النمساوي” سيدل” :مهمتي كوثائقي أن اقترب من الناس
حوار: إلينا كريستوبولو
ترجمة : رامي عبد الرازق
اعتبره المخرج الالماني الكبير فيرنير هرتزوج واحد من اهم عشرة مخرجين في العالم بالنسبة له وقال عن فيلمه”حب الحيوانات”:” لم يسبق لي من قبل أن شاهدت فيلما في السينما جعلني انظر مباشرة إلى الجحيم بشكل حقيقي”.
انه السينمائي النمساوي”إلريش سيدل”الذي ولد في فيينا عام 1952 واستطاع خلال ثلاثين عاما من تقديم الافلام الوثائقية والروائية أن يحصد عدد كبير جدا من الجوائز الدولية الهامة في كلا المجالين حيث حصل فيلمه الروائي الاول “يوم الكلاب” 2001 على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان فينيسيا الدولي, كذلك اصبح من الاسماء المتكررة في قائمة التنافس على السعفة الذهبية لمهرجان كان منذ عام 2007 عندما أختير فيلمه الهام” استيراد وتصدير” ضمن برنامج المسابقة الرسمي وعاد هذا العام 2012 لينافس بفيلمه الروائي”الجنة”.
قام مهرجان سالونيك الدولي للافلام الروائية في دورته الثانية والخمسين التي اقيمت في نوفمبر الماضي بتكريم”سيدل”على اعتباره أحد اهم السينمائيين المؤثرين في السينما الاوربية الحديثة وقام المهرجان بتنظيم برنامج استعادي لاهم افلام”سيدل” كذلك اصدر عنه كتابا تكريميا احتوى على حوار مطول معه- والتي نقدمه هنا للقارئ العربي- كذلك عدة مقالات وقراءات نقدية عن اسلوبه السينمائي الذي يجمع ما بين وثائقية الروائي وروائية الوثائقي.
هنا نص الحوار والمعنون بالانجليزية “هل يزعجكم ذلك ؟؟ “
على اكثر من مجرد الصعيد الشخصي لقد سبق لك وان صرحت قائلا”ان صناعة الأفلام التسجيلية هي احد مدارس الحياة الهامة لانها تعني ان تنظر إلى حياة الأخرين, وان تخوض في عوالم غريبة والتي بدون الحالة الوثائقية لن تتمكن من معرفتها ابدا”…
فهل صناعة الافلام الروائية لا تسمح لك ايضا بالغوص في العوالم الغريبة او المختلفة؟
لا, فهناك اختلاف كبير بينهم, فأنا كصانع افلام وثائقية يجب أن اقترب من الناس الحقيقيين وان انظر عن قرب لحياتهم الحقيقية, ومواجهة الظروف الواقعية لحياتهم, كوثائقي فإنني اخوض في عوالم غريبة عني, واعيش مع اشخاص لم اعرفهم من قبل حتى هذه اللحظة.
هذا الواقع الجديد الذي اعيش فيه معهم يصبح هو المادة والألهام على حد سواء, اما في الفيلم الروائي/الخيالي فأن الفكرة واسلوب الاقتراب مختلفين, في الفيلم الخيالي فإن الواقع مصاغ دراميا بشكل او بأخر, وموضوع في اطار مختلف عن واقعه, وحتى الاشخاص الذين يؤدون ادوارهم فيه فأنهم يلعبون شخصيات مختلفة تماما عن حقيقتهم في العالم الواقعي.

لقد تم تصنيفك على أنك مخرج سياسي ولكن دون ان تكون انفعاليا, هل توافق على هذا التنصيف ؟ وكيف يظهر هذا في اعمالك؟
سيدل: يمكن أن نعتبر افلامي سياسية إذا نظرنا إليها على اعتبار انها تعكس صورا من مجتمعنا, خاصة المجتمع الغربي, انني ارسم العالم كما اراه, واثير مناقشات ولكني لا ادين أحدا ولا احكم على أحد, انني لا احدد ما يمكن أن يفكر فيه الجمهور, لانهم ببساطة يستطيعون بل ويجب عليهم ان يقوموا بذلك بأنفسهم.
لقد قلت من قبل ” أنني احاول ان اسير على حبل مشدود فوق الخط الفاصل ما بين الاعداد الدقيق للفيلم والانفتاح على ما لا يمكن التنبوء به” هل يمكن ان تذكر لنا مثالا يعبر عن حدوث “ما لا يمكن التنبؤ به” وكيف قلب من موازيين الأمور في احد افلامك؟ ربما مثال قريب لقلبك او لا تزال تتذكره !
ما عنيته بهذا هو انه اثناء عملية”إنتاج”الفيلم وعلى الرغم من شهور الاعداد وبعيدا عن التعليمات الصارمة التي اعطيها لممثليني فإنني انتظر تلك الأمور التي تحدث بالصدفة حيث يمكن أن يتعرض الممثلين إلى تحدي ما وان يحصلوا على”مساحة”خاصة بهم في نفس الوقت.
وهناك أمثلة لا تحصى على هذا, في فيلم “استيراد وتصدير” هناك المشهد الذي تطلب فيه الممرضة من العجوز طريح الفراش ان يطعم كلبه, ما حدث ساعتها أن العجوز اكل طعام الكلب بنفسه وهو امر حدث بالصدفة دون ترتيب, ومثل هذه الامور حين تحدث فأنها تغيرمن دلالة الفيلم واحيانا من نهايات الأفلام.
في فيلم”ايام كلب” تنتهي القصة بالزوجين يقومان بالتأرجح على ارجوحة للاطفال, هذه الفكرة جائتني هناك ولم تكن مرتبة ولكني شعرت بها بمجرد أن رأيت تلك الارجوحة في موقع التصوير وكانت النهاية في السيناريو الاصلي للفيلم مختلفة تماما.
يصفك المصور السينمائي “ادوارد ليخمان” الذي عمل معك في اكثر من فيلم على انك صانع افلام صاحب رسالة ولكن دون ان تكون اخلاقيا في نفس الوقت, وانت نفسك صرحت بأن”افلامي نقدية ولكنه ليس نقدا تجاه افراد ولكن تجاه المجتمع, فلدي رؤية خاصة عن فكرة الحياة بكرامة” ما هي رؤيتك بالنسبة للحياة بكرامة ؟ وما هي الرسالة الأخلاقية التي تحتويها؟
انني اؤمن بأن ما قاله”ليخمان”يعني ان لدي موقف محدد تجاه الحياة ولكن رغم ذلك فأنني في افلامي لا اقوم بفرض هذا الموقف على احد, بل انني اتمنى ان اقدم فقط مجرد غذاء للأفكار, حتى فيما يتعلق برؤيتي لمعنى الحياة بكرامة, فهو أمر متغير جدا ويمكن لكل متلقي ان يراه بشكل مختلف بل انه يتغير من مرحلة حياتية إلى اخرى في حياة الانسان.
لماذا تجعل شخصيات أفلامك تحدق دائما في الجمهور؟
سيدل: لان هذا هو ما يهمني , انني مهتم باللحظة التي تحدق فيها الشخصية في الكاميرا واختبار ما يمكن ان يشعر به الجمهور جراء ذلك, فهل يزعجهم ذلك؟ هل يجدوه غير محبب أو مقبول؟ هل يخيفهم هذا؟ هل هو امر حزين؟ ام هو على العكس مسألة طريفة؟
انت تبدو دائما في اغلب افلامك وكأن ثمة حقيقة تحاول دائما ان تنقل رسالتها للناس فما هي؟
سيدل: انها حقيقة ان ما يروه على الشاشة فأنهم يرونه من خلال عيني انا.

ثمة اجواء غامضة تتمكن من خلقها عبر اعمالك تترك الجمهور يتساءل بعدها اي مشهد كان حقيقيا وواقعيا واي مشهد لم يكن! مما يجعلك فريسة لتساؤلات الجمهور حول نواياك وافكارك حول “الحياة الواقعية” ؟
انني لا اخلق اية اجواء غامضة, ولكن من السذاجة أن يتصور المرء ان ثمة حقيقة واحدة وأن ثمة أسلوب واحد لروايتها, هذه احد الامور المهمة التي تطرح نفسها كأشكالية منذ اول فيلم وثائقي تم تصويره في تاريخ السينما, لانه في اللحظة التي يحمل فيها احدهم كاميرا لتصوير شيئا ما فإن الناس يبدأون في تغيير سلوكهم وطريقتهم في التعامل امام الكاميرا, انني فقط احاول من خلال اسلوبي الخاص أن اصل للحقيقة وكأنها شئ زائد عن الحاجه بالنسبة لهم.
