روزا ….اصداء الحب وتراجيديا الحرب

طاهر علوان

امرأة في شبه متحف مهجور ، تدور في فضاء تجمدت فيه الحياة ، ولم تبق الا اصداء بعيدة لبقايا حروب وصراع عرقيات ، امرأة لايدرك احد كم مرت عجلة الحرب على كيانها كي تحطمها ولكنها بقيت  مثل حمامة الرعب والقلق متشبثة ببقائها الصامت شاهدة على رعب اللحظة ، ولكنها غير مدركة ان الحرب عندما تمر فأنها تحفر انفاقها في الجسد والروح وماذا ترى المرأة ذلك الكائن المتراعش تفعل وعاصفة الحرب لاتبقي ولا تذر ؟.
 انسانية متشظية ووجود يكتنفه الرعب هو جانب من جوانب حياة “روز” (الممثلة اغاتا كوليزا ) الشاهد الصامت على ازمنة الحرب ..وهكذا هي القصص الكامنة تحت طبقات الحروب وثقلها تبقى تتجدد مطلقة اصواتا لم نصغ لها جيدا  ، لصرخات وعذابات ولتمنحنا خلاصة قصص لم نسمعها ومعاناة لم نعشها ولا شاركنا فيها . تمضي عقود وعقود وانسان الحرب وضحيته واحد هو ذلك الوقف في المنتصف ، في منتصف المسافة بين وجودنا الراهن المأزوم بين ذلك الماضي المحمل بالقسوة والشقاء الذي اسهم في صنع الحاضر واعطاه شكلا او في الأقل اسهم في ذلك .
روزا هي رائعة المخرج البولندي “ووجيش سمارزويسكي ” الذي سبق واتحف مشاهديه بأفلام اخرى مهمة من اهمها :الزواج ، منزل الشيطان فضلا عن سلسلة “اللندنيون ” ، هذا الفيلم الذي نحن بصدده كان قد حصد اهم جوائز السينما البولندية هذا العام وشارك مؤخرا في مهرجان السينما الأوربية العاشر في بروكسل وقوبل باهتمام وحفاوة كبيرة .

روزا تلخص جانبا مماخلفته الحرب العالمية من مآس وصراعات بل ان  بيتها الريفي المتهالك ومزرعتها  يرويان فصولا مما خلفته تلك الحرب المروعة ، مزرعتها فيها حقلان هما  حقل  للألغام من مخلفات الحرب وحقل البطاطا ، وهي تعيش بينهما متأقلمة مابين مخلفات الماضي وبين ما يوفر لها اسباب العيش والبقاء على قيد الحياة .
هي هناك شبه منسية ، تعيش وحيدة حتى يأتيها ذلك الجندي “تاديوس” ( الممثل ميشال سيزرتيك ) العائد من الحرب حاملا صورة قديمة تجمعها بزوجها الألماني وخاتم الزواج الذي كان في يده ، فقد مات الزوج وجاء هذا الجندي السابق بملابسه الرثة حاملا تلك الرسالة ، تتشبث به ان يبقى فهو اول انسان يمر بها ويمكن ان تثق به لأنه صديق زوجها ، تغريه بأنها ستدفع له ان هو ساعدها في قلع البطاطا لكنه يرفض ويتركها باتجاه القرية حيث مازال الصراع على اشده بين نزعة البولنديين لتأكيد ذاتهم وسيطرة بقايا الجيش الأحمر السوفيتي الذي حررهم من النازية ، ومايلبث “تاديوس ” ان يقفل راجعا الى روزا ليجدها  ملقاة على الأرض والكدمات تملأ وجهها بعد ان مر عليها جنود الجيش الأحمر واغتصبوها .
يشعر “تاديوس” بمسؤولية ضمير ازاء تلك المرأة المعزولة المحطمة …انها تدفع ثمن انتمائها الى عرقية “المورانز” التي كانت بالأمس خاضعة لسيطرة الألمان فصارت تابعة لبولندا ولكن خاضعة لقبضة الجيش الأحمر الروسي …لهذا تكون روزا مثالا صارخا للمرأة المنبوذة فهي متهمة بكونها المانية بمعنى انها امتداد لجرائم النازية وانه ساندت النازيين على ابادة البولنديين وهي منبوذة من جانب آخر لأن الجيش الأحمر اقام معسكرا لأحدى كتائبه  على ارض مزرعتها الصغيرة وكانت هي تعيش في احضان الضباط الروس …
يكتشف تاديوس ان هذه المرأة تعيش صامتة في جحيم متنوع اقله حقول الألغام التي تحف بمزرعتها من كل جانب ولهذا يبدأ رحلة ازاحة تلك الألغام مستندا الى خبرته العسكرية …ولكنه يطور الأمر بعد تعرض روزا الى هجمات متكررة من طرف الجنود الروس والبولنديين على السواء ، اذ يحيط المنزل بألغام هو صنعها لكي تؤمن على حياتها ، ويدرب روزا على كيفيه تفجير الألغام اذا ماتعرضت الى الخطر وبالفعل يتولى تخليصها بهذه الوسيلة عن قطيع من الجنود الروس الذين دأب الضابط المسؤول عنهم على المرور وايذائها .

