في دهاليز أقدم مهنة في التاريخ

إذا كانت معظم الصالات السينمائية الأوربية “تستسلم” كل صيف لأبطال الحكايات المصورة وقصص التحريك وأفلام الميزانيات الضخمة القادمة من هوليوود، تسير الأمور على عاداتها في الصالات الفنية، إذ تفرد برمجة الموسم الصيفي مساحة لأفلام تسجيلية جنبا الى جنب مع الأفلام الروائية المستقلة الإنتاج والأفلام الفنية التي تعرضها هذه الصالات، فلا استراحة صيفية لرواد تلك الصالات من شقاء وأسئلة العالم الشائكة والمستعصية والتي تقدمها تلك الأفلام بالغالب.

ففي بريطانيا يعرض منذ أيام  فيلم “نحن الشعراء” للمخرجين دانيال لتشيسي وأليكس رامسيير- باش واللذان يرافقان فيه ستة من طلاب المدارس البريطانيين من مقاطعة “يوكشر” في رحلتهم للاشتراك في مسابقة شعرية في مدينة واشنطن الأمريكية. تشير الاختلافات الاجتماعية والعرقية بين الطلاب المشتركين إلى تنوع المجتمع البريطاني المعاصر، فإحدى الطالبات هي مسلمة محجبة، تجد في الفيلم فرصة للدفاع عن حريتها بارتداء الحجاب، وهناك أيضا طالب من أصول آسيوية. وفي بريطانيا أيضا يعرض فيلم “حنين الى الضوء” للمخرج التشيلي باتريسيو جوزمان الذي يقدم فيلما شاعريا عن ظواهر طبيعة في صحراء أتاكاما في تشيلي. الفيلم، وإن كان يبدو بعيدا عن السياسية والراهن  الاجتماعي، لا يتخلى عن التعرض لتاريخ البلد الجنوب الأمريكي الدامي. وتعيد صالات سينمائية بريطانية منتخبة فيلم “تحية” للأسترالي مات نورمان ( إنتج عام 2008) عن عمه العداء الذي فاز في عام 1968 بالميدالية الفضية في اولمبياد المكسيك في مسابقة 200 متر، لكن العداء استقر في صفحات التاريخ لسبب آخر، فهو كان في الصورة الفوتغرافية الشهيرة التي أظهرت زميليه الأمريكيين الأسودين واللذين فازا بالميدالية الذهبية والبرونزية، وهما يحييان الجمهور بالتحية التي كانت متداولة بين أعضاء حركات السود المسلحة في نهاية الستينات. سيعود الفيلم التسجيلي لهذه الصورة الأيقونة والتعاطف الذي أبداه “عم” المخرج وقتها مع زميليه بحمله لشعار الدفاع عن حقوق الإنسان في مراسيم تقليد الميداليات الرياضية، كما سيقابل أبطال الحادثة الشهيرة التي أثارت ضجة واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية وقتها.

التنافس على السيارة الكهربائية

ومن الولايات المتحدة الأمريكية تعرض صالات سينمائية بريطانية منتخبة الفيلم التسجيلي “انتقام السيارة الكهربائية” للمخرج كريس بين، والذي يسجل طوال ثلاثة اعوام التطورات التي قطعتها شركات عملاقة وأخرى مبتدئة لإنتاج سيارات تعمل بالكامل على الطاقة الكهربائية. من الشركات التي فتحت أبوابها لفريق الفيلم التسجيلي، “جنرال موتورز” الأمريكية المعروفة، والتي أحال الحديث عن خططها لصناعة السيارة الكهربائية لموضوع الصناعة الأمريكية الوطنية بالمطلق، والتي تتضاءل بسرعة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، لصالح المنتج الذي يصنع بعيدا عن أراضي الدولة الاقتصادية الاولى في العالم، ليغدو نجاح الشركة المذكورة بإنتاج سيارة أمريكية كهربائية شعبية مهما جدا للشركة، التي تواجه منافسة شرسة من شركات آسيوية لتصنيع السيارات، كشركة “نيسان” اليابانية، والتي تقدم في الفيلم التسجيلي أيضا، إذ طورت الأخيرة في السنوات القليلة الماضية نموذج سيارات كهربائية تتطلع معه لتصدر شركات السيارات في العالم. كذلك يقترب الفيلم من تجربة شركة “تسلا” الحديثة لإنتاج السيارات الكهربائية والتي وصفها أحد الخبراء المختصين، بأنها محاولة لنقل مركز إنتاج السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية من مركزها التقليدي في مدينة ديترويت الى وادي السيلكون في ولاية كاليفونيا، فمالك شركة ” تسلا ” الأمريكي الشاب “إيلون ماسك” كان قد صنع ثورته من عالم الأنترنيت قبل ان يتوجه لمشروع إنتاج سيارات تعمل بالكهرباء مع التركيز في المنتَج الجديد على السرعة العالية والشكل العصري، واللذان لم يكونا أبدا في حسابات مصممي الجيل الأول من السيارات الكهربائية.

يؤكد الفيلم أن الوقت قد آذن لإنتاج سيارات كهرباء شعبية، ليس فقط بسبب مطالب كثيرين بتقليل الاعتماد على النفط وضرورة وقف التلوث الذي يقود، وكما يزعم علماء كثيرين، إلى التغيير المناخي، لكن يبدو أن شركات السيارت نفسها اقتنعت أخيرا بضرورة توجيه جهدها لإنتاج سيارات تنال ثقة المستهلك، وبعد أن كانت مترردة كثيرا لأسباب عديدة، منها همينة ذهنية تقليدية لم تتعامل بجدية في الماضي لإيجاد بديل للبنزين.

