Savage : المدينة تنتج عنفها اليومي
طاهر علوان
في المدينة التي تعج بالحركة والناس ، في الدروب التي لانراها ، في الأماكن النائية المعزولة ، قد تقع اشياء واشياء ، تمضي وقائعها بصمت وحتى صراخ الكائنات لن يسمعه احد فالمدينة غارقة في يومها الصاخب وكل فرد فيها يجري الى غايته غير عابئ بأحد سوى اللهاث وراء مصالحه وانجاز شؤونه ، عالم تبدو فيه المدينة مسترخية وهي كحيز مكاني صدق من اطلق عليها اسم حضارة الزمان والآلة والحركة ، وهكذا هي تدور دورتها اليومية الروتينية والكائنات البشرية تمضي الى غاياتها ، وجوه تتشابه وتختلف واناس يلتقون ويفترقون ، وضجيج وصراخ وتلوث وسرقة ودعارة وتجارة وشبع وجوع وسرقة ومتاهة ودروب مغلقة ومواخير واماكن عبادة واناس طيبون واشرارا وصغار وكبار وكهول وقطارات وتلوث ..و ..و تمضي المدينة هائمة سائرة الى غاية غير معلومة متناسية ابنها الأنسان الذي تسحقه المدنية في صخبها وجريها السريع ، بالأمس قرأها برتراند رسل فقال انها دائرة جمعية للمصالح ، يختصرها ماديا وبمنحها شكلا هو اقرب الى صورة الأنانية الطاغية التي تحكم الكائنات وتستحوذ عليها .
في فيلم (سافاج) للمخرج بريندان مولدوني نحن اما هذه الدوامة في مدينة (دبلن) الأيرلندية ، لن نلمح كثيرا من صخب المدن الكبرى لكننا نلمح ماتخلفه المديتة من بصمات .
يبدأ الفيلم مع الصورة ، الصورة الفوتوغرافية حيث تتجمد الحياة ، ولكن أي جانب من الحياة ؟ ، انه الجانب الذي يحكي صور الصراع بين الكائنات في المدينة الصاخبة ، ( بول – الممثل دارين هيلي ) هو مصور فوتوغرافي ينشغل بتصوير ماحوله ، يشاهد بالصدفة شخصين يتعاركان عراكا لايفضي الى القتل بل يبدوان مثل سكيرين خارت قواهما فلجآ الى العراك الهادئ وفي المقابل هو يرصد ثلة من الخارجين على القانون الذين يجري حشرهم في احدى سيارات الشرطة ليلاحق هو بكاميرته الذكية وعينه الثاقبة وجوههم وينجح في التقاط صورة لأحدهم .

حياته بسيطة لاتتعدى عمله الفوتوغرافي وزيارة والده الكهل الذي يعيش في دار للعجزة ثم الصداقة التي تتشكل ملامحها مع الممرضة الفاتنة نورا- الممثلة “جاين نون” التي تسهر على راحة والده ، وهو في طريق عودته الى منزله تصادفة ثلة من المراهقين السكيرين ، يهاجمونه ، ينتزعون كل مايملك ثم يوسعونه ضربا ، ثم يحدثون جرحا على وجهه ثم يسحقون بالضرب موضع الرجولة منه ليصحو بعد اربعة ايام ليجد نفسه في المستشفى ، يتسبب الحادث في تحطيمه نفسيا بشكل تام اذ يسيطر عليه الرعب من رؤية المراهقين الثملين في اي مكان وهم بالطبع علامة فارقة للمراهقين الأنجليز ، اصوات واصداء الحادثة تصرخ فيه صباح مساء مضاف اليها احساسه بالعجز الجنسي الكامل ، يقرر البدء بالتدريب البدني الشاق ويلجأ الى العلاج النفسي ، لكنه يفشل في المقابل في التعبير عن نفسه بشكل ودي مع تلك الممرضة الفاتنة التي ترعاه وتهتم به .
يقرر فيا بعد ان يحمل سكينا لكنه يعجز في ارهاب أي احد ، ثم يقرر قص شعر رأسه نهائيا ، ويجرب عملية القتل بقتله خروفا وجز رأسه ، ويستطيع فيما بعد التوصل الى عصابة المراهقين الذين هاجموه او ربما شبيهون لهم وهو تحت وطأة حبوب ذات مفعول كيميائي يبعث على الهياج والعنف يقتص من اولئك المراهقين في مشاهد قتل بشعة تنتهي بأن يخرج الى الشارع عاريا وقع صبغ نفسه بدماء ضحاياه .
