الفيلم التونسي “ديما براندو”جلد الذات والسينما معا

ديما براندو

يعتبر “ديما براندو” أحد مشاريع رضا الباهي التي تعثرت لسنوات خصوصا بعد وفاة الممثل الأمريكي مارلون براندو الذي كان من المفترض أن يكون فيلمه الأخير من إخراج الباهي.
يتخذ الفيلم تيمتين اساسيتين الأولى هي تيمة الأفلام التي تتحدث عن أفلام, فأحداثه تدور في قرية تونسية نائية تعيش على حافة الزمن والحياة، يحلّ عليها فريق تصوير أمريكي ليصور بها بعض المشاهد ويستعين بأهلها ككومبارس, اما التيمة الثانية فهي تيمة تسجيلية تكسر الايهام وتصور لنا المخرج من خارج فيلمه, يتحدث عن تجربته في صناعته وعن بدايات الفكرة وكيف تطورت وآلت إلى ما آلت إليه بعد موت براندو عام 2004.

لوم الذات أم السينما !
يتخذ المخرج من فكرة الحديث عن فيلمه مساحة يعبر فيها بشكل مباشر وأخلاقي جدا عن رأيه في الافلام الأجنبية التي تصور في تونس منذ منتصف القرن الماضي, وكيف انها تأتي لمجرد التصوير في الأماكن الطبيعية الجميلة وتستخدم أهالى القرى الجهلة الفقراء كمجاميع يمثلون ادوار العبيد او الأشرار أو الجنود القتلى, ويبرهن على رأيه بمشاهد ارشيفية من افلام صورت في تونس وبتفاصيل من داخل فيلمه الذي يقوم على نفس الفكرة.
يذكرنا هذا الأسلوب بما اتبعه يوسف شاهين في رباعية السيرة الذاتية خاصة فيلم “اسكندرية كمان وكمان” عندما كان يكتب الفيلم وهو معتصم بنقابة المهن السينمائية ويعيش في نفس الوقت داخله ويرى نفسه ومن حوله شخصيات في فيلمه.
الفرق أن الباهي لا يضع نفسه وشخصيات من حوله بل يحاول تجسيد افكاره بوضع اكبر قدر من التفاصيل المنفرة عن تصوير الأفلام السينمائية في تونس للبرهنة على صحة رأيه, وهو اسلوب غير فني في التعامل مع الأراء خصوصا أنه أجبر شخصياته على العديد من الأفعال والقرارات الغير مبررة دراميا لمجرد أن يدعم فكرته حول لا أخلاقية استخدام السينما الامريكية لأهل بلده او لسيطرة الآخر الغربي بشكل استعبادي على مقدرات اهل البلد.

شذوذ غير مبرر
الشخصية الرئيسية هي أنيس الذي يشبه مارلون براندو في شبابه والذي يستميله أحد الممثلين الامريكان لكي يقنعه أن يمثل مستغلا شبهه ببراندو, في الوهلة الأولى يرفض الشاب بشدة ويبدو غير قادر بالفعل على التمثيل لانه لا يملك الموهبة, ولكن الممثل العجوز يشجعه إلى أن نكتشف انه يفعل ذلك لانه يشتهيه ويراوده عن نفسه, ولكن انيس يرفض في البداية ومع استحواذ فكرة السفر إلى هوليود عليه -على اعتبار انها حل لكل مشاكله العاطفية والاقتصادية-  يستسلم ويسقط في فراش الشذوذ مع الممثل الأمريكي, ويذكرنا هذا الخط بشخصية الشاب المهووس بهوليود التي أداها الممثل المصري “اشرف عبد الباقي” في فيلم المخرج زكي فطين عبد الوهاب”رومانتيكا” والذي اسلم نفسه لرجل اجنبي شاذ وعده بتسفيره إلى هوليود.
وشتان طبعا بين الشخصيتين, فالباهي لم يجعل رغبة انيس متجذرة في داخله منذ الطفولة مثلا  بسبب شبهه ببراندو, وإنما بدا الأمر كمغامرة عابرة تحولت إلى هوس غير مبرر من الشاب, كذلك فإنه من الصعب دراميا تقبل أن شاب كهذا من السذاجة بحيث يسقط في هوة الشذوذ لمجرد أن رجلا عجوزا وعد بتحويله إلى نجم سينمائي في أمريكا رغم ان الرجل نفسه ليس نجما ذو حيثية.
  إن علاقة أنيس بالممثل الأمريكي هي إدانة أخلاقية للشباب التونسي الذي يبيع نفسه للغرب من أجل المال والشهرة ولكنها ادانة  شديدة الافتعال والمزايدة بلا أسباب حقيقية اجتماعية كانت أو اقتصادية أو حتى سياسية فالفيلم المصور بالطبع قبل الثورة التونسية عزل القرية عن الواقع السياسي ربما تجنبا للخوض في الأمور التي كان محظورا الحديث عنها.

