”فدائيات” عندما يروى التاريخ بكاميرا الشباب


ضـاويـة خـليفـة – الجـزائـر

في مبادرة تعد الأولى من نوعها بثت قناة الشروق الفضائية – التي تعد من القنوات الجديدة و الخاصة الفتية النشأة – وثائقي بعنوان ”فدائيات” للمخرجة و الإعلامية ”لمياء قاسمي بوسكين” مديرة شركة الرؤيا للإعلام، وهي خطوة استحسنها الكثير سواء مخرجين أو مشاهدين، كما تعتزم ذات المخرجة القيام بعروض متتالية لفيلمها الوثائقي عبر عدة ولايات، و خلال هذا الحوار الذي جمعها بالجزيرة الوثائقية تتحدث المخرجة عن مضمون وثائقي ”فدائيات” و عن تجربتها في الإخراج و التي ارتكزت كثيرا على تاريخ الجزائر في مختلف المراحل.

”فدائيات” تمكن من إماطة اللثام عن الانجازات و التضحيات التي قدمتها المرأة الجزائرية إبان الثورة هل لنا أن نتحدث عن حيثيات الفيلم و ظروف العمل ؟

وثائقي ”فدائيات” يرصد في 52 دقيقة الدور البارز الذي قامت به المرأة في ثورة الفاتح نوفمبر، حيث أردت أن أبرز أهمية انتقالها من مجرد ناقلة للأخبار لإخوانها المجاهدين و موافاتهم بأخر المستجدات إلى تحدي أكبر و هو إلتحاقها بجبهات القتال ضد المستعر الفرنسي و حملها للسلاح مثلها مثل الرجل، فمن خلال هذا العمل أردت أن أبرز عظمة مجاهدات هذا الوطن كجميلة بوحيرد و شهيداته أمثال البطلة حسيبة بن بوعلي، وريدة مداد، مليكة قايد و غيرهن من حوريات الجزائر، فحاولت أن أكرمهن على طريقتي رغم أن هذا ليس سوى القليل نظير تضحياتهن، إذن “فدائيات” هو نتاج فكرة راودتني منذ الصغر و تكونت لديها ملامحها عندما كنت أصغي و بتمعن لبعض نساء العائلة و هن يسردن الأعمال البطولية التي كن يقمن بها لما يقتحم الجنود الفرنسيين بيوتهن، و كيفية الإعداد الطعام للمجاهدين أو تمرير الوثائق السرية وأحيانا الأسلحة، طبعا كنا نساء عاديات يعني غير مجندات في جيش التحرير الوطني وليس لهن وعيا سياسيا رغم مستواهن التعليمي المتواضع  جدا نتيجة ظروف الاستعمار الذي كان من أهدافه طمس الهوية الوطنية و التعليم جزء من ذلك، فحاولت انتقاء الصور المتعددة التي ظهرت بها المرأة المناضلة أثناء الثورة آن ذاك و قمت بتوظيفها بشكل يخدم العمل، بالاستعانة بالذاكرة الحية لبعض المجاهدات و المجاهدين الذين لا زالوا على قيد الحياة، فهناك بعض الحكايات والوقائع تبدو بسيطة جدا لكنها في الجوهر هي تضحيات كبرى لا تختصر في دقائق و لا ساعات، وهذا ما حاولت إبرازه أيضا، و هذا جعلني أفتخر أنني سليلتهن ولكن عندي في قلبي تقدير خاص للشهيدة “حسيبة بن بوعلي” في حياتها ما يدعو للتقدير حقا، هي فتاة اختارت توجها معينا في الحياة، مختلف تماما عن من هن في سنها، فرغم ما كانت تعيشه من رفاهية و تحصيل علمي جيد إلا أنها اختارت الكفاح المسلح، فقد كانت تشبه الأوربيات تماما حتى في شكلها لكن قلبها كان جزائريا، وروت لنا المجاهدة “زهرة ظريف بيطاط” أن أحد قادة فرقة المظليين الفرنسيين الذي حاصروا المنزل الذي كانت مختبئة فيه في القصبة قال لها : “حسيبة أنت منا ولست منهم وفرنسا دائما تعفو عن أبنائها”، هذه العبارات كانت لاستمالتها فهذا دليل على أنها كانت تتمتع بحياة مريحة مثل الفرنسيين على عكس غالبية الشعب الجزائري لكن حبها لوطنها جعلها ترفض كل العروض المغرية و تتخذ قرارا يضمن لها الخلود والتقدير في قلوبنا باختيارها الشهادة، و من هذا المنطلق ازداد إيماني بأنه علينا كجيل الاستقلال أن نحفظ ذكرى كل من ضحى لأجلنا، تطبيقا و عملا بمقولة الشهيد ديدوش مراد ” إذا استشهدنا فدافعوا على ذاكرتنا ” هذه المقولة هي بمثابة وصية وجب علينا تنفيذها.

