القربي في أولى تجاربه السينمائية ”أزهار تيويليت”

ضـاويـة خـلـيـفـة – الـجـزائـر

 المخرج التونسي ”وسيم القربي”، القادم من عالم النقد السينمائي، الشاب الذي أراد أن يكون جزءا من الصورة السينمائية، أراد الانتقال من النقد كممارسة و رؤية فنية للعمل إلى عالم الإخراج كمتعة و كتجربة متميزة لأي مبدع، و لهذا اختار أن تكون أولى عناقيده الإخراجية بفيلم صامت، كان لنا الحظ و الانفراد في الحصول على نسخة منه، لنكون السباقين في متابعة أحداثه التي استنطقت جمال الصحراء، ببساطة الأسلوب و جاذبية الطرح، و قرب الموضوع من الواقع التي تتداوله الأيام بصراعاتها و بإخفاقاتها و لنا أن نتعرف على تفاصيل العمل في هذا الحوار الذي جمع الناقد و المخرج التونسي ”وسيم القربي” بالجزيرة الوثائقية.

”وسيم القربي” العاشق للفن السابع يقترب اليوم من ملامسة حلمه و يدخل عالم الإخراج الذي جدبه منذ الصبا ب”أزهار تيويليت”، كيف كان ذلك؟

بالفعل الإخراج كان الحلم الذي عملت لأجله و حلمت به دائما، فمنذ الصغر كنت مولعا بالسينما بما أنّ المدينة التي ولدت فيها كانت تشهد سنويا مهرجان الفنون التشكيلية والمهرجان الدولي لسينما الهواة بقليبية، كنت أحضر رفقة والدي لهذه الفعاليات، و دون أن أعي فعليا تجدني أرسم بتلك الألوان ما تجود به قريحة الصغر، أما في المهرجان السنوي لسينما الهواة فقد كنت أشاهد كل الأفلام في مسرح الهواء الطلق بقليبية، لا أذكر في الحقيقة الأفلام ولا السينمائيين الحاضرين حينها… غير أنّ ولعي بالفنّ جعلي أختار الدراسة في المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل أين التحقت بشعبة السمعي البصري، أنجزت فيلما قصيرا بعنوان “روبافيكيا” وشاركت به في مهرجان سينما الهواة بقليبية سنة 2004، هذه التجربة علمتني صناعة الصورة وصعوبة هذا الميدان و إيصال رسائل سامية بأفكار قليلة و أسلوب فني جميل، لازلت أتذكر كيف كان يناديني زملائي في الجامعة “النوري” نسبة إلى المخرج التونسي النوري بوزيد، لأني كنت معلق كثيرا بالسينما، المهمّ أني شهدت أولى خطوات التكوين الأكاديمي السينمائي في الجامعة في تونس وتدرّبنا بما أتيح لنا من إمكانيات، حيث كان التكوين في ما مضى يعتمد أساسا على الممارسة الميدانية والتخرّج كتقني من المدارس الخاصة أو دراسة السينما في أوروبا (فرنسا، إيطاليا، وبلدان أوروبا الشرقية).
رحلاتي إلى المغرب جعلتني أتعرّف إلى شخصين أعتز بهما كثيرا وهما من جعلاني بطريقة أو بأخرى أصبح عاشقا للسينما بامتياز، و هما الناقد السينمائي الملتزم ”حميد اتباتو” الذي علمني أبجديات النقد السينمائي والبحث العلمي، وكذا السيناريست ”نور الدين وحيد” الذي أصرّ بتواضعه أن يدعمني لأنجز أولى أفلامي و الموسوم ب “أزهار تيويليت” الذي تأتى بعد جلسات نقاش، وهكذا بنينا السيناريو في المغرب، وقمت بإعادة صياغته حسب مناخ التصوير في موريتانيا.

