“يامن عاش”: الوثائقي التونسي في مهرجان فينيسيا

أمير العمري

من تونس عرض خارج المسابقة في الدورة الـ69 من مهرجان فينيسيا السينمائي، الفيلم الوثائقي الطويل “يامن عاش” للمخرجة هند بوجمعة وهو أول أفلامها ومن إنتاج كل من درة بوشوشة والحبيب عطية.
هذا فيلم شجاع  الأفلام الوثائقي التي لا تعرف المساومات ولا أنصاف الحلول ولا التوقف عند بعض النقاط وإغفال الأخرى، فهو فيلم “بروفيل” لشخصية هامشية، تعيش مرحلة ما بعد الثورة، ولا تخشى أن تتحدث بصراحة وتواجه الكاميرا عن أدق تفاصيل حياتها، موجهة نقدا شديدا وتلقائيا بلسان امرأة غير متعلمة، إلى حكومة ما بعد الثورة بل وللنظام السياسي كله الذي تعتبره نظاما ظالما مصنوع فقط من أجل إرضاء الأثرياء والمحافظة على مصالحهم.
الفيلم يتابع منذ المشهد الأول، قصة سعي تلك المرأة المنبوذة اجتماعيا (عايدة) مع ابنها (فوزي) الذي يبدو مصابا بدرجة من درجات التخلف العقلي، والاثنان يحاولا وينجحان في اقتحام أحد المنازل لكي يجدا سقفا يحميهما من التشرد. لكن سرعان ما يطردهما صاحب المنزل منه فيعاودان المحاولة، وينتهي بهما الأمر للسكن مع بعض الاصدقاء أو الأقارب في منزل يبدو أيضا أنه تم الاستيلاء عليه من أصحابه الذين تركوه.
يبدأ الفيلم من يوم 14 يناير 2011، يوم هروب الرئيس زين العابدين بن علي من تونس والإعلان عن “سقوط النظام”. ويتابع محاولات تلم المرأة المتوردة، التي تشعر أنها متحررة من القيود، قيود الزوج والأسرة والعشيرة والنظام، لكنها في الوقت نفسه، ضحية النظام.. والتغيير السياسي لم ينعكس على حياتها كما كانت تأمل، لكنها لم تفقد الأمل في ما يمكن أن تأتي به الثورة.

محاولات مستحيلة
الكاميرا تصاحب عايدة طوال الوقت، من محاولتها مناشدة المسؤولين في البلدية تسهيل حصولها على مسكن، حيث أنها لا تعمل ولا عائل لها، لكن السلطات أوقفت العمل بسبب أحداث الثورة والمواجهات المستمرة في الشوارع.

وفي مشهد شديد الغرابة تحاول عائدة كسر جدار في مبنى من مباني الحزب الدستوري المنحل، حزب الرئيس السابق بن علي الذي فر ومنذ فرراره والبلاد تعيس مرحلة انتقالية مضطربة، ولكن يتعين على عايدة وأمثالها، أن يدفعوا الثمن.
يعتمد الفيلم على التسجيل الحي لمشاهد تعيشها عايدة مع ابنها فوزي، يتشاجران كثيرا، تفقد عايدة أعصابها بسبب اصرار فوزي على مشاهدة التليفزيون مع رفع درجة الصوت بطريقة لا تحتمل، لكن المشاجرة تنتهي بأن يقوم بتحطيم جهاز التليفزيون.. هكذا أمام الكاميرا التي لا تتحرك بل تظل ثابتة وكانها مصرة على اقتحام حتى أشد اللحظات خصوصية في حياة الشخصية التي ترصدها.
ففي أحد المشاهد تحاصر الكاميرا عايدة وهي تستدرج لكي تروي تفاصيل شديدة الخصوصية من حياتها، عندما تروي على استحياء ومداراة كيف تعرضت في طفولتها للتحرش الجنسي من قبل والدها، وكيف أن لديها ثلاثة أبناء آخرين يعيشون في ملجأ نتيجة حكم صادر من السلطات ضدها باعتبار انها غير مؤهلى لتولي مسؤولية تربيتهم بسبب ماضيها السيء.. كامرأة مارست السرقة وسجنت لفترات محدودة.
الكاميرا الذكية تتسلل حتى إلى داخل سجن النساء، لتسجيل شهادات النساء والفتيات السجينات عن ما يجري في ابلاد من وجهة نظرهن وتأثيره عليهم وكيف جاءوا إلى السجن.. في إدانة دامغة لمجتمع عاش تحت القهر سنوات طويلة ممتدة، وكانت الثورة تمثل أملا كبيرا لانعتاقه.

نقد الواقع
عايدة تواصل نقد الواقع ما بعد الثورة، وتعبر عن عدم ثقتها في سياسات حزب النهضة الإسلامي رغم كل شعاراته البراقة.. وهي تبدو رغم تلقائيتها وبساطتها كامرأة من الشارع، شديدة الوعي سياسيا بما يدور حولها، تلحص كلماتها في عبقرية ضمير الشعب التونسي.
ينتهي فوزي إلى السجن بسبب قيامه بسرقة جهاز تليفون محمول وهو ما ترى عايدة أنه ظلم كبير، فهم “يتركون كل من نهب وسلب الملايين والمليارات في العهد السابق ويقتصون من شاب صغير يسرق تليفونا لكي يشتري ما يقيه شر الجوع”!
هذه هي فلسفتها، وهي قد تبدو مقنعة في سياق الفيلم الذي يوضح كيف أهلمت الثورة هؤلاء الذين كانوا السبب في إشعالها ونجاحها.
الفيلم ينتقل مع عايدة من موقع إلى آخر، ومن موقف لموقف آخر، في شهادة بصرية وصوتية شديدة التأثير إلى حد الصدمة أحيانا.
صحيح أنه يعتمد على الحوارات، وعلى اللقطات القريبة لوجه عايدة، تحبسها الكاميرا وتراقب كل انفعالاتها، لكن المخرجة تمزج الكثير من المشاهد التسجيلية المباشرة من أحداث الثورة واستمرار المواجهات بين الشرطة والشعب، وتعليق عايدة والسجينات في سجن النساء عن كيفية تعامل الشرطة مع الشعب بنفس الطرق التي كانت سائدة قبل الثورة، أي بالضرب والتعذيب والإهانات وتلفيق التهم.

شبه الروائي


فكرة الوثائقي في فيلم “يامن عاش” لا ترتبط فقط بالتسجيل المباشر بل بطريقة شبه روائية تتبعها المخرجة هند بوجمعة في طريقة بناء الفيلم: الأداء المباشر المتفق عليه مسبقا أمام الكاميرا.. إعادة تمثيل الحياة الحقيقية أحيانا.. تجسيد مواقف محددة.. الابتعاد تماما عن استخدام أسلوب الراوي أو التعليق الصوتي، كما يكاد الفيلم يخلو أيضا من الموسيقى، والتركيز على رؤية أحادية من جانب عايدة، دون اللجوء إلى تحقيق التوازن المعتد في التقارير التليفزيونية، عن طريق الاستماع لشهادات أخرى قد تكون مناقضة أو متباينة.
نحن لا نسمع هنا ما يمكن أن تقوله السلطات أو الشرطة أو الجهات الحكومية المسؤولة، فالقضية الواضحة من البداية بكل بساطة هي: كيف يمكن للإنسان الفقير الذي لا يملك شيئا أن يعيش في مجتمع قامت فيه ثورة على الظلم؟
فيلم “يامن عاش” وثيقة بصرية مهمة لمجتمع لايزال في مرحلة تفاعل.. قد يستمر لسنوات قادمة أيضا.


إعلان