انني استخدم عناصر وثائقية في افلامي الخيالية, وفي افلامي الوثائقية فانني استخدم عناصر مرتبة مسبقا من قبل الإنتاج لان ثقة المشاهدين في افلامي يجب ان تبنى على مستوى اعلى من مجرد انتظار الحقيقة المجردة.
لقد قلت عن فيلمك الوثائقي”حب الحيوانات”:”ان الأمور في بعض الاحيان ذهبت إلى ابعد مما كنت اتخيل حتى انني تصورت أنه لن يمكنني أن اظهر ما اقتربت منه داخل تلك الشقق ولقد اصبت بالفعل في احيان كثيرة بالأحباط ” ! ما هي الامور التي ازعجتك إلى هذه الدرجة؟ وكيف تعاملت معها؟
ازعجتني هو تعبير خاطئ, أنني لم اكن منزعجا, ولكنني شعرت بأضطراب في وعيي نتيجة لما رأيت, وعشت وتعلمت. ان الوحدة والفراغ العظيمين اللذان رصدتها داخل هؤلاء الأشخاص هو ما جعلهم يتورطون في علاقات حب غير طبيعية مع الحيوانات و لقد رايت ما لا احتمل من الاحضان والقبلات للكلاب, كل هذا اشعرني بحالة احباط انسانية وليست فنية.
ولكنك صرحت بالفعل أنك تريد أن تقدم فيلما عن الحب وان هدفك لم يكن الاكتشاف ولكن الحميمية. في الحقيقة انك في”حب الحيوانات” اكتشفت بالفعل هذه الحميمية ولكن كعادة كل افلامك يخلف الأكتشاف دوما حالة من الوحدة, لقد صنعت فيلما عن الاحتياج إلى الحب واغلب شخصيات افلامك الوثائقية والروائية تشبه هذا الفيلم هل شعرت يوما بانك تريد أو يجب عليك أن تساعد مثل هؤلاء الاشخاص ؟

بالطبع لا, فهذه ليست مهمتي, ولا يمكن أن تكون, ماذا افعل كي اخرج هؤلاء الاشخاص من وحدتهم؟ أن ما افعله هو ان اقدم لهم الأشياء العادية التي يفتقدونها , اوفر لهم بعض الصحبة اثناء التصوير, لقد دفعت لبعضهم فاتورة الطبيب البيطري وساعدت اخر في تحريك ثلاجته, لو استمريت على علاقة بهم حتى بعد نهاية التصوير, ان الصحبة التي اقصدها هي أني منحتهم جمهورا يشاركهم تلك الوحدة عبر افلامي.
لقد قلت من قبل أن فيلم”موديلز” كان اصعب افلامك اخراجيا على الاطلاق هل لا يزال هو الأصعب ام انك انجزت افلاما اكثر صعوبة منه؟
لا لم يعد هو الاصعب, لقد اصبح اخراج افلام مثل “استيراد وتصدير” او”الجنة” اكثر صعوبة الجنة على سبيل المثال استغرق تصويره اربع سنوات( الجنة هو الفيلم الذي شارك به في دورة مهرجان كان الاخيرة-المترجم) ما قصدته في مسألة الصعوبة ان العمل مع الموديلز هو الامر الصعب لقد كانوا موديلز حقيقيين وكانوا معتادين على التعامل بشكل سئ وعلى ان يلتقوا الاوامر طوال الوقت, انهم يؤمنون ان المسألة كلها تتمحور حول المال, وفي بداية التصوير لم يكونوا معتادين على اسلوبي الحر في التعامل والمبني في الاساس على الثقة المتبادلة في القدرة على التعبير وليس في المقابل المادي فقط.