                 مخرجة الفيلم لمياء قاسمي مع المجاهدة لويزة احريز

العمل أثناء التصوير ومن خلال اللقاءات كان فرصة لنا للسفر عبر الزمن فالتصوير في القصبة يكفل لك ذلك دون عناء لأنها متحف مفتوح وحي وبكل بيت قصة وكل من جدرانه يروي حكاية، فقد صورنا في بيت كان مخبأ للفدائيين وشعرنا حقيقة بحضورهم في المنزل الذي كانوا يأكلون وينامون ويخططون وينطلقون منه أيضا للقيام بالعمليات الفدائية، كما زرنا أحد المخابئ السرية التي كانت ملجأ للفدائيين في حال حدوث اقتحام من طرف فرقة للمظليين، دون أن أنسى وقوفنا على الطريقة التي كان يتم بها قبول الأعضاء الجدد في منطقة الجزائر المستقلة التي كانت تقوم بالأعمال الفدائية في قلب العاصمة وفي معاقل المعمرين، و بالتالي أتمنى بحق أن نكون وفقنا ولو بقليل في تقديم عمل يوثق لكفاح ونضال المرأة الجزائرية.

”فدائيات” هل هو أول وثائقي تشرفين على إخراجه و ما هو تقييمك للعمل بشكل عام ؟

لا هذا رابع عمل لي، أول عمل قمت بانجازه كان حول مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي شهدتها العاصمة الجزائر وتحديدا بلدية محمد بلوزداد، ”بلكور” سابقا، و جاء ذلك العمل لتخليد حادثة تاريخية هامة شكلت منعطفا حاسما في تاريخ الثورة الجزائرية وعجلت باستقلال الجزائر بعد أقل من سنتين، بعدما شكلت صورة من صور تلاحم الجزائريين، الذين مارست ضدهم القوات الفرنسة كل أشكال العنف و القمع، أما ثاني عمل لي كان بعنوان “معركة الجزائر حكاية فيلم … حكاية شعب”، عن الفيلم الجزائري الشهير ّمعركة الجزائر” الذي أنتج سنة 1963 وكان توثيقا لأطوار معركة الجزائر، و قد تضمن هذا الشريط صور لمعركة الجزائر تعرض لأول مرة على الجمهور من أرشيف المجاهد ياسف سعدي رئيس منظمة الفدائيين في العاصمة منذ 1956 لغاية اعتقاله في سبتمبر 1957، كما يقدم شهادات تبث أيضا لأول مرة من طرف “ياسف سعدي” عن فكرة الفيلم و إنتاجه وأماكن التصوير وحتى الصعوبات التي واجهت فريق العمل وعلى رأسه المخرج الإيطالي ”جيلو ّبونتيكورفو”، الذي أثرى الرصيد السينمائي بفيلم صنف كأحد أحسن الأفلام السياسية في  القرن العشرين، أما ثالث أفلامي فكان حول ”القصبة” المعلم السياحي و الأثري للجزائر المصنف عالميا، الرمز التاريخي الذي شهد أحداث هامة خلال الحقبة الكولونيالية، و فدائيات يعد العمل الرابع لي.

من الصعوبات التي تواجه أي مخرج يريد تصوير عمل تاريخي هو نقص الأرشيف، هل تكرر نفس الشيء مع ”فدائيات” أم أنكم سجلتكم مشاكل أخرى ربما أثرت سلبا على العمل ؟

