غاندي جديد يهتف “إغضبوا إنه وقت الغضب”
غزة- تامر فتحي
ستيفان فريدريك هيسيل، كاتب وشاعر ودبلوماسي ولد في 20 اكتوبر 1917 لأب يهودي بولندي وأم بروتستانية ألمانية، غادر ألمانيا إلى فرنسا هو وعائلته وهناك حصل على الجنسية الفرنسية وفي أثناء الحرب العالمية الثانية التحق بالجيش الفرنسي، إلا أنه وبعد سقوط فرنسا في يد الألمان انضم لصفوف المقاومة الفرنسية تحت قيادة الجنرال شارل ديجول حيث تولى التنسيق بين شبكات المقاومة، لكن جهاز الجيستابو القى القبض عليه واودع بمعسكرات الاعتقال النازية وحكم عليه بالاعدام لولا أن تم استبدال هويته بهوية أحد المتوفين حديثا وظل طيلة فترة الحرب مطارداً، غير أنه بعد الحرب انغمس في العمل الدبلوماسي وساهم مع إلينور روزفلت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الأنسان، ومنذ ذلك الحين وهو يناضل من أجل نشر ثقافة حقوق الأنسان في دول العالم لذا اختارته مجلة فورين بوليسي عام 2011 ضمن أبرز المفكرين العالميين لأنه “أعاد روح المقاومة الفرنسية لمجتمع عالمي فقد قلبه”، في إشارة لمقال طويل نشره هيسيل في اكتوبر 2010 بعنوان “إغضبوا” مستلهماً تجربته مع المقاومة الفرنسية لحث الأجيال الجديد على رفض ما أسماه “ديكتاتورية الأسواق المالية” ولقد أحدث المقال ردة فعل قوية في فرنسا وخارجها لدرجة أنه صدر في كتيب بيعت منه في دول العالم أكثر من ثلاث ملايين نسخة، وترجم إلى أكثر من 12 لغة وعده كثيرون بمثابة مينفيستو ثوري للحركات الاحتجاجية التي إجتاحت أوروبا وبلدان عالمية منها حركة احتلوا ووال استريت التي انطلقت من نيويورك إلى درجة أن حركة “غاضبون” في مدريد استلهمت إسمها من عنوان هذا الكتيب.

مؤخراً اختاره المخرج الفرنسي المعروف توني جاتليف ليكون بطلاً لفيلمه الوثائقي الذي أنتجته قناة arte الفرنسية وحمل عنوان مقال هيسيل “إغضبوا” أو “وقت للغضب” – كما جاء في ترجمته الإنجليزية- ولقد عُرض الفيلم مؤخراً بمقر المركز الثقافي الفرنسي في غزة.
بالتأكيد سيُسر ستيفان هيسيل لعرض الفيلم في غزة، فهو قد ذكر في بيانه أنه “ساخط لما يحدث في فلسطين” زار القطاع في يناير 2009 وانتقد الهجوم الإسرائيلي على غزة ومخيمات اللاجئيين ووصف ممارسات جيش الاحتلال هناك بأنها “جرائم ضد الانسانية”، وفي 4 مارس 2009، دعا هو ومجموعة من الشخصيات الدولية، إلى إقامة محكمة للتحقيق في أعمال العنف الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين على غرار محكمة راسل التي أنشأت في الستينات لتقييم السياسة الخارجية الأمريكية والتحقيق في التدخل العسكري في فيتنام، وقال في تصريحات صحفية نشرت يوم 10 مارس 2009 في سويسرا: “لا يجب أن تفلت إسرائيل من العقاب”. ولقد جلبت عليه هذه الأراء لعنات اللوبي الصهيوني حتى وصفه أحدهم “بالأفعى” التي تبث السموم.
يبدأ الفيلم بوجه ستيفان هيسيل صامتاً كمن يتذكر شيئا تصاحبه مقطوعة موسيقية يجيد توني جاتليف صاحب الروائع السينمائية الموسيقية اختيارها ثم مشاهد أرشيفية قديمة لفرنسا في وقت الحرب العالمية الثانية، ثم يبدأ هيسيل في تلاوة بيانه الثوري أمام الكاميرا “ثلاثة وتسعون عاماً. أوشكت محطتي الأخيرة. والنهاية ليست بعيدة (…) الدافع وراء المقاومة الفرنسية كان الغضب. نحن أفراد المقاومة قوات الكفاح من أجل فرنسا الحرة ننادي على الاجيال الجديدة أن تحيي تقاليد المقاومة وأفكارها. ونقول لكم استكملوا الطريق وواصلوا واغضبوا.”
ثم تتعاقب مشاهد الإحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في فرنسا، مدريد، بروكسل، لندن، طوكيو، كوبنهاجن، نيويورك، برلين، محتجون يصنعون لافتات وشرطة تفض الاعتصامات ومطالبات باحتلال الأسواق المالية والبنوك، مشاهد مرفوعة على موقع Youtube منها اعتصام مجموعة من الناشطين داخل بنك Dexia ببروكسل ثم القبض عليهم من قبل الشرطة.