قبلة أمام الضريح
أما حبيبة أنيس والتي تقبله في مشهد شديد الجرأة أمام ضريح الشيخ الذي تتبارك به القرية فإنها تستسلم هي الأخرى لرغبة انيس المهووسة في السفر إلى أمريكا رغم ان تلك القبلة التي تكسر فيها تابوهات كثيرة تجعلنا نشعر انها لا يمكن أن تعيش بعيدا عنه, وبميلودرامية شديدة لا تجد امامها سوى أن تبيع جسدها لبقال القرية مقابل5000 دينار هي ثمن تذكرة سفر أنيس, لكي يتحقق ويصبح نجما, وهذا الخط ايضا شديد الأفتعال لأنه يريد فقط تدعيم رؤية المخرج عن سقوط الشباب التونسي من أجل المال على الرغم من ان شخصية الفتاة من البداية تبدو قوية ناضجة تتمنع على حبيبها نفسه وتحاول بشتى الطرق أن ترجعه عن افكاره المهووسة.
وإلى جانب شخصيات أنيس وحبيبته هناك الرجل الفقير الذي يقدم ابنته لأحد المصورين مقابل مبلغ من المال لكي يصورها عارية كما يوحي لنا, وهناك عبيط القرية خدام الضريح الذي يقبل أن يمثل دور عبد ذليل يأتي السواح لمشاهدته في ديكور الفيلم بعد أن غادر الامريكان, وهناك الشاب صاحب محل الفيديو الذي يتعاون مع فريق التصوير الأمريكي بحكم لغته الأنجليزية ثم يتحول إلى مرشد سياحي ينصب على السواح بحكايات وهمية عن اسطورية المكان والأثار المزيفة الموجودة فيه, وهي شخصية اقرب”للخرتيه” وهي فئة الشباب المصري الذي ينصب على السواح الأجانب والتي نراها ايضا في فيلم “رومانتيكا”.
ان الباهي يدين كل اهل القرية التونسية بلا مبرر حقيقي سوى رغبته في تقديم نقد اجتماعي وسياسي شديد السطحية والفجاجة,ودون تعمق حقيقي في طبيعة المشاكل او تكوين الشخصيات.

الهجرة غير الشرعية

رضا الباهي (يمين) أثناء التصوير


إخراجيا يبدو الفيلم تجربة بصرية متواضعة, مصورة بشكل بدائي وغير متقن, وتبدو تقاطعات السرد ما بين الفيلم الروائي والحديث التسجيلي الذي يقدمه رضا بصوته وصورته غير متلازمين ولا تربطهما وحدة عضوية متينة, بل مجرد حلية شكلية أو محاولة تجريب لا تليق بمخرج قدم أفلاما هامة مثل “شمس الضباع”
وكان لابد مع كم الميلودراما الفاقعة أن ينتهي الفيلم بموت أنيس في محاولة هجرة غير شرعية إلى ايطاليا, لتبقى بذلته البيضاء الغارقة على الشاطئ رمزا لعدمية النهاية التي تنتظر أجيال الشباب التونسي في رؤية تشاؤمية أثبت الواقع عكسها بعد أن قامت ثورة الياسمين.
إن الباهي دون أن يدري أدان السينما وحملها مسؤلية ما يحدث من مشكلات لأبناء بلده وصور الأمريكان على أنهم أبالسة كل همهم أن يستغلوا سذاجة أهل القرية وحاجتهم للمال, من خلال افكار نمطية وشخصيات مكررة استنفذت وهجها الدرامي مثل “عبيط” (الساذج) القرية والبقال الشهواني والحبيبة المضحية التي تسقط من أجل فتاها وعرافة القرية التي تنصب على السواح باسم الطالع والغيب.
اما الخط الخاص للفيلم بحديثه عن براندو فهو مجرد فضفضة دعائية عن فيلمه الذي لم يتم ومشروعاته التي أحبطها القدر ولم يعكس ذلك حبا للسينما بقدر ما عكس حسدا لمن تمت مشروعاتهم بنجاح, ونتصور أنه لو تم مشروعه الأخير مع براندو ما اقدم على تصوير السينما الأمريكية على انها فريق من الذئاب القادمين لنهش الشباب التونسي بالشذوذ والعري. 


إعلان