسرائيليان عدي باراش و روثي شاتيز الجاسوس الفلسطيني السابق ابراهيم وعائلته. رب العائلة هذا والذي يقترب من عقده الخامس ، هرب مع عائلته من مدينة الخليل قبل سنوات بسب مخاوفه من انكشاف تعاونه لسنوات مع الاجهزة المخابراتيه الاسرائيلية ، والتي ساعدته للوصول الى مدينة حيفا التي تقع ضمن حدود الدولة الاسرائيلية. يسجل الفيلم حياة العائلة بعد سنوات من وصولها الى المدينة ، فالابن الاخير للعائلة والذي يحبو الآن ولد في اسرائيل. لكن حياة العائلة أبعد ما تكون عن الاستقرار. فعوض البيت الكبير المحمي ( والذي يرتبط بقصص الجاسوسية التي نشاهدها على السينما !) ، تعيش العائلة في واحد من افقر احياء المدينة واشدها تفككا. في منطقة يمكن ان توصف بقاع المدينة ، فعندما يريد الاب ان يرشد إبنه لاحد المحلات هناك ، يستعين بعلامة هامة في الحي ، وهو أحد بيوت البغايا العديدة في الشارع. كما انه يمكن ومن نافذة بيت ابراهيم مشاهدة العاهرات الروسيات يقفن في الشارع الرئيسي في الليالي بحثا عن زبائن ، في حين تفتح العائلة المظلات داخل المنزل لوقف المطر الذي ينزل من الثقوب العديدة في سقف الشقة ، والتي تقع في الطابق العلوي لبناية كانها برج بابل، جامعة فقراء وصعاليك من كل العالم.

لكن البيت والحي هما آخر هموم العائلة الفلسطينية ، فهناك الكثير الذي يشغلها ، فهي ومنذ هروبها الى اسرائيل لم تحصل على اذونات دائمة للاقامة في الدولة العبرية ، ليعقد هذا الامر حياة العائلة بشكل كبير ، ويقربها من شفا السقوط والتشتت. فاحد الابناء لم يجد في ظل الظروف التي تعيش فيها العائلة الاهتمام الكافي لينخرط في عصابات الشوارع في المدينة ، وينتهي به الامر في سجن للاحداث ، فيما يقترب الاخ الاكبر من المصير ذاته. اما الام، التي ترجع لعائلة شهيرة بتدينها وقريبة عاطفيا من حركة حماس الاسلامية، فهي على وشك الانهيار العصبي. تبدو، رغم إنها في منتصف الاربعينات، كسيدة مسنة تحمل هموم العالم على كتفيها.
يقدم الفيلم مشاهد طويلة عديدة للاب وهو يتحدث مع الشخص المسؤول عنه في الاجهزة الامنية الاسرائيلية ، والذي يتهرب كل مرة من الحاحات “أبراهيم” ، للحصول على الاقامة الدائمة له ولعائلته ، بتعقيد الاجراءات الادارية الاسرائيلية. تواجه العائلة خطر الترحيل الى الاراضي التي تديرها السلطات الفلسطينية رغم فداحة نتائج خطوة كهذه على حياتهم. ينقل الفيلم والذي لم يغادر كثيرا بيت العائلة ، مخاوف العائلة تلك ، والتي ستستحوذ على كثير من وقت الفيلم ، الذي بدأ غير معنيا كثيرا بالشرخ العائلي (المسكوت عنه) الذي أحدثه تعاون الاب مع سلطات الدولة العدوة. حتى ان الفيلم كاد أن يخلو من اي إشارات عن ماضي الرجل ، لولا مشهد وحيد غاضب للاب الذي كان يعنف ابنه اللاهي ، مذكرا اياه ” بانه عمل كل شيء من اجلهم ، وانه خان بلده وأهله من أجل أن يحصوا على مستقبل مختلف في اسرائيل”.
يدور الفيلم التسجيلي ” المتعاون وعائلته ” في فلك المصاعب التي تواجهها عائلة ابراهيم مع النظام الاداري الاسرائيلي والذي تخلى عنهم بشكل مزري ، ليبدو في مجمله وكانه يتوجه الى المشاهد الاسرائيلي تحديدا ، وبذلك يشبه احدى الفقرات الاخبارية المطولة التي تعرض في نشرات الاخبار التلفزيونية والتي تسعى الى لفت انتباه الاجهزة الادارية المختصة لمسألة محلية صرفة. الفيلم بهذا يجرد قصة العائلة الفلسطينية من علاقتها مع التاريخ والواقع المعقدين والدمويين ، وكأن تعاون “إبراهيم” مع المخابرات الاسرائيلية كان لتسريب أسرار إدارية عادية، وليس جزءا من الحرب الطويلة المستمرة بين اسرائيل والفلسطينيين، والتي قضت بكل قسوة على مئات من الفلسطينيين في السنوات الاخيرة ، كان يصلهم ، وبفضل معلومات مخابراتية مفصلة ساعد في اعدادها جواسيس من داخل الصف الفلسطيني، السلاح الاسرائيلي الذكي في بيوتهم، لينتهوا في ميتات بشعة، لا تختلف كثيرا عن تلك التي يواجهها احيانا متعاونين فلسطينين مع اسرائيل ، والذين كانوا يقتلون بدون محاكمات في شوارع المدن والاحياء الفلسطينية.