                                                     وسيم القربي ويسارا اثناء العمل على فيلمه

السيناريو كان جاهزا منذ سنة 2009 وقمت ببحث شاق عن منتج تونسي، لكن دون جدوى، كنت عازما على التصوير لكنني اصطدمت بواقع مرير حيث لم أجد من يساعدني على الإنتاج سوى المخرج التونسي ”رضا الباهي” الذي شجعني، ويومها أدركت أنه في تونس كما في بلدان أخرى نعاني من غياب سياسة إنتاج حقيقية، والإنتاج السينمائي في بلادنا يتوقف فقط على دعم وزارة الثقافة التي تتطلب بدورها انتظارا غير مضمونا، كما أنّ هذا القسم تحكمه العلاقات الشخصية، فحصص الدعم تذهب على قياس الوجوه لا على أساس الأعمال الجدية والجيدة، فمثل هذه التعاملات اللامسؤولة تأثر طبعا على الإنتاج السينمائي وعلى السينمائي بالدرجة الأولى الذي يقع ضحية مثل هذه التعاملات، و لهذا قررت أن أعتمد على إمكانياتي الخاصة لرغبتي الكبيرة في إنجاز العمل، وفعلا رب صدفة خير من ألف ميعاد، بمهرجان وهران للفيلم العربي كانت لي فرصة لقاء الأشقاء العرب منهم الموريتانيين ”سالم داندو’ و ”عبد الرحمان أحمد سالم” وهناك عقدنا جلسات عمل على هامش المهرجان رفقة مدير التصوير السعودي ”عوض الهمزاني” حددنا حينها فترة التصوير، فكانت أرض الجزائر موعدا للقاء من جديد و انطلاق المشروع، ولا يفوتني بالمناسبة أن أشكر الزميلة و الإعلامية الجزائرية نبيلة رزايق التي شجعتني و كذا المصور الجزائري حمزة بوحارة.

يتجه الكثير من السينمائيين اليوم إلى التعاون مع الأجانب بحثا عن دعم و توزيع أفضل لعلمهم رغم فرض هؤلاء شروط تنقص من مصداقية العمل، لما اخترت أن يكون عملك عربيا خالصا ؟

حرقة العشق السينمائي هي التي جعلتني أسعى لإنتاج عمل عربي مشترك يجسد وحدتنا كعرب، انطلاقا من قناعة راسخة و إيمان كبير بأننا اليوم لا بد أن نجسد فكرة التوحد كي نلحق بسينما الغرب، التي تجاوزتنا بأشواط كبيرة ولم نستطع خلق توجه سينمائي نمتاز به على غرار السينما الغربية أو سينما أوروبا الشرقية أو السينما الإيرانية، فللأسف ليست لدينا هوية سينمائية بل نحن صورة ضائعة مهجنة نظرا لارتباطاتنا الإنتاجية مع الغرب وأخص بالذكر هنا فرنسا، فالمنتج الأجنبي يفرض علينا غاياته الإيديولوجية الخفية، و الكثير يقع فريستها طبعا، ومن هنا انطلقت بفكر أننا لم نستطع التوحد سياسيا لما لا نجرب تجسيد المشروع فنيا لعله ينجح، لأن نسبة النجاح فيه تكون أكبر لاسيما أن الإنتاج العربي المشترك اقتصر في أغلب الأحيان على دولتين على الأكثر، فأتمنى أن أرى عملا عربيا ضخما وأتمنى أن تكون هناك سياسات إنتاجية فعلية بعيدا عن القرارات والقوانين والإنجازات الزائفة للسينما المشتركة المطمورة في أرشيف وزارات الثقافة العربية، أنا فخور بتجربتي وأسعدني التعامل مع دار السينمائيين الموريتانيين بالرغم من قلة الإمكانيات، فيكفي أني وجدت ما كنت أبحث عنه جمالية الصورة، رغم الصعوبات المالية وضيق الوقت غير أن ذلك لم ينقص من عزيمتنا، ولم ينل من رغبتنا في تجسيد المشروع و انجاز فيلم يمهد لتعاملات فنية أخرى في المستقبل … هي تجربة تعلمت منها الكثير سواء نجح الفيلم أم لم ينجح، فالأهم بالنسبة لنا هو أننا رفعنا التحدّي أمام كل هذه الظروف وبالرغم من أني ناقم على السياسة السينمائية في وطني وعلى الفقر الفني فإني تعلمت أنّ صناعة الصورة صعبة جدا وبالرغم من أنّ المتعارف عليه أنّ المال الأجنبي والعلاقات القائمة على رحي الدقيق والوراثة السينمائية هي التي تصنع المخرج، إلا أني أبيت إلا أن أقترض أموالا طائلة للمساهمة في فيلمي المهمّ بالنسبة لي أن أرى فيلمي بإيجابياته وسلبياته على الشاشة الكبيرة، و أن يصل إلى أبعد نقطة ممكنة و يشاهده أكبر عدد من الناس و أرى انطباعاتهم بعد العرض لأتعلم أكثر، و لأتأكد أنني الأمس قضاياهم و همومهم، و طموحي في أن أكون سينمائيا ناجح له وجود في جغرافية القارة السينمائية.

”أزهار تيويليت” هل هي أزهار حقيقة أم أنها من نسج خيالك ؟

نعم أزهار تيويليت هي أزهار خيالية لا وجود لها في الواقع، نسبتها إلى منطقة تيويليت الواقعة بموريتانيا، فعندما زرت تلك القرية رأيت أزهارا وفي الحقيقة هي ليست كذلك، بل شبهتها في مخيلتي بأشواك الحياة التي تموت لتولد من جديد، و يمكنني أن أسقطها على العراقيل اللامتناهية التي يجد المرء في حياته، و التي يجب علينا أن نتعلم منها كيف نجعل من الأشواك أزهارا، فرغم قسوة الحياة ، فان الإنسان خلق ووجد ليعيش، للإشارة كلمة ” تيويليت ” في الأصل هي كلمة أمازيغية.

طيب ما هو الموضوع الذي قدمه فيلمك القصير “أزهار تيويليت”، و ماذا عن مراحل و أماكن التصوير و التركيبة النصية و الفنية للعمل ؟
 
“أزهار تيويليت” فيلم قصير يروي في 13 دقيقة حطام الحياة، من خلال قصة زوج يعيش عقدا نفسية داخل مجتمع عربي، يقرر الهروب بزوجته إلى المجهول، بعد رحلة الضياع والتوهان يجدان كوخا لا يحمل أي أثر للحياة وبئرا في مكان قاحل، يقرران الاستقرار هناك من جديد، لتوفر المكان على الراحة و الطمأنينة للزوج، بعيدا عن ضغط المدينة، و هنا يتفطّن الزوج لجمال قرينته التي تناساه طيلة الرحلة، و سرعان ما يعود الوئام من جديد بينهما وتخرج من ذلك الكوخ بنت وليدة تلك الحياة، وتلك البنت بدورها ستشهد مصير أمها…  وهنا أحاول أن ألمح إلى قدر المرأة في المجتمع العربي، حاولت من خلال هذا الفيلم الصامت الذي لا توجد فيه سوى أصوات الطبيعة، تسليط الضوء على وضع المرأة العربية وسط هيمنة ذكورية، في حين أن قطرة ماء واحدة تكفي لبناء عش زوجي و حياة سعيدة بعيدا عن المال ومتاهات الحياة، لأن السعادة الحقيقية هي الوئام، رغم تواصل الهيمنة الذكورية داخل حطام الحياة، ربما هي نظرة تشاؤمية لكن…، في الحقيقة هو موضوع يشمل الثقافة العربية ككل وحاولت إدراج علامات و سيميائيات تشير إلى خصوصيات العرب، اخترت الصمت لكي يكون الفيلم حاملا  للغة عالمية والصمت في الآن ذاته حداد على الحياة.
أما على مستوى الأسلوب اخترت أن أنتهج حكاية بسيطة، كانت قد أثرت في العديد من الأفلام الغربية والإيرانية خاصة على مستوى المرجعيات، بعيدا عن المشاهد المألوفة للسينما التونسية ومواضيعها التي تتكرر، فأنا أبحث عن سينما فكرية وفلسفة سينمائية متفرّدة، قد أوفق و قد لا أوفق، لأن هذه انطلاقة في رحلة بحثية عن ذاتي السينمائية، فالمهم أن أكون جربت، بينما التصوير تمّ في قرية “تيويليت” على بعد 70 كلم من العاصمة نواقشط، لحسن الحظ وجدت الدعم من الأهالي هناك بالإضافة إلى الطالب ”ولد سيدي” و ”عيشتو ومنى”، الفيلم الآن جاهز وسيفتتح مهرجان الفيلم القصير بنواقشط للأفلام القصيرة في الفترة الممتدة من 23 أكتوبر إلى 29 من نفس الشهر، كما أني سأشارك به في العديد من المهرجانات العربية والأوروبية للتعريف بالبيئة العربية و المغاربية على وجه الخصوص و إظهار للغير أن الإنتاج العربي المشترك ليس مجرد حبر على ورق و إنما واقع جسد ببعض الإمكانيات وبكثير من الإرادة و التحدي، و سأشارك به قبل ذلك في الأيام السينمائية المغاربية الأولى المزمع عقدها في الفترة الممتدة من 24 سبتمبر إلى 01 أكتوبر بمدينة وهران الجزائرية، و كذا في مهرجان الفيلم الأمازيغي بأغادير بالمغرب من 26 سبتمبر إلى 30 من نفس الشهر.