ينجح صانعو الفيلم في حشد الأدوات التعبيرية التي تتناسب مع الصراع النفسي والعزلة الأجتماعية والصدمات التي تعرضت لها الشخصية ، ثمة دافعيات نفسية بالغة التأثير اطلقت السرد ورسخت الحرفية العالية في تتابع الأفعال والأحداث ، هنالك احساس عميق بالذات الممزفة المصدومة التي لاتكترث لها حضارة المدينة.الذات التي لاذنب لها الا انها تجد نفسها وهي تنسحق تحت وطأة الخراب القيمي الذي صار سمة سائدة ومميزة للحياة اليويمة المعاشة .
تتحرك الكاميرا بعفوية وهي تلاحق الشخصية الرئيسية وهي تتآكل ، هي محشورة دوما في زاوية العزلة والقلق والرعب وقد نجح المخرج اضافة الى مهارات المصور في صنع جو دراماتيكي مؤثر كانت فيه الشخصية الرئيسية – المصور – هو القطب الرئيس في كل مايجري تلاحقه اصوات المجرمين ويعيش مآزق عدم القدرة على الخروج من الأحساس بالعجز والخروج من محنته ولعل دافعيتان اساسيتان تحركتا بقوة في الفيلم وحركتا البناء الدرامي فيه وهما :
الدافعية الأولى : محاولة العودة الى الذات في صفائها وسجيتها الأولى وتجاوز ما حصل ولهذا يلجأ المصور المنكوب الى العلاج النفسي ودورات الدفاع عن الفردي عن النفس وتقوية البدن ، لكن كل هذه لاتفلح في اعادته كائنا سويا متفاعلا مع بيئته الأجتماعية واول علامات تلك الهزيمة هي انقطاعه عن أي صديق ثم عجزه عن ان يكون انسانا طبيعيا مع تلك الممرضة الفاتنة التي تحرص على علاج والده من جهة ومساعدته هو من جهة اخرى .
الدافعية الثانية : هي العجز في ان يكون قاتلا ومجرما ، عجز عن الحاق الضرر بالآخرين او حتى الذود عن الذات اذا اقتضت الضرورة ،ولهذا يعيش احباطا مدمرا بسبب وطأة الأزمة من ان ان يكون رجلا قادرا على الذود عن نفسه ضد ثلة من المراهقين السكارى الذين تعج بهم ضواحي المدن في بريطانيا او ايرلندا حيث تقع الأحداث ، ولهذا لايجد امامه من سبيل الا ان يكون في مواجهة تلك الفضائع الوحشية ولكنه لن يعود : لاانسانا سويا ولا مجرما محترفا بل مجنونا فاقدا كل احساس بما صنع .

لاشك ان الخط الواقعي الذي رسمه الفيلم منحه ثقلا وابعده عن ان يكون مجرد فيلم عادي من افلام الجريمة والقتل وسفك الدماء ، انه فيلم يجعل من الجريمة مقتربا لفهم الشخصيات ضحايا العنف الذين تعج بهم المدن في عصرنا الراهن التكنولوجي والمعبأ بالمتناقضات الغريبة ، لكن وفي المقابل هنالك كثير من الجدل الذي يحتمله الفيلم في مسألة التعاطف مع ذلك الشاب الضحية من جهة وفي ادانته من جهة اخرى عندما يلجأ للعنف واستخدام السلاح الأبيض بوحشية انتقاما لنفسه ، ولعل المعالجة الواقعية للفيلم هي التي اججت كل تلك التساؤلات والأفكار في مسألة الأدانة والتعاطف في آن معا .
وتبدو اشكالية فيلم الجريمة ودافعيات الشخصيات محورا بالغ الأهمية في مثل هذه الأفلام التي تحتشد بالمعطيات النفسية والأنفعالية القوية وكيفية تجسيد الأحساس الباطني للشخصية فلقد لعب الصوت دورا مهما في تجسيد ردود افعال الشخصة وذلك في مشاهد الأعتداء عليه وفي المشاهد اللاحقة التي ظلت فيه اصوات اولئك المراهقين المنحرفين تلاحقه وصوت الصليل ، صليل السكاكين يصر في رأسه مخلفا احساسا مروعا من الرعب والتمزق الذي لايقوى على التصدي له.