فرصة نجاة بلغاريا الأخيرة
“آخر سيارة إسعاف في صوفيا”
قيس قاسم ـ السويد
لمدة عامين متواصليّن رصدت الكاميرات المثبتة على سيارة إسعاف، أدق التفاصيل الفاصلة بين الحياة والموت في مدينة صوفيا البلغارية، وسجلت على مستوى آخر، تفاعلات العلاقة بين المهنة الصعبة وبين نظام اجتماعي مريض، أحوج الى علاج سريع، قبل انهياره أو حتى موته، والعنوان الذي اختاره المخرج الشاب ايليان متيف لفيلمه الوثائقي يشي الى حد بعيد بالآواصر المتفاعلة بين “آخر سيارة إسعاف في صوفيا” وفرصة النجاة الأخيرة لمجتمع انتقل من مرحلة اقتصادية سياسية الى أخرى دون تمهيد تاريخي، فضاع وسط الطريق وضاعت معه الكثير من القيّم وصار الصبر على تحمل تشوهات الإنتقال صعباً قد لايتحمله حتى من يشتغل في مهنة إنسانية تشترط الصبر والتَحمُل مكونات أساسية للعاملين فيها.
يكاد ينحصر الفيلم مكانياً داخل السيارة، حيث يجلس طبيب الإسعاف كارسيمير يودانوف والى جواره مساعدته ميلا ميخائيلوفا والسائق بالمين سلافكوف، مركزين أنظارهم طيلة الوقت الى الأمام يتبادلون فيما بينهم حوارات قصيرة ومكثفة، فيما وجوههم تحمل تعابير عميقة من مشاعر ممزوجة بالحزن والقلق، وكأنهم وعلى الدوام قد ارتكبوا خطأً ما أو قصروا في واجباتهم مع كل إخلاصهم الشديد لمهنتهم، إلا في اللحظات التي كانوا ينقذون فيها حياة إنسان ما فعندها يتغيّر التعبير ذاك ويحل بدلاً عنه؛ الفرح، المعبر عنه بنظرات العيون البهيجة. تكسر الكاميرا في تركيزها على وجوههم، حيادية التعامل المهني، فالكائنات المنقذة تتفاعل مثل بقية البشر مع ما يحدث حولها، لكنهم يحاولون جاهدين إخفاء مشاعرهم أمام الآخرين خوفاً من نقل الخوف اليهم، وقد ينجحون في ذلك، إلا أمام الكاميرا فهي القادرة بإمتياز على خلع أقنعتهم المهنية القاسية بسهولة، ولهذا السبب يمكن وصف عمل متيف بالنفسي الإجتماعي، الباحث عن أرواح قلقة تشدها قوة الواقع اليه وتفصلها عنه رغبتهم الدفينة في التسامي فوق كل مصالح ومنافع مادية. انه عن ملائكة رحمة وسط خراب روحي ومادي. عن معذبين بآلام الآخرين وساعين نحو التخفيف عنها.

لم يصل الى هذا المستوى من التوصيف لسهولة توفير الكثير من النماذج “الجيدة” لفيلم يتعلق موضوعه بالمرضى والمسعفين، لقد أدرك صاحبه ذلك فتجنب الإفراط في زج عينات اجتماعية جاهزة ممكنة التحميل بمدلولات سياسية واجتماعية، وهذة إحدى ميزاته المهمة. لقد ركز على الشخصيات الثلاثة وعلى ما تنقله الكاميرا من مشاهد عامة، بخاصة وانهم في تنقل دائم، لقد نقلت اسعافهم صوفيا على الشاشة: شوارعها، أناسها، والتحولات التي تشهدها، دون ان نراها كلها بالضرورة، كما في احدى المرات حين وصفت المساعدة ميلا امرأة رأتها في الشارع، بأنها ذكية تعرف ما تريد أخذه من الحياة! وعندما سألها الطبيب كيف عرفت ذلك؟ قالت.. من ملابسها وأكسسواراتها!. بهذا الإسلوب الدرامي المقتصد أراد تصوير مدينته والتناقضات الداخلية فيها، فالمسعفون يضطرون الى قبول مناوبات ليلية كثيرة لأنهم بحاجة الى سد نفقات بيوتهم، وإدارة المستشفيات ترحب بطلباتهم ما دامها لا تملك إلا 13 سيارة إسعاف في عاصمة يقطنها قرابة مليوني شخص، وعليهم تلبية كل النداءات المستعجلة وغيرها، فبلد صار ناسه يبحثون عن خلاصهم الفردي لا يتوارى بعضهم عن إستغلال الدولة وممتلكاتها ولا يتورعون عن إشغال سيارة إسعاف لمصالح ليست لها علاقة مباشرة بالمرض بل بقضايا كان على الدولة معالجتها وليس هؤلاء اللاهثون للوصول الى مرضاهم قبل أن يسبقهم الموت اليهم. هذا التبادل القلق وغير المتوازن للمصالح يترك آثاره النفسية والجسدية السيئة على المسعفين، لهذا يترك الكثير منهم هذة المهنة لينتقل الى مكان أقل ضغطاً وتوتراً، فيما تنمو طبقات طفيلية، في أمكنة أخرى من البلاد، وتربح الملايين يومياً براحة ويسر.

يمكن حصر زوايا التصوير ومواقع الكاميرا طيلة زمن الفيلم بأربع؛ اثنتان ثابتتان: أمام السيارة وخلف المقعد الأمامي ومهمة الأخيرة تصوير الشوارع وما يقع أمام أبصار المسعفين، والباقيتان خارجية تدخل أمكنة وبيوت المرضى وداخلية تصور الجزء الخلفي من الإسعاف حيث السرير الذي يرقد فوقه المريض. جمعيها كانت صورها مهتزة لسوء شوارع العاصمة التي تُشعر المشاهد بأن قوة ارتجاج الإسعاف ستلحق آذى بالمريض أكثر مما يعانيه أصلاً، وأن مستوى الإهمال في الخدمات وعلى نطاق واسع من المدينة يعيق بإستمرار حركتهم للوصول الى مرضاهم، وكل ما يرونه من مظاهر الترف يثير حفيظتهم وشهيتهم للتعليق على نوع الكائنات التي تسكن في قصور فخمة مسيجة لا يرون ما في داخلها فيما تعاني مناطق أخرى من إهمال لدرجة انهم وجدوا مرة ميتاً وقد تفسخ جسده، منذ أيام دون أن يلتفت الى غيابه أحد!
مجموع ما سجلته الكاميرات صنع فيلماً مدهشاً، نهايته صادمة فالمشهد الأخير يظهر كرسي المساعدة الطبية فارغاً، لقد تركت العمل بعد حادث سير تعرضت له سيارتهم، وبعد أن شعرت بالخوف والرهبة من الموت قررت الإنتقال الى مستسفى ثانٍ تاركة الطبيب وزميلها السائق لوحيدهما في سيارة الإسعاف الآخيرة في صوفيا والتي لا نعرف ما إذا كانت ستبقى أم ستختفي كما أختفت سيارات إسعاف أخرى قبلها؟
• “آخر سيارة إسعاف في صوفيا” 75 دقيقة، فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل، فوق 30 دقيقة، في الدورة 47 لمهرجان كارلوفي فاري