                                ملصق فيلمه “أزهار تيوليت”

فكرة الفيلم تشكلت نواتها الأولى بوهران و ها هو الفيلم يعود في عرضه الأول للباهية، ومن النقاط الأكثر ايجابية التي حققها هو ان جمع سينمائيين من قلب المغرب العربي إلى أقصى الخليج …

صحيح، فالسينما لغة عالمية و عالم راقي يجمع دائما بين السينمائيين أينما كانوا وعلى اختلاف توجهاتهم و انتماءاتهم، تعلمين ما يثلج صدري هو الدروس التي تعلمتها كسينمائي شاب أكثر من الفيلم في حدّ ذاته، ففي فترة السبعينيات كان من السهل أن تتاح لك الفرصة، اليوم وفي ظلّ توفر التقنيات الرقمية لا بدّ أن تُتيح لنفسك الفرصة، وبالتالي اليوم المسافات لم تعد بعيدة و لا يوجد مبرر لعدم خلق تعاون عربي مشترك، سعيد جدّا بنصائح السيناريست المغربي ”نور الدين وحيد”، ولنقدي ما قبل النقد من طرف الدكتور ”حميد اتباتو”، وسعادتي تزداد بالقيمة التي أضافها صديقي السينمائي الموريتاني ”عبد الرحمان أحمد سالم” الذي ساعدني في الإخراج، فهو يعد من السينمائيين الكبار بموريتانيا فقد سبق وعمل مساعد مخرج للسينمائي الكبير ”عبد الرحمان سيساكو”، فأشكر المتواضع و العاشق للفن السابع ”عبد الرحمان سالم”، كما أنّ مشاركة الممثل الموريتاني ”سالم داندو” في هذا العمل كانت فخرا لي، و بالتالي أيام التصوير السبعة كانت دروسا في حدّ ذاتها لي و لكل الفريق الذي عمل معي و استفاد من مختلف الخبرات، كما أنّ قدوم مدير التصوير السعودي ”عوض الهمزاني” خصيصا و”محمد بن رمضان” من تونس كان بمثابة السند الكبير لي، كلّ هذا يؤكد أنّ السينما هي عمل جماعي لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الانتماءات السياسية أو الثقافية، ولا يمكن اعتبارها علاقات مهنية بقدر ما هي عشق لسينما محترفة، لكن دون حسابات جشعة لمن يعتقدون أنّ السينما هي وسيلة للربح السريع، لأن السينما أولا و قبل كل شيء هي فن راقي يرتقي بدوقنا إلى عالم الإبداع بفضل حديث الصورة، أما مرحلة ما بعد الإنتاج فقد تكلف بها زميلي في تونس ”رؤوف بالصغير” الذي يمتلك شركة إنتاج وهو منتج شاب وطموح.

كيف كانت الإنتقالة من الممارسة النقدية إلى مدرسة الإخراج السينمائي و إلى أي مدى استفدت من تكوينك كناقد ؟

في الحقيقة أرى أنه يجب على المخرج أن يتعلم النقد أولا، فأنا درست السمعي البصري في مدرسة الفنون الجميلة وكان لا بدّ أن أختار المجال الذي يمكن أن أعطي فيه أكثر، حينها اخترت السينما، اخترت النقد السينمائي كباب إضافي لمهنتي الأصلية وهي تدريس السمعي البصري والسينما بالجامعة التونسية، فكنت مواكبا من خلال تأطيري للطلبة للعمل الميداني، هكذا كنت أجمع بين النقد والممارسة السينمائي، تحضيري لأطروحة الدكتوراه في السمعي البصري والسينما وحضوري في العديد من المهرجانات الوطنية والدولية وكتاباتي في المجلات العربية والصحف التونسية جعلتني ناقدا، تمعنت جيّدا في الصورة السينمائية وحاولت توظيف تلك المكتسبات كمخرج واليوم أنتظر بدوري النقد فبدون نقد لا توجد سينما وبدون سينما لا يوجد نقد، وفي الحقيقة قلة الإمكانيات وسبل الإنتاج لم تمكنني من أن أتبع الإخراج، لهذا اتجهت إلى الممارسة النقدية لأن النقد مدرسة حقيقة، فهذا الفيلم تجربة لنوعية معينة من السينما، ويبقى أملي أن تتغيّر السياسة السينمائية القائمة على المحاباة والتي تبقى الإداريات صيغا للتبرير والإقصاء، السينما هي مجال صعب جدا لكن يهمني هذا الطريق لأن الصورة السينمائية تمثل جزءا مني وما يجمعنا هو العشق السينمائي والسينما الصادقة بعيدا عن تجار السينما في أرصفة شوارع الفكر، تونس شهدت أولى خطوات السينما مع فريق الأخوين لوميير والبرت شمامة شيكلي، وشهدت أول مهرجان عربي وإفريقي وهو مهرجان قليبية للسينمائيين الهواة وفي ما بعد أيام قرطاج السينمائية، واليوم لا بدّ من تفكير جدّي في بناء مشروع فكري يهتمّ بالسينما ويقطع مع عادات الماضي والبؤس الإبداعي وإهدار الأموال في أعمال لا ترتقي إلى المستوى وأخرى عشوائية، و بالتالي لا بدّ من إعطاء الفرصة للجيل الجديد وتحوير كلي لذهنية المتلقي، وعقلية السينمائيين واستثمار الكفاءات الشابة.


إعلان