يعترف هيسيل في الفيلم أن العالم صار الآن أكثر تعقيداً عما كان عليه أثناء الحرب العالمية الثانية، مما يزيد من صعوبة تحديد الأولويات والعدو الحقيقي الذي يجب على الأجيال الشابة مواجهته. ويرى أن أهم الأسباب الكافية للشباب لإعلان سخطهم: أن موارد العالم في تزايد في حين أن معدلات البطالة في ارتفاع مستمر، تتضخم الأرصدة في البنوك وترتفع قيم الأسهم في الأسواق المالية في حين يبلغ دخل العمالة المهاجرة في القطاع غير الرسمي دولارين في اليوم، وتتسع الفجوة بين أغنياء يزدادون غنى وفقراء يزدادون فقراً. ثم يقترح هيسيل آليات جديدة للنضال منها صنع شبكات اتصال جديدة بين المحتجين وبعضهم وتبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كمرجعية أساسية ثم استهداف الهيمنة الدولية للأسواق المالية وتقويضها.
فرض العام 2011 نفسه بثواراته واحتجاجاته على مبدعي العالم، والسينما هنا ليست استثناء، فبعد مايكل مور ويسري نصرالله وآخرين يأتي توني جاتليف ليوثق هذه الحركات الاحتجاجية، فالفيلم هو الثاني لجاتليف في نفس العام (2012) حول الحركات الإحتجاجية التي اجتاحت العالم في الآونة الأخيرة وذلك بعد فيلمه الأول “غاضبون” الذي وصفته الجارديان بأنه “نقل أفكار حركات (احتلوا) إلى الشاشة الكبيرة”
يحاول المخرج توني جاتليف في فيلمه أن يجعل من هيسيل غاندي آخر أو مانديلا جديد، أيقونة راديكالية لها نهجها الإصلاحي، فنحن لسنا أمام حالة ثورية فوضوية، هيسيل نفسه في بيانه يمجد غاندي ومانديلا، كذلك نشاهد مجموعات من جنسيات مختلفة تردد بلغاتها مقاطع مع ستيفان هيسيل ” إننا ندرك أن العنف يدير ظهره للأمل وعلينا أن نختار الأمل بدلا من العنف، أمل اللاعنف”، ثم يصيح بعض النشطاء الأسبان وهم يطوفون بشوارع مدريد “لسنا ضد النظام. النظام ضدنا”.
تختلف الحركات الإحتجاجية في أوروبا وغيرها في عواصم عالمية عن الثورات العربية، وعلى الرغم من أن توني جاتليف يستعرض في فيلمه لقطات قصيرة من الثورة التونسية إلا أن الفيلم لايستفيض في الثورات العربية، وتتضح الفوارق أثناء مشاهدة الفيلم: فالثورات العربية اندلعت في المقام الأول ضد ديكتاتورية الأنظمة الشمولية هناك وليس ديكتاتورية الأسواق المالية كما استهدفت حركات “احتلوا” في دول العالم.

بعض الثورات العربية بدأت سلمية أول الأمر وانقلبت إلي حروب أهلية في حين لم تتطور الحركات الإحتجاجية الأخرى عن كونها احتجاجية إصلاحية تطالب باجراء تعديلات في برامج الحكومة في ظل أنظمتها، تتبنى حركات “احتلوا” رؤية جديدة لنظام إقتصادي تضامني وتعاوني بديلاً عن الإقتصاد الرأسمالي وهذه الرؤية لم تكن وليدة اللحظة فلقد سبقها محاولات سابقة منها حركة “زايتجاست” وحركات أخرى في حين تحتاج الجبهات الثورية في الدول العربية بعض الوقت لإدارة الدفة لتبني أنظمة أقتصادية جديدة تستجيب لتطلعات الشعوب العربية الطامحة للعدالة الاجتماعية.
وربما تكون مدينة غزة التي تعاني من الاحتلال الاسرائيلي والحصار وخصومات فلسطينية – فلسطينية أخرى، خير مكان يعرض فيه المخرج جاتليف فيلمه ويتلو فيه هيسيل بيانه الثوري خاصة وأن جزء من بيانه يدور حول فلسطين وغضبه الجام لما يحدث هناك، إلا أن الحضور الذين جاؤوا لمشاهدة الفيلم في قاعة المركز الثقافي الفرنسي كان عددهم قليل، يعزو البعض السبب إلى كون الفيلم باللغة الفرنسية وترجمته بالانجليزية ناهيك عن شاعريته السينمائية المفرطة، إلا أن المرجح أن ذلك يعود إلى فقدان الغضب الحقيقي الذي يتحدث عنه المفكر والمخرج كبداية للتغيير.