يتعثر الفيلم بإيجاد مسار فعال ويضيع قليلا بين الأبواب العديدة التي فتحت له من قبل شركات وشخصيات مثيرة، تستحق كل واحدة منها فيلما منفصلا، بالمقابل تنقل الفيلم على عجالة أحيانا بين شخصياته مهدرا فرصا عديدة للتعمق اكثر بعالم الأمريكي ” إيلون ماسك ” مثلا وتجربته الشديدة الأهمية ومحاولته تأسيس نموذج اقتصادي عصري وغير تقليدي، وهي التجربة المتواصلة لليوم، أو الأمريكي الآخر بوب لوتز المدير التنفيذي لشركة “جنرال موتورز” والذي دفع شركته لإنتاج سيارة اقتصادية في نهاية حياته المهنية واقترابه من عمر التعاقد، وكأن هذا الفعل هو تكفير عن سنوات طويلة من نشاط كان يمجد فيه إنتاج السيارات الشخصية الكبيرة الحجم، والمعروفة باستهلاكها الكبير للوقود.

مهنة البغاء حول العالم
يواصل المخرج النمساوي مايكل غولوغير ما بدأه في فيلم “المدن العملاقة” والذي عرض في عام 1998، بتقديم قصصا منتخبة من حول العالم تجتمع بتقديم الثيمة ذاتها  ضمن الاطار الانساني الخاص الذي إختاره المخرج لأعماله التسجيلية، لتكتسب تلك الأفلام صبغة كونية وتحيل سريعا  إلى توصيفات  العولمة الذي يوسم بها عصرنا الحالي، لكنها عولمة خالية من أي بهرجة او تمجيد، ومثقلة تماما بالألم والظلم الذي يتشارك فيه بنو الإنسان على كوكب الأرض هذا. فبعد أن تناول في فيلم “المدن العملاقة ” قصص فقر وحب وعمل لشخصيات من الهند والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والمكسيك، وقدم في فيلمه التسجيلي اللاحق “موت العامل” والذي عرض في عام 2005، الأعمال الخطرة التي يقوم بها كثر حول العالم من أجل الحصول على قوت يومهم. يصل في فيلمه الثالث ”

فيلم مجد بائعات الهوى

” الى أقدم المهن في التاريخ، فيدخل في دهاليز  صناعة الجنس المظلمة في تايلند وبنغلادش والمكسيك.

يتألف الفيلم التسجيلي الطويل من ثلاثة أجزاء فيبدأ من تايلند، والتي يتابع فيها يوميات شركة كبيرة منظمة لبيع المتع الجنسية، ثم ينتقل الى بنغلادش والتي يسجل من حي خاص في أحد مدنها ظروف تجارة الجنس في واحدة من أفقر بلدان العالم، فيما يختتم المخرج رحلته في المكسيك من حي منعزل يتخصص بتقديم الخدمات الجنسية للرجال هناك. يسجل الفيلم، وكحال عمل المخرج السابق عن الاشغال الخطرة (فيلم موت العامل)، يوميات عمل لبائعات اللذة في الدول الثلاث.، يعايش تلك التفاصيل العادية وينقلها بدون توليف كبير أو مقابلات زائدة الى الجمهور. لكن وبسبب طبيعة مهنة نساء فيلم “مجد بائعات الهوى”، يقترب هذا  العمل التسجيلي من الغواية أحيانا. هذه المقاربة تبدو مهمة كثيرا لفهم ما تمر به إولئك النساء وأيضا زبائنهن من طالبي المتعة. فالتكرار الذي تمنحه مشاهد المراقبة الطويلة لعالم العاملات في صناعة الجنس يوجه إنتباه المتفرج تدريجيا الى ما تتضمنه المهنة من مهانة وشقاء للنساء، حتى قبل أن تفتح بعض هؤلاء النساء أفواههن بالشكوى. فتفاصيل العمل اليومية العادية تلك، تتراكم لتتحول إلى إدانة للمجتمعات والأفراد الذين يديرون بها أو يتغاضون عن ثمنها البشري الباهض، كما تكشف نساء عديدات، وخاصة في الجزء البنغلادشي من الفيلم، عن تجارة الرقيق التي دفعهن لها، فيما يركز الجزء المكسيكي عن العنف الذي تتعرض له نساء هناك من اللواتي يعملن في تجارة الجنس.

لا تخيف حساسية موضوع الفيلم التسجيلي كثيرين من التحدث بحرية كبيرة لكاميرا المخرج النمساوي، من نساء عاملات أو زبائنهن، الأمر الذي يطرح تساؤلات وشكوك، إذا كان المخرج وفريق إنتاج الفيلم قاموا بدفع أموال للنساء أو لبعض الرجال مقابل الحديث للفيلم، أم أن الوقت الطويل الذي قضاه المخرج مع هؤلاء النساء، جعلته يظفر بثقتهن؟.. الإجابة ستكون مهمة كثيرا لو لم تتضمن تلك المقابلات كل ذلك الصدق والعفوية الذي ظهرت به في الفيلم، عندها تكون المعرفة بتفاصيل العمل في الفيلم فنية بحتة، للتعرف على أسلوب عمل واحد من أبرز مخرجي الأفلام التسجيلية في العالم .


إعلان