الحدود الفاصلة بين ثنائية القبح والجمال
قراءة نقدية في فلم “L” للمخرج حسن دحاني
عدنان حسين أحمد
تضمنّت مسابقة الأفلام الروائية القصيرة في مهرجان الإسماعيلية الخامس عشر “21” فلماً من بلدانٍ عربية وعالمية مختلفة، ومعظم هذه الأفلام يستحق الدراسة والنقد والتحليل، وعلى رأسها “مطر غزير” للآيرلندية كلير ديكس، و “غوبل” للرومانية رالوكا ديفيد، و “خلف النافذة” للبنانية نغم عبّود، و “فصل ب” للإيراني محمد نصيري. وعلى الرغم من أنّ جائزة أحسن فلم قد ذهبت إلى “غوبل” لرالوكا ديفيد، فيما أُسنِدت جائزة لجنة التحكيم إلى فلم “الحاضنة” للنمساوي كريستوف كوشنيغ، كما نوّهت اللجنة ذاتها بفلم “إدويج” للمخرجة الفرنسية “من أصل جزائري” مونيا مدور، وعلى الرغم من كل الجوائز التي ذهبت إلى مستحقيها في هذه المسابقة، إلاّ أنّ هذا التتويج لا يعني بأن الأفلام الأخرى التي لم تفز كانت غير جيدة أو دون المستوى المطلوب، ولعل فلم “L” للمخرج المغربي المبدع حسن دحاني هو خير أنموذج لما نذهب إليه.
وقبل الخوض في قراءتنا النقدية لهذا الفلم لابد من التعريف بالمخرج حسن دحاني الذي درس الرياضيات، وتخصص بها، لكنه انساقَ وراء رغبته الحقيقية في الفن البصري، فسافر إلى ولاية فلوريدا الأميركية ليدرس السينما وينقطع إليها. وقد أنجز عدداً من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة نذكر منها “المغرب أرض العلوم”، “أنا أطير”، “من حذاء لحذاء”، “أحبك ولكن. ..”، “الخبز المر” و ” L ” الذي نال استحسان المشاهدين وبعض النقاد على حد سواء.

تناول دحاني العديد من الموضوعات الحساسة منها ما يتعلق بالإعاقة البدنية كما هو الحال في فلم “أنا أطير”، والاضطرار لممارسة البغاء في “الخبز المر” والخيانة الزوجية في فلم ” L ” موضوع هذه الدراسة النقدية. يمكن تلخيص قصة هذا الفلم بأن المرأة “جسّدت الدور بلغة تعبيرية عالية الفنانة المتألقة نفيسة بن شهيدة” تخون زوجها الفنان التشكيلي “لحبيب”، أدى الدور بحرفية كبيرة الفنان الهاني التهامي الذي انقطع عن الحياة العامة تقريباً، وفضّل الانسحاب إلى كوخٍ ناءٍ قرب بحيرة جميلة معزولة بعد أن انقلبت حياته العاطفية رأساً على عقب، وشعر بالإحباط النفسي الذي ولّد في أعماقه أحاسيس متضاربة أثرّت على طريقة تفكيره في معنى المظاهر الجمالية الخارجية من جهة، والمحمولات الجمالية الجوّانية التي لها علاقة مباشرة بالروح. وقد أسفرت هذه الأحاسيس المتناقضة عن خوض الفنان التشكيلي في ثنائية القُبح والجمال، فما كان يراه جميلاً من قبل قد أصبح قبيحاً بفعل الخيانة التي هي في واقع الأمر أبعد من الخيانة الجسدية، ذلك لأنها تمتد إلى الخيانة الروحية وما تنطوي عليه من عناصر جمالية لا يمكن التعبير عنها بالكلمات لأنها أكبر من كل التوصيفات التي يمكن لها أن تلامس هذا الموضوع أو تعبِّر عنه بشكل جزئي من دون الإحاطة بجوهر هذا الموضوع الفلسفي الكبير.
يبدو أن الشخص الذي صمّم بوستر الفلم كان ذكياً بما فيه الكفاية لأنه التقط روح القصة السينمائية وفحواها العميق، فبينما كان الفنان “لحبيب” يحدق في وجه زوجته السابقة، كانت هي تركِّز نظراتها في مكان آخر لتخبرنا بشكل صريح بأنها منهمكة بقصة عاطفية أخرى بعيداً عن هذا الفنان التشكيلي الذي منحها حياته وفنه بدليل أنها كانت ثيمته المفضّلة، وفكرته المهيمنة التي استحوذت على لوحاته كلها. أما الآن فقد تحولت هذه المرأة الخائنة إلى رمز مهيمن للقبح، وربما كان سؤالها منطقياً حينما استفسرت منه عن السبب الذي دفعه لأن يرسمها قبيحة بهذا الشكل، وكأنها لم تعترف بفعل الخيانة الذي ارتكبته بحقه. فلا غرابة أن ينتهي الفلم نهاية درامية مفجعة حينما يقرر إغراقها في حوض الاستحمّام.

لا شك في أن الفلم هو خطاب بصري قبل كل شيء، ولابد من التوقف عند جماليات هذا الخطاب ودلالاته التعبيرية. وعلى الرغم من أن المادة المصوّرة قد أنجزت، على ما يبدو، بكاميرا رقمية ذات جودة عالية، إلاّ أن المونتير قد لعب دوراً أساسياً في منتجة المادة المصورة، وإظهارها بالشكل السلس والمناسب الذي قُدِّمت فيه القصة السينمائية للفلم القصير، إذ جاءت مشذّبة، مركّزة، وبليغة. كما أضفى المكان جمالية مضاعفة على الفلم بطبيعته الأخّاذة التي تجمع بين البحيرة والأشجار والأطيار، هذا إضافة إلى اللوحات التي استمدت “وحشيتها” من عنف الفرشاة و “القبح” الذي استبطنه الفنان التشكيلي من أعماق زوجته السابقة، آخذين بنظر الاعتبار أن التعالق الشكلي والمضموني بين الفن التشكيلي من جهة وبين السينما من جهة أخرى هو تعالق متشابك ورصين، وقد لا نضيف جديداً إذا قلنا بأن صورة “الكادر” في الفن التشكيلي هي الأساس في اللقطة السينمائية. لابد أن نشيد في هذا الصدد بمديرة التصوير الفنانة الرومانية أنكوتا لورداشيسكو التي قدمت لنا هذا الزخم من الصور المعبِّرة التي أسرَت المشاهدين ومنحتهم متعة بصرية مضافة. وفي الإطار ذاته لابد من التنويه بموسقى نجيب شليح التي استجابت لمضمون القصة السينمائية بما انطوت عليه من انفعالات وأحاسيس متضاربة عكست التوتر الداخلي للشخصيات الثلاثة التي ظلت تدور في مثلث الزوج والزوجة والعشيق، هذا إضافة إلى المعطى الثقافي الذي انضوى عليه المعرض بوصفه مكاناً فنياً يحقق المتعة البصرية للمتلقين.