تناول التاريخ سينمائيا في ظل النقص الكبير للمراجع و الأرشيف لم يكن سهلا أبدا بالنسبة إلي أو بالنسبة لكل زملائي المخرجين، إلا أننا لم نرد إعطاء الأمر أهمية تقلل من عزيمتنا طبعا، و بالتالي هناك صعوبات كبيرة تواجهنا في عملنا وليس في هذا العمل فحسب، أبرزها طبعا الجانب المادي أي مشكل التمويل، لأنه لحد الآن لم تدعمنا أيه هيئة في الجزائر رسمية أو غير رسمية وكل ما قمنا به هو من تمويلنا الخاص و الشخصي، يبقى هناك مشكل آخر يؤثر بشكل كبير على العمل، و هو رفض الكثير من المجاهدين الحديث إلينا والإدلاء بشهاداتهم، فأحيانا نصطدم بالرفض مباشرة، وأحيانا أخرى برفض مؤجل كالانتظار لفترة طويلة دون الحصول على أي رد، فقد حدث مرة أن بقينا ننتظر أكثر من سنة للحصول على قبول بالتصوير من مجاهدتين و في النهاية لم نسجل معهن و هذا بطبيعة الحال يؤثر سلبا على العمل و يؤخره، و المشكل الآخر وهو الأعمق كما تفضلتي و قلتي هو ندرة الأرشيف الذي يؤرخ لحادثة معينة كالوثائق أو الصور، وهذا يعود لطبيعة ثورتنا فالتعامل بين المجاهدين كان يتسم بالسرية في تداول الأخبار حتى وإن وجدت هذه الوثائق يسرع المجاهدون لإتلافها كي لا تقع في أيدي السلطات الاستعمارية آن ذاك، فحتى الأسماء لم تكن حقيقية وإنما مستعارة.

                    المجاهد ياسف سعدي يحضر العرض

ألم تتخوفي من تناول التاريخ في ظل الاتهام المتبادل بين مجاهد و ذاك و تزوير بعض الحقائق و في خضم المطالبة الدائمة لكتابة التاريخ و تأريخ الأحداث بعيدا عن كل تغليط ؟

الخوف الحقيقي هو أن لا يرتقي العمل الذي نقدم إلى مقام أبطال الثورة التي اعترف العالم و زعماءه بعظمتها، نحن جيل ينعم بالحرية نتيجة تضحية من سبقونا وجيل رغم اختلاف الأفكار والتوجهات اجتمع على حب الجزائر و لن يتفرق إلا على ذلك الحب، هو ذا انتماءنا فمبادئنا استقيناها من ثورة نوفمبر 1954، ففي عملي هذا مزجت بين دراستي للإعلام، وحبي وافتخاري بتاريخ بلدي الذي أريد أن يطلع عليه العالم أجمع، فأنا شخصيا كنت أقضي نهاية الأسبوع متجولة بين متاحف الجزائر، و بشكل خاص المتحف الوطني للمجاهد والمتحف المركزي للجيش، و يمكنني القول أن هذا هو سر توجهي اليوم إلى التاريخ، و ما زاد من عزيمتي للغوص في تاريخنا المليء بالأحداث و البطولات هو احتكاكي المتكرر بعديد الشخصيات الثورية، التي تجديني في كل مرة أصغي و بتمعن لما تروي ألسنتهم من حقائق و أتناقش معهم، و أسعد حقا بذلك بل وأفتخر وأحيانا لا أصدق نفسي مثلا أني قد قابلت في يوم من الأيام “بن يوسف بن خدة” أو ” يوسف الخطيب”، الأديب الراحل و المجاهد “الطاهر وطار”، “جوهرة أكرور”، “زهرة ظريف بيطاط”، ”ياسف سعدي” و آخرون، و بهذه الطريقة نحن نساعد على كتابة التاريخ سينمائيا لتصل الرسالة إلى الأجيال التي تأتي بعدنا، رغم كل المضاربات و الاتهامات و من جهتنا نتمنى أن يؤرخ كل في مجاله لثورتنا المجيدة لمحاربة أي تشكيك في تاريخنا من قبل المزورين للحقائق.

سبق و أن حضر عرض ”فدائيات” عدد من الشخصيات التاريخية كيف كانت ردة فعل الأسرة الثورية عقب عرض الفيلم ؟
 
صحيح و في مقدمتهم المجاهد ”ياسف سعدي” الذي غمرنا بكرم كبير و أمدنا يد العون، كما ساعدنا كثيرا في تجسيد هذا العمل و انجاز أعمال أخرى، فهو لا يتأخر أبدا في حال طلبنا منه شهادات أو معلومات، بل و أكثر من ذلك في كل مرة يضع تحت تصرفنا أرشيفه الخاص، وسمح لنا باستغلال لقطات من فيلم ”معركة الجزائر” الذي شارك في بطولته، فهو حريص دائما على أن تزويدنا بما نريد من معلومات و توجيهات لكتابة التاريخ على طريقتنا و بلغة سينمائية، و لهذا و عرفنا و تقديرا منا قمنا بتكريمه مرتين، و بالمناسبة نوجه شكرنا له لثقته في الشباب و لإيمانه الكبير بنا، وتقديره للعمل الذي نقوم به في سبيل البحث والتنقيب في تاريخ ثورتنا المجيدة


إعلان