 تتطور القصة الى دراما هائلة تسببها تلك المرأة التي يتهمها الجميع بالخيانة وانها امرأة كريهة وسيئة السمعة ولكنها تروي لتاديوس خلفيات مايشاع عنها من قصص وكيف ان نساء القرية تعرضن الى حفلات اغتصاب جماعي من طرف جنود الجيش الأحمر وهي لم تكن طرفا فيه لوحدها ولم يكن لها خيار في استيطان الجيش الأحمر لأرضها .
يقرر تاديوس ان تكون تلك المرأة امرأته التي يدافع عنها ويحميها ويشاركها حياتها البسيطة لكن الوحشية والأيذاء لاتتوقفان ، مشاهد متكررة ، الجار الفلاح الذي لايملك شيئا ينتزع الجنود منه البقرة التي يملكها ويعتدون عليه بالضرب المبرح وعلى زوجته ، يتصاعد احساس تاديوس بوقع الظلم  المحيط به وينجح في القيام بأعمال انتقامية ضد جنود الجيش الأحمر بحكم مهاراته كمحارب قديم لكنه يبقى هو الآخر ملاحقا بماضيه ..انه مطالب بالمثول امام السلطات ليكشف من هو …واما روز فتصاب بالسرطان ويواصل هو رشوة السلطات لتركها وشأنها ولشراء الأدوية المنومة والمهدئة لإسكات الام روزا وعذاباتها …
المفاجأة هي ان روزا كانت تخبئ ابنتها في قبو لا يراها احد ، فهي شابة جميلة من جهة ومن اب الماني من جهة اخرى وبذلك تكون لقمة سائغة للجيش الأحمر وللبولنديين على السواء …
ساعة ان يقرر تاديوس تسليم نفسه الى السلطات بعد وفاة روزا ولإنقاذ ابنتها من الترحيل الى المانيا حيث يمكن ان تحاكم وتقتل يقرر تاديوس الزواج منها ثم تسليم نفسه للسلطات البولندية وهناك تبدأ رحلة شقاء اخرى لامثيل لها على ايدي تلك السلطات التي تتهمه بالعمالة والتخابر ويتعرض الى اشكال من التعذيب وقطع اذنه …ليعود بعد ذلك بسنوات بحثا عما يربطه بروزا ، ابنتها التي تركها في مهب الريح .
تتداخل في الفيلم مساحة هائلة من الاستذكارات والنبش في اوجاع وجراحات الماضي فكل المشاهد القاسية التي تعرضت لها روزا تمتزج بحاضر قلق ومضطرب ولا تستطيع ان تفرق بين الحاضر الذي مازال بلا شكل فجراحات الحرب لما تندمل بعد وخرابها مازال شاخصا في كل مكان فضلا عن العدوانية التي طبعت الجميع ممن عصفت بهم عاصفة الحرب .
الدراما الفيلمية التاريخية التي صنعها هذا المخرج البولندي البارع اعادت قصص اجواء الحرب العالمية الثانية وهزاتها الارتدادية على النسيج الاجتماعي وهي تمضي في نخر الذات الإنسانية وتشويهها وانتزاع كثير من قيمها الافتراضية .
واما من الجهة الأخرى فأن المرأة من خلال روزا كانت تدفع قدما باتجاه قراءة ذلك الواقع المر من خلال عيني امرأة وحواسها وعاطفتها وضعفها ومكابداتها ، فعجلة الحرب مضت تسحق كيانها الرخو وتكتم صراخها الذي تكرر في العديد من المشاهد القاسية .
ورغم قتامة الصورة فأن بقعة الضوء الجميلة ومساحة الأمل قد تمثلت في علاقة الحب الصامت التي نشأت بين تاديوس وروزا وحقا لا تجد سببا في طمعه بها وهي المرأة المعذبة المحطمة الملاحقة بثلاثة اسباب احلاها مر وهي كونها انثى فقدت كثيرا من جمالها وقوتها وشباباها وكونها تمثل عرقية لاوزن لها بل انها عرقية متهمة بالخيانة الوطنية لصالح النازية وكونها متهمة بالعمالة للجيش الأحمر ضد بولندا فالأتهام بالخيانة يلاحقها من كل جهة وهي تدفع الثمن في حياة مهددة …

وسط هذه القسوة تنشأ قصة الحب وكأن سلوك تاديوس ليس دفاعا عن حبه في منحاه العاطفي بل دفاع عن قيمة انسانية وجد نفسه مطالب بالدفاع عنها في ظل اجواء من الظلم والهمجية التي دفعته الى ذلك الموقف الشجاع الذي دفع ثمنه لكنه لم يتراجع عن قضية آمن بها …
الفيلم بكل عناصره الصورية وبناءه السردي يشكل كلا متكاملا لعمل ابداعي متميز وانساني وعميق حافل بالتحولات ومهارة الصنعة السينمائية سواء في البناء الصوري او الصوتي او في الدراما المتأججة والصراع المتصاعد …هو فيلم ينتمي الى تلك الأفلام التي تبقى في الذاكرة ويستحق فيلم كهذا ان يحتفى به لا ان يبقى في الظل وسط الحمى الهوليوودية الطافحة التي تستحوذ على الأصوات  والتجارب الأخرى التي تبحث في داخلها عن الأنسان وتحاكي الأنسان في تحولاته ومكابداته.


إعلان