رواد التجريد في السينما

رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني

كانت الرغبة في عزل، وممارسة فناً صافياً، ونوعياً واحدةً من الأهداف التي حاول السينمائيّون، الفرنسيون خاصةً، تحقيقها.
في بداياتها، لم تكن السينما القصصية فناً، وظهرت تيارات فكرية قوية دعمت منحها الشرعية، وبعد كتاباتٍ عديدة، وضع المُنظر”ريشيوتو كانودو”، السينما بعد العمارة، الموسيقى، الرسم، النحت، الشعر، الرقص، وأصبحت الفنّ السابع(7).
في عام 1915 أقدم “آبل غانس” رائد التعبيرية(8)، وتبايناتها في السينما الصافية، على إخراج ” La folie du Docteur Tube”، فيلم خيال علميّ قصير، وفيه يكتشف عالمٌ مجنونٌ طريقةً في تغييّر أشكال الأشخاص، بالنسبة للسينمائيّ، كانت الفرصة مناسبة جداً في إستخدام عدساتٍ تُشوّه الصور إلى درجة إحداث موتيفاتٍ لا شكلية بدءاً من صورٍ واقعية، وقد ساهم الفيلم في وضع حلقة وصلٍ ـ بدون قصدٍ رُبما ـ بين أعمال “جورج ميلييّس”، وأولئك الطليعييّن التاريخييّن في العشرينيّات، وسوف نلاحظ بأنّ عدداً من السينمائيين كحال “جان آبستاين”، “مارسيل لوهربيّيه”، أو “جيرمين دولاك” أدرجوا مشاهد غير تصويرية في أفلامهم.
البعض، مثل “هنري شوميت” (Jeux de reflets et de vitesse  عام 1925) أنجزوا “أفلاماً صافية” عن طريق صوراً من الواقع : الأفلمة الإيقاعية لوجوهٍ، شوارع، وأشياء تُساهم في إحداث التجريد بدءاً من عناصر محددة.
في عام 1927 كتبت “جيرمين دولاك” حول هذا الوضع :
ـ “أستحضر راقصة، إمرأة ؟ لا، خطٌ يقفز في إيقاعاتٍ متناغمة، أقدم عرضاً ضوئياً، مادةً محددة، لا، إيقاعاتٍ منسابة، المُتعة التي تمنحنا إياها الحركة في المسرح، لماذا نحتقرها على الشاشة.
هارمونية الخطوط، هارمونية الضوء، خطوط، مساحات، أحجام تتطوّر مباشرةً، بدون إثارتها بشكلٍ مصطنع، محتفظةً بمنطق أشكالها، متخلصةً من أيّ معنى إنسانيّ مباشر، ومن الأفضل لها بأن تتسامى نحو التجريد، وتمنح فضاءاتٍ أوسع للأحاسيس، والأحلام : السينما الشاملة”(9).
وهكذا، بمُقتضى تلك الأفكار، أنجزت “جيرمين دولاك” ثلاثة أعمالٍ رئيسية :

                           جيرمين دولاك

Disque 927 في عام 1928.
Thèmes et variations  في عام 1928.
Étude cinématographique sur une arabesque في عام 1929.
في بداية الثلاثينيّات، الطليعيون القدامى (المُتعددي المجالات الفنية، والمُتأسّسة على برامج، وبياناتٍ تنظيرية) دخلوا التاريخ، وصول الصوت إلى السينما رفع بنسبةٍ مُعتبرة تكاليف الفيلم، وبدأت التجارب الطليعية المُعتمدة على الداعمين الأثرياء من فاعلي الخير تعاني من التمويل، ومع ذلك، سينمائيون متفردون كحال المناضل القديم “أوسكار فيشينغر”، والقادمون الجدد “لين لاي”، و”نورمان ماكلارين” أعادوا الحياة إلى الفيلم التخطيطيّ التجريدي الذي تهجّن بالتواصل مع ممارساتٍ متنوّعة مرتبطة بهؤلاء الفنانين، ومحيطهم أيضاً.
دخول الصوت إلى السينما سمح لـ “فيشينجر” بالعمل على التزامن بين الصورة، والصوت، وهكذا توجه نحو “السينما المُطلقة”، ومنح أعمالاً إبداعية مهمّة مثل :
Komposition in Blau  في عام 1935.
Allegretto  في عام 1940.
متأثراً بالفلسفة الجرمانية، كان “فيشينغر” مهموماً في أعماله بالعثور على “روح الموسيقى” تلك التي تحدث عنها “نيتشه”، وأشرنا إليها أعلاه (في الجزء الثاني من هذه القراءة : ثُريا التجريد خلال قرن).
في سنوات الثلاثينيّات، وبسبب صعوبات إيجاد دعم لإنجاز أفلاماً بحثية، تجاوزها النيوزلاندي “لين لاي” المُقيم في لندن، وبدأ يرسم، وينقش موتيفاته مباشرةً على شرائط شفافة.
كان  A Colour Boxعام 1935 الشريط الأول المُكتمل الذي أنجزه عن طريق تلك التقنية، وإذا إعتبرنا بأنّ هذا الفيلم قد أحدث قطيعةً مع المنهج، والخلفية الثقافية لتجربته الأولى Tusavala  (لقطاتٍ مرسومة بالأبيض، والأسود، ومن ثم إعادة تصويرها فيما بعد) نجد، على الأقلّ، بأنه حافظ فيه على ثراء، إختلاف، وعضوية خطوته التشكيلية، الخطوط، والأشكال المُتداخلة مع موسيقى شعبية لا تبحث عن تزامنٍ دقيق، ولكن تعادلات بصرية.
لم يكن “لين لاي” مكتشف ما نُسميه “السينما المُباشرة”(10)، فقد إستخدم “مان راي” تلك التقنية منذ ” Le retour à la raison” عام 1923، ولكنّ النيوزلندي “لين لاي” هو الذي نظمّها حتى نهاية حياته، “نورمان ما كلارين” ـ الذي سبق “لين لاي” مع Hand Painted Abstraction عام 1933 فيلمه الأول المرسوم مباشرةً على الشريط الحساس ـ هو السينمائي المُعاصر لـ “لين لاي” الذي إستخدم أكثر طريقة التحريك المُباشر، ولكن، بدون أن يجعل منها إستثناءً كما الأخير.

في بداية الأربعينيّات، عندما وصل “ماكلارين” إلى نيويورك، عرف بأنّ مديرة “متحف كوكنغهايم” للرسم الغير موضوعيّ، لا تشتري فقط لوحاتٍ تجريدية، ولكن أيضاً أفلاماً من نفس النوع.
تسلح بالجرأة، وإقترح بأن يبيعها أعماله، ولكنه، لم يكن يمتلك أيّ فيلم في حوذته، عاد إلى بيته، ورسم فيلميّن قصيرين، إشتراهما المتحف فيما بعد.
“تختفي تلك القصة المُعاشة خلف  Dots و Loops عام 1940، وبما أنني لم أكن أمتلك نقوداً لشريط الصوت، قررتُ بأن أرسم الأصوات مثل الصور”(11).
في الخمسينيّات، وبعد الفيلم بدون كاميرا، أدخل “ماكلارين” الصوت المُصطنع، والذي دفع الإمكانيات الدلالية بعيداً :
Blinkity Blank  (في عام 1955 يُنشئ بناءً معقداً من التقطعات البصرية تُقرّبه من “بيتر كوبلكا”، و”بول شاريتز”).
Synchromy (في عام 1971 تعادلات دقيقة جداً من معادلاتٍ متكافئة بين الأصوات، والصور المنقوشة على الشريط).
على العكس من زميله الإيكوسي، كان “لين لاي” يستخدم شرائط أفلاماً قديمة، ومهملة (جمالية مرتكزة على إعادة تدوير عناصر موجودة مسبقاً، نعثر عليها في عددٍ من ممارسات التجريب، وبشكلٍ خاصّ عند “الحروفييّن”)، وبقي أيضاً، مثل “فيشينغر”، مخلصاً لنموذج معين من البحوث المُرتبطة بروح الطليعيين، سمحت له، بدءاً من الستينيّات، الدخول بسهولةٍ أكثر من “ماكلارين” في تاريخ السينما التجريبية.
“جيم دافيز” (1901- 1974) رائدٌ في الفنّ المشهديّ (وبشكلٍ خاصّ في علاقاته مع اللون)، لم يمارس التجريد السينمائي كما الحال عند “هانز ريشتر”، و”أوسكار فيشنغر”(تحريك المساحات، أو الأشكال المرسومة بحرية)، ولا كما “لين لاي”، أو “نورمان ماكلارين”(رسم، ونقش على الشريط الحساس)، ولكن، بمزج، وبناء، وإنجاز إنعكاساتٍ، وتدفقات ضوء، ومع فيلميّهLight and Reflections  عام 1952، وFathomless  عام 1964 وصل إلى أناقةٍ قصوى في عمله : لمسات جديدة من الضوء، تُضاف إلى الأولى، وتبدو المحصلة النهائية وكأنها نوعٌ من طبقاتٍ طينية غير مادية مصفوفة فوق بعضها، وقبل 40 عاماً من “هوغو فيرلاند”، أو “فيليب كوت” نجده في Death and Transfiguration  عام 1961 يُهجن عناصر جسدية مصوّرة، وتشكيليّة غير مادية.
في عام 2002، كتب “دونيز ريوت” في موسوعة “الأنسكلوبيديا العالمية” :
“في دلالاته الأربعة، التجريد عملٌ شكليّ يبني المعطيات بمُقتضى أربع عملياتٍ ذهنية متباينة تماما :
التبسيط، التعميم، الإختيار، العرض التخطيطيّ، وهي تتوافق مع أربع سياقاتٍ معرفية : التفكر، التصوّر، التصنيف، التشكيل.

وبينما فكر”ليوبولد سورفاج” مسبقاً بالسياقات الثلاثة الأولى، فقد تجاوزت أعمال الأخوين “جيمس، وجون وايتيني” منذ بداية الأربعينيّات مرحلة التشكيل:
“تكتشف الأفلام الأولى لـ”جيمس وايتني” بدقةٍ شديدة الإمكانيات الشكلية بمُقتضى تعديلاتٍ تمّ التخطيط لها بعنايةٍ فائقة، ومرسومة وُفق النموذج النظريّ لـ “أرنولد شونبرغ” في التأليف الموسيقي.
Twenty-Four Variations (1940-1942) الذي تمّ تصويره بشريط 8 مللم، يستخدم أشكالاً هندسية أولية ـ دوائر، مستطيلات، مثلثات ـ تظهر، وتختفي (كما حال أشكال ” Diagonal Symphony لـ”فيكينغ إيغيلينغ”) تعديلات ألوان، وتداخل موتيفات، ومشاهد تنتج إنعكاساتٍ، وتنويعاتٍ حول تيمة بصرية إرتكازية”(12).
لاحقاً، جعل هذا السينمائي من النقطة عنصره التشكيلي الرئيسي، ومع Lapis عام 1963 قدم فيلماً خلاباً مستوحى من النموذج التأمليّ للرسم، والتلوين بطريقة الـ”ماندالا” (مصطلحٌ في اللغة السنسكريتية، ويعني الدوائر، والأشياء المُقدسة المُحيطة بالإله المعبود).
إستخدم “جيمس وايتني” دعامة تحريك مبرمجة وضعها أخوه “جون”، الذي أنجز بدوره في عام 1967 فيلماً بأكمله عن طريق كمبيوتر تناظريّ، Homage to Rameau فيلمٌ قصيرٌ أراد من خلاله أن يحقق  تآزراً جديداً بين الصور، والأصوات، حيث بدت له تلك التي ظهرت عند “فيشينغر” ضعيفة جداً، لأنها مرتكزة على المُحاكاة.

هوامش المؤلف :
(7) ـ مصنع الصور، 1995، صفحة 71.
(8) ـ تيارٌ طليعيٌّ فرنسيّ، لاحقاً أطلق عليه “هنري لانغلوا”، و”جورج سادول” إسم “تعبيرية”، يجمع سينمائيين “شكلانييّن” مثل (مارسيل لوهربييه، جيرمين دولاك، آبل غانس، لويّ دولوك، جان آبستاين) ويؤكد على الصورة فقط لخلق معناها، وهارمونيّتها.
(9) ـ جيرمين دولاك، كتابات حول السينما (1919-1937)، نصوص جمعها، وقدمها “بروسبير هيليريه”
(Paris Expérimental، مجموعة كلاسيكيات الطليعة، 1994، صفحة 89).
(10) ـ كي نتجنب أيّ غموضٍ معجميّ مع تيارٍ سينمائيّ تسجيليّ ظهر خلال الفترة 1958 -1962 في الولايات المتحدة، وكيبك، بعد وصول كاميراتٍ جديدة، وخفيفة إلى الأسواق، وكان يهدف إلى إلتقاط الواقع مباشرةً لنقل أخلاقه.
في هذا النصّ، وفيما يتعلق بأعمال “ماكلارين”، و”لين لاي”، سوف نستخدم طوعياً مصطلحات “منقوشاً، مخططاً، ومرسوماً مباشرةً على شريطٍ حساس”.
(11) ـ رافائيل باسان، نورمان ماكلارين، صمت برومثيوس (دفاتر Paris Expérimental رقم 17، 2004 )، صفحة 16.
(12) ـ وليام موريتز، فنّ الحركة، تنسيق “جان ميشيل بوهور”(إصدارات مركز جورج بومبيدو،1996)، صفحة 461.


إعلان