كيف يكون المُرتزق أبيضَ اللون، حَسن الطوّية؟

قراءة في فلم “أنا مرتزق أبيض” لطه كريمي
عدنان حسين أحمد

يثير الفلم الوثائقي “أنا مرتزق أبيض” للمخرج الكردي الإيراني طه كريمي العديد من القضايا والإشكالية التي تهّم أكراد العراق على وجه التحديد. ولعل السؤال الأبرز في هذا الفلم هو: كيف يكون المرتزق أبيضَ في حين أن الصورة السوداء هي قرينة كل مرتزق يعمل ضد تطلعات شعبه، وتنصّب خدماته في مصلحة العدو دائماً؟ يا ترى؟ ما هي المحمولات الفكرية والحجج والأدلة الدامغة التي يتمترس خلفها المستشار الكردي سعيد جاف قائد أحد أفواج الدفاع الوطني؟ بحسب توصيف النظام الشمولي السابق، و”الجحوش” بحسب توصيف الكرد لهذه الفئة الضالة الباغية التي آزرت صدام حسين ووقفت ضد أحلام وتطلعات الشعب الكردي. و “الجحش” في اللغة العربية هو “ولد الحمار”، فالمعنى الحقيقي لهذه التسمية أن هؤلاء المستشارين الكرد هم “أولاد حمير” لا يعرفون مصلحة شعبهم من جهة، وأنهم يقفون في الخندق المواجه لهم، وقد تحولوا بإرادتهم إلى أدلّاء ومرشدين يقودون القطعات العسكرية العراقية إلى أوكار “البيشمركة” الثوار الذين يقارعون الأنظمة الدكتاتورية منذ عقود بغية الحصول على حقوقهم القومية المشروعة سواء في الانفصال عن الجسد العراقي أم في التعايش معه، وفق نظام فيدرالي يضمن للكرد الحقوق الكاملة في الحكم والثروات الطبيعية بشكل عادل، وأن يصبح الكردي العراقي مواطناً من الدرجة الأولى، له ما للمواطن العربي العراقي من حقوق، وعليه ما على المواطن العربي العراقي من واجبات.

يأخذنا طه كريمي، مخرج الفلم وكاتب قصته السينمائية، على مدى ساعة وبضعة دقائق في رحلة استقصائية نتعرّف بواسطتها على آراء عدد غير قليل من المواطنين الكرد رجالاً ونساءً، شيوخاً وعجائز، مثقفين وأناسا بسطاء، وهم يعبِّرون عن حقيقة مشاعرهم الداخلية تجاه “المُرتزق” سعيد جاف الذي يعترف بقيادته لأحد أفواج الدفاع الوطني التي كانت تعمل لمصلحة النظام الاستبدادي السابق، لكنه يدّعي بأنه لم يؤذِ كردياً واحداً طوال مدة عمله في ذلك الفوج، بل بالعكس فقد أنقذ حياة المئات من الكرد، وأبعد عنهم شبح الموت حينما كان يخبرهم عن طبيعة المخاطر الجديّة التي كانت تهددهم فيلوذون بالفرار قبل وصول القطعات العسكرية المداهمة. لا نستبعد أن تكون رواية المستشار سعيد جاف صحيحة فقد رأيناه وهو يلتقي بعشرات الشخصيات والعوائل الكردية البسيطة التي تعترف بأفضال هذا الرجل عليهم، وتشكره على جهوده المخلصة في إنقاذهم من موت محقق مراراً وتكراراً، ولتعزيز هذه الآراء والمواقف الموآزرة له كان سعيد يسجِّل أحاديثهم بكاميرا فيديو، ويلتقط معهم الصور الفوتوغرافية كي تكون أدلة ثبوتية دامغة تعينه ساعة المثول أمام القضاء الكردي الذي استجاب لمطالب المتضررين وقرر محاكمة هؤلاء المستشارين الذين يصل عددهم إلى “264” مستشاراً كما ورد في الفلم، فهناك منْ يعتقد أن عدد أفواج “الجحوش” بالتسمية الكردية هو أكبر من الرقم المذكور. وهذه الأفواج الكردية هي التي قادت فِرق الجيش العراقي المهاجمة في المراحل الثماني لعمليات الأنفال، سيئة الصيت والسمعة.

أما الوجه الآخر للرواية فإن بعض الكرد يريد محاكمة هؤلاء وحجتهم في تحقيق هذه الرغبة أن الكرد فقدوا خلال عمليات الأنفال الثماني نحو “182.000” مواطن كردي قيل إن قسماً كبيراً منهم دُفن حياً في مقابر جماعية في الصحراء الجنوبية الغربية من العراق، وأن القسم الآخر مات في المعتقلات والسجون العراقية التابعة للنظام القمعي السابق ومن بينها سجن “نقرة السلمان” الواقع جنوبي محافظة المثنى، هذا إضافة إلى بعض المعتقلات السرية في الصحراء الغربية المحصورة بين محافظتي المثنى والأنبار. وقد قدّم المخرج طه كريمي عدداً لا بأس به من الأدلة البصرية التي تعزّز ادعّاءات الطرفين وتعزّز رؤاهم الفكرية، وسوف يظل هذا الجدال الفكري و”البصري” قائماً إلى أن يقول القضاء الكردي العراقي الجديد كلمته الفصل في هذا الموضوع الشائك الذي استوعبته الحكومة الكردية وأعادت هؤلاء الناس المنبوذين إلى البيت الكردي الذي يحلمون بترتيبه وتأثيثه من جديد بحيث يتناسب مع روح العصر، ويستجيب لاشتراطات حقوق الإنسان الشخصية والعامة. على الرغم من أن الفلم وثائقي النزعة والتوّجه، إلا أنه يتوفر على العديد من اللقطات والمَشاهد الشاعرية بحق، خصوصاً تلك المَشاهد التي تصوِّر بعض المتحدثين الذين يدلون بآرائهم تحت المظلات المطرية التي تقيهم من انهمار المطر الذي يوحي للمتلقي وكأنه يغسل أحزانهم الكثيفة، ويفتح أمامهم آفاقاً جديدة على حياة أكثر أمناً وأماناً وصفاء من ذي قبل.
لابد من الوقوف عند الفكرة الجهنمية التي هيمنت على مدار الفلم وهي الجملة الخطيرة التي تفوّه علي حسن المجيد المُلقّب بـ “علي كيمياوي” نسبة لاستعماله الأسلحة الكيمياوية في عمليات الأنفال المذكورة حيث قال هذا الرُوَيبضة: “إمّا إن أرتدي الشروال “وهو لباس الكُرد” أو أُلبِسهُم عُقُلا ” جديلة من الصوف أو الحرير توضع على الكوفيّة”. وهذا رأي غريب جداً، فلا يمكن لأمة أن تُبيد أمة أخرى أو تمحو تاريخها وتراثها وزيّها القومي. ويبدو أن الأنظمة القمعية المُستبدة لا تتعظ أبداً، ولا تأخذ الدروس والعِبر من التجارب الكثيرة التي تمر بها البشرية منذ آلاف السنين فلا غرابة إذاً حينما تتكرر الأخطاء نفسها وكأنّ التاريخ يعيد نفسه من جديد في هذا الجانب أو ذاك من المعمورة.
لقد طرح المخرج طه كريمي فكرته أمام المتلقين لكي يحكموا على ما شاهدوه بأنفسهم، فالجمهور في نهاية المطاف هو الحَكَم الأول والأخير في كل القضايا الشائكة والحساسة.

جدير ذكره أن فلم “أنا مرتزق أبيض” لطه كريمي عُرض في مهرجان الإسماعيلية الخامس عشر ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة التي تنافست فيها ثمانية أفلام من بينها “كوكب القواقع” الذي كتبنا عنه مقالاً خاصاً بموقع “الجزيرة الوثائقية” وسوف نتوقف عند بقية الأفلام التي تضمنتها المسابقة ومن بينها “يامو” للمخرج اللبناني رامي نيهاوي، و “جنة علي” للمصرية فايولا شفيق، و “أحبك” للتركية أمينة أمل بيلجي وسواها من أفلام المسابقة الرسمية.

طه كريمي

وُلِد طه كريمي في مدينة بانة الإيرانية عام 1976. درس الإخراج السينمائي في كلية السينما والمسرح بجامعة طهران للفنون. أنجز العديد من الأفلام الوثائقية والروائية الطويلة والقصيرة نذكر منها “جذور العنف في العراق”، “جروح العراق البليغة”، “زاريان”، “الجبال البيضاء” و “جبال قنديل”. حاز كريمي على عشر جوائز محلية وعالمية من بينها جائزة أفضل فلم روائي قصير عن “الجبال البيضاء”، ورُشِّح لجائزة أفضل مخرج في مهرجان فجر الرابع والعشرين.
وفي الختام لابد من الإشادة بحسن اختيار لجنة ترشيح الأفلام في الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي حيث انتقت هذه اللجنة المحترفة أفلاماً مهمة تتوفر على موضوعات حساسة جداً إضافة إلى خطابات بصرية جميلة لا يمكن أن تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة ومن بين أعضاء هذه اللجنة نذكر المخرج فؤاد التهامي، محمد خان، د. ناجي فوزي، فريال كامل، عصام زكريا، رامي عبد الرزاق، عرب لطفي وآخرين هذا إضافة إلى الدور المتميز الذي لعبه المخرج مجدي أحمد علي، رئيس المهرجان، واللمسات الفنية الواضحة التي خلّفها الناقد السينمائي  أمير المعمري، مدير المهرجان وعصبه النابض.


إعلان