السينما البنيّوية
رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني
إستخدم السينمائيون الروّاد الأوائل، وبشكلٍ خاصّ، أربع تقنياتٍ للحصول على معادلاتٍ مشابهة للتجريد التصويريّ :
ـ الرسم المُباشر على الشريط الحساس الذي مهد له “الأخويّن كورا”، وإنتشر إلى حدٍّ كبير عن طريق “لين لاي”، و”نورمان ماكلارين”.
ـ تحريك مساحاتٍ هندسية (فايكينغ إيغيلينغ، هانز ريشتر)، أو أشكالاً أكثر مرونةً (والتر روتمان، أوسكار فيشينغر)، وحتى أثيرية (جيم دافيس).
ـ النتيجة التخطيطية لتصوير زخرفاتٍ حقيقية (هنري شوميت، جيرمين دولاك).
ـ تشكيل العناصر البسيطة (الأخوين وايتيني).
من جهةٍ أخرى، فيلمٌ كحال Ballet mécanique لـ “فرناند ليجيه”، و”دودلي مورفي” عام 1924 فتح الطريق أمام عدداً كبيراً من الإستراتيجيات التعبيرية الحديثة الخاصة بالتجريب المُعاصر :
ـ إستخدام الكادرات المُنفردة في مكان، ومحل اللقطات ـ أساس ما نعرفه عن المونتاج الدلاليّ للمدرسة السوفييتية ـ.
ـ إدخال ديناميكية خاصّة بالأشياء بدون تزامنٍ مع المفاهيم، والتصورات.

السينما البنيّوية
في بداية الستينيّات، عثر بعض الفنانين، الأمريكان خاصة،ً على بديلٍ سينمائيٍّ يطعن الشكلانيّ، وذلك إنطلاقاً من معايير فيلميّة صافية (إستنساخٌ متواصلٌ لزخارف متنوعة، تثخين حبيبّات الشريط الحساس)، ومن بين آخرين، نجد هذه الممارسات عند الأمريكان : بول شاريتز، كين جاكوبز، هوليس فرامبتون، توني كونراد، الكندي : ميكائيل سنو، والنمساويّ : بيتر كوبلكا.
وقد أطلق الناقد، والمُنظر “ب. أ. أدامز” على هذه “المدرسة” : سينما بنيّوية، حيث كتب :
“تُضاعف السينما البنيّوية في تأكيدها على الشكل أكثر من المحتوى الذي يتجسّد بطريقةٍ محدودة، وثانوية.
العناصر الأربعة المُميزة للسينما البنيّوية، هي :
ـ لقطةٌ ثابتة (تبدو صورةً ثابتة من وجهة نظر المتفرج).
ـ تأثيرٌ ومضيّ.
ـ عرضٌ متواصلٌ لنفس اللقطة (تقنية ما يُعرف في المُصطلحات السينمائية التقنية loop).
ـ إعادة تصوير الشاشة (13)”.
مع فيلم Arnulf Rainer (1958-1960)، ومن الوهلة الأولى، سجل “بيتر كوبلكا” هذه السينما في راديكالية مُتعالية، يتكوّن هذا الفيلم القصير بطول 6 دقائق من تنويعات أكثر العناصر بساطةً، وصفاءً للوسيط : الضوء، الظلام، الصمت، والصوت.
وهكذا، نشاهد تتابع نبضاتٍ سوداء، وبيضاء مع تحوير الأصوات، لقد كان فيلم Arnulf Rainer في السينما التجريبية يُعادل بشكلٍ ما في الرسم تلك اللوحة المُسمّاة (Carré blanc sur fond blanc/مربعٌ أبيض فوق خلفية سوداء) لـ”ماليفيش” التي رسمها في عام (1918)، وبنفس المبدأ، يقود “توني كونراد”، في The Flicker (1966)، وعن طريق التناوب بين الكادرات البيضاء، والسوداء، تنويعاتٍ طويلة من الومضات، تتضخم في بعض اللحظات حتى حدود الإحتمال(14).
ولكن، هنا لم تعدّ المرجعية مع التجريد التصويريّ نموذجاً، حيث تتشارك، وتنشط تشكيلاتٍ أخرى، وتشوهاتٍ عند سينمائيين كحال بول شاريتز، كين جاكوب، ميكائيل سنو، أو هوليس فرامتبون.
في فيلمN,O,U,C,H,I,N,G (1968)، وإنطلاقاً من الكادرات، والومضات، يخلق “بول شاريتز” إشاراتٍ جديدة “يجعل منها قواعد نحوية” (كما يمكن لأحدٍ ما أن يقول : يضعها في معادلة رياضية) لترجمة غرائز موت، وحياة جنسية مضطربة.
كادراتٌ بالألوان لصبيّ عاري، بالتبادل مع سلسلتيّن من الصور السلبية، والإيجابية، في الأولى، لسانه على وشك أن ينقطع بطرفيّ مقص، وفي الثانية، أظافر إمرأة تمزق وجهها، وبينما تتوضح حروف العنوان، تتقاطع مع الأولى كادراتٍ أخرى من عمليةٍ جراحية، ورؤى جنسية بالأبيض، والأسود.

يتكوّن شريط الصوت من تكرار متواصل لكلمة “Destroy”، هنا، لم تعدّ الحكاية هي التي تقدم المعنى، ولكن، التنويعات، أكانت عضوية، كيمائية، أو ممثلةً للشريط الحساس المأخوذ في دورانه، الإيقاعي على الأرجح، تفتح الطريق على شهوانية يتمّ إدراكها مباشرةً عن طريق المخ.
الإبداع يتحدى النظريات، والقواعد، إذّ حالما تمّ تحديدها في أعماله الأكثر جذرية ـ Arnulf Rainer, على سبيل المثال ـ يتلامس الفيلم البنيويّ مع إتجاهاتٍ أخرى، أو مدارس تشكيلية.
Tom, Tom, the Piper’s Son عام (1969) هو، بالآن ذاته، عملٌ بنيويّ، وفيلمٌ منجزٌ من لقطاتٍ قديمة، ومهملة (found footage).
بينما يميل Zorn’s Lemma عام (1970) لـ”هوليس فرامبتون” نحو الفنّ المفاهيميّ.
ولكن، يمكن لنا، في أبحاثنا، إدخال هذين الشريطين في إشكالية التجريد عن طريق، ومع الفيلم.
Tom, Tom, the Piper’s Son عام (1969)، خلال ساعتين، وعن طريق الإبطاء، وإعادة تصوير متلاحقة، يُنظم من جديدٍ فيلماً قصيراً مشابهاً بطول بعض الدقائق، يعود تاريخ إنجازه إلى عام 1905.
تكبير الزخارف، تنويع السرعات، تضخيم حبيبّات الشريط الحساس : لدينا هنا سيمفونية حقيقية من الأبيض، والأسود، والرمادي، تتأرجح بإستمرار بين التشكيليّ، والتجريد.
الجزء الرئيسي من فيلم Zorn’s Lemma (يغطي 9/10 من طوله الزمنيّ)، 26 لقطة تدور بشكلٍ متواصل عدداً كبيراً من المرات، تحتوي كلّ واحدة منها على كلمةٍ يمكن أن نقرأها في واجهة محلاً تجارياً، وجدران، اللقطة الأولى تؤطر كلمةً تبدأ بالحرف أ، اللقطة الثانية تؤطر كلمةً أخرى تبدأ بالحرف ب، وهكذا….
وفي كلّ دورة “عجلة”، تقدم كلماتٍ مختلفة، وشيئاً، فشيئاً، تُستبدل الكلمات بزخارف (طيور)، أو إسكتشات (شخص ما يربط ربطة حذائه)، ومن ثمّ، تدريجياً، تختفي الكلمات، وعلينا أن نتابع تطوّر الزخارف البديلة، والتي لا تحتفظ بأيّ علاقة فيما بينها.

لدينا هنا أيضاً مثالاً من الميراث المُتعدد المعاني للمونتاج المٌتغير لفيلم Ballet mécanique، شكلٌ من التجريد في إتجاهٍ معاكس، يكشف عند مؤلفه عن مهارة كبيرة في تنظيمٍ نصيّ، وتشكيليّ.
وكما يمنح “بول شاريتز”، و”ميكائيل سنو” جانباً درامياً، ويشحنان بالمعاني معايير سينمائية، فإن الومضات وحدها لا تخفزهما للوهلة الأولى، ولكن، حركات الأجهزة، وهكذا تصبح الزوم نجمة فيلم Wavelength عام (1967)، وتُشكلّ الحركات البانورامية الأفقية، والعمودية نسيج
<—> (Back and Forth, 1969).
مع فيلم La région centrale(1970-1971)، يبني”ميكائيل سنو” فيلمه الأكثر جذريةً، في عام 1969، أعرب عن رغبة إخراج “فيلم طبيعيّ” المعادل في مصطلحاتٍ سينمائية صافية لوحات سيزان، كورو، مونيه، أو ماتيس.
ومن أجل هذا المشروع، أنجز “بيير أبيلوس” خصيصاً جهازاً بزراع متحركة، وضع عليها كاميرا تجوب أفقياً، وفي دوائر، وحركاتٍ حلزونية، وتصور منطقةً جبليةً، خالية في مقاطعة “كيبك”، وبدون أيّ تدخلٍ بشريّ.
خلال ثلاث ساعات من العرض، نشاهد، عن طريق الحركة المُدوّخة، المشهد الطبيعي المُوحش، والسماء خالية، تمنح ولادة سلسلة من التكوينات التجريدية حيث يبدو الزمان، والمكان، وكأنهما معلقان.
ينفصل “سنو” عن المفهوم المُرتبط بالسينمائي “براكاج” حول العين المُتحررة، لأنه، بالنسبة لمؤلف فيلم The Dead، تخلصت العين من تربيتها المنظورية، وأصبحت مرتبطة تماماً بذاتية الفنان.
هوامش المؤلف :
(13) ـ ب. أدامز سايتني، السينما الرؤيوية? : الطليعة الأمريكية 1943-2000 (Paris Expérimental، مجموعة “كلاسيكيات الطليعة”، 2002)، صفحة 329.
هوامش المُترجم :
Raphaël Bassan
وُلد “رافائيل باسان” عام 1948 في بلغاريا، وهو مخرجٌ، وناقدٌ سينمائيٌّ فرنسيّ، متخصصٌ في السينما التجريبية.
في البداية، توجهت إهتماماته نحو مسيرة أدبية، حيث أصدر مع “هوبير حداد” عام 1970 مجلة متخصصة بالشعر (Point d’être)، بينما أخرج أول أفلامه القصيرة في عام 1969.
“جان بول بورر”، وكان واحداً من أعضاء المجلة الشعرية، إستعاد ذكريات تلك السنوات في صفحات سيرته الذاتية (محاربو الحلم)، وأشار إلى “رافائيل باسان” بصفته شاعراً، وسينمائياً.
منذ ذلك الحين، بدأ “رافائيل باسان” يكرسّ نشاطه للكتابة عن السينما بشكلٍ عام، والتجريبية خاصةً، تلك التي كان يتجاهلها معظم زملائه، وكتب مقالاته السينمائية في صحفٍ، ومجلاتٍ متعددة، وأصبح صحفياً محترفاً.
من جهةٍ أخرى، يعتبر واحداً من المجموعة التي أسّست في عام 1971 تعاونية التوزيع المُستقلة المُسمّاة “جماعة السينما الشابة” التي تُواصل نشاطها حتى اليوم.
خلال الفترة 2000-2010 تعاون “رافائيل باسان” كناقد سينمائي مع مجلاتٍ أخرى، ومواقع فرنسية، وأوسترالية متخصصة، وشارك في تحرير بعض المقالات في “الأنسكلوبيديا العالمية”(من موقع ويكيبيديا).