حول فيلم “يمه” الجزائري: تراجيديا عصرية!

أمير العمري

نادرا ما يعرض مهرحان فينيسيا (البندقية) السينمائي عددا كبيرا من الأفلام لمخرجين من العالم العربي، كما حدث في الدورة الأخيرة (التاسعة والستين) التي شهدت عرض أكثر من ستة أفلام من الجزائر ومصر وتونس وليبيا وفلسطين، بالإضافة إلى تلك الأفلام التي يشترك في اخراجها سينمائيون من الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي أفلام تثير الكثير من الارتباك عند تصنيفها أحيانا.
كان فيلم “يمة” Yema  الجزائري (ومعناها يا أماه) للمخرجة جميلة صحراوي، من الأفلام المنتظرة وإن جاء عرضه خارج المسابقة الرئيسية للمهرجان، لأنه الفيلم الثاني للمخرجة منذ أن قدمت قبل ثلاث سنوات، فيلمها الأول المثير للجدل “بركات” (بمعنى “كفى”).. وكانت تعبر من خلاله عن رفضها التفسيرالرسمي للأحداث الدموية التي شهدتها الجزائر طوال حقبة التسعينيات بسبب تداعيات النزاع السياسي المسلح بين التنظيمات الإسلامية المسلحة وقوات الأمن الجزائرية.
وكانت تتهم في فيلمها هذا بوضوح، عناصر من الجيل الذي شارك في النضال ضد الاستعمار الفرنسي قبل الاستقلال، بالمشاركة في قيادة حركات الإسلام السياسي المسلح في الجزائر أو ما يعرف بالإرهاب.
ولعل الموضوع الأكثر أهمية وبروزا في السينما الحزائرية خلال السنوات الماضية، كان دون شك، وربما سيبقى طويلا أيضال، وهو موضوع العنف والمواجهات الدامية التي وقعت في الجزائر ومازالت البلاد تدفع ثمنها، بل ومازال التهديد بالعنف قائما على أرض الواقع، يدفع ثمنه الأبرياء يوما بعد يوم.
لذلك يأتي الفيلم الجديد للمخرجة نفسها (وهي أيضا كاتبة السيناريو) حول الموضوع نفسه من خلال “حبكة” أخرى، أو بالأحرى “تنويعة” جديدة، تسعى من خلالها المخرجة للتعبير عن تأثير العنف على حياة أسرة بسيطة مات عائلها وأصبحت الأم (وردية) هي محورها وعمادها، فقامت بتنشئة ولديها، فكبرا واختلفا ثم اختصما، أحدهم (علي) انضم إلى إحدى تنظيمات العنف المسلح باسم الدفاع عن الإسلام، والآخر (طارق) اتخذ منحى آخر يرفض العنف فأصبح ضابطا في شرطة مكافحة الارهاب، فكان أن دفع الثمن حياته، بعد أن قتله شقيقه وربما أيضا تزوج من الفتاة التي كان شقيقه يحبها، وانجب منها طفلا تركته رضيعا وماتت.

حضور الموت
الموت حاضر بقوة في هذا الفيلم دون أن نراه مباشرة. البيئة صحراوية جافة، بل ميتة بالفعل، والمنزل الذي تقيم فيه الأم قرب المكان الذي دفنت فيه جثة ولدها (طارق) بيت أسطوري فعلا، فكل شيء يحيط به يوحى بالموت والجفاف، لكن “وردية” بعزيمة لا تعرف الكلل، تنجح في تحويل المنطقة المحيطة به إلى منطقة خضراء تزدهر بأشجار الفاكهة والخضراوات.
ابنها “علي” يرفض أن يتركها وحدها بل يكلف شابا.. زميلا له في جماعة العنف المسلح، بحراستها ومنعها من المغادرة أو الابتعاد بالقوة إذا لزم الأمر، فقد أصبحت ترعى ولده الصغير الذي كان يشك في احتمال أن يكون ابن شقيقه الذي قتل كما نعرف في الفيلم، في اشتباك بين الشرطة والمسلحين، كما يتردد أيضا أن القتل وقع بناء على تعليمات مباشرة من “علي”.
شخصية الأم مليئة بالقسوة والإحساس بالوحدة والشقاء والألم الذي لا نظير له: فهي تشعر بالرفض لابنها الذي لايزال على قيد الحياة. يأتي إليها ذات يوم مصابا بطلق ناري في ساقه، يتولى زميله الحارس اخراج الرصاصة من ساقه، لكن الآلام تستمر مبرحة قاتلة، ويتعين على الصديق الذهاب إلى البلدة القريبة لكي يأتي بأدوية وأربطة طبية، والأهم بالطبع، عقار المورفين المسكن للآلام، والذي يؤدي إلى الإدمان. ويدمن “علي” العقار بالفعل، وأمام توسلاته وآلامه تحقنه الأم بالمورفين.
مشاعر الأم تغلبها في النهاية.. لكنها تبدو متمزقة بين مشاعرها الرافضة له ومشاعر الأمومة المتجذرة فيها.
في أحد المشاهد تجمع حاجيات ابنها المتوفي وتقوم بحرقها والتخلص منها بل إنها تحرق أيضا السرير الذي كان يرقد عليه، ربما رغبة منها في التخفيف من ظل وجوده في المنزل.

نزعة تجريدية
إننا أمام نوع من التراجيديا التي تشوبها نزعة فنية تجريدية واضحة، ورمزية لا يمكنك أن تغفلها.
التجريد يتضح من خلال المكان أولا الذي لا يبدو أنه قابل للحياة، ويجعلك من الممكن أن تطرح التساؤلات حول اختيار تلك البقعة الصحراوية المعزولة الجافة للعيش فيها وكأنها منفى، أو استجابة لحكم من أحكام القدر.
 القدر التراجيدي حاضر أيضا في مأساة الأم: أن يقتل الأخ أخاه، تماما كما فعل قابيل بهابيل مع بدء الخليقة، والسبب قد يكون امرأة كما قد يكون الوضع السياسي الملهتب: البعدان يتداخلان عن قصد.
القتل هو الخطيئة التي لا تستطيع الأم أن تغفرها أبدا. ومقتل الإبن “علي” على يدي زميله في النهاية ما هو إلا ذلك العقاب “الطبيعي” الذي ينزله القدر بمن ارتكب الخطيئة المحرمة.
المخرجة جميلة صحراوي تقوم بنفسها بالدور الرئيسي، أي دور “وردية” الأم المحملة بكم هائل من الألم والحزن والتي لا تستطيع الغفران أبدا. ولا شك أنها نجحت كثيرا في التعبير عن تلك المشاعر المتناقضة، بل وأدت ببراعة ودقة دور الريفية التي تفهم لغة الأرض، ويمكنها التعامل معها بقليل من الماء، واللمسات اليدوية الرشيقة الخبيرة إلى أن تجعلها تنبض بالحياة مجددا وتبدأ في طرح غلتها وكأننا امام الخليقة الأولى أيضا حيث يعتمد الإنسان في طعامه على ثمار الأشجار، وعلى حليب الماعز التي نراها أكثر من مرة ترعى حول ذلك المنزل الغريب الغامض الذي لا نفهم سر وجوده في مكان كهذا (إمعانا في التجريد).

إيقاع الفيلم بطيء للغاية، فهو إيقاع التراجيديا الاغريقية الكلاسيكية: لقطات طويلة.. ذات أحجام كبيرة أو متوسطة.. كاميرا ثابتة نادرا ما تتحرك.. صمت في الجزء الأولي من الفيلم الذي يستغرق نحو نصف ساعة، لدرجة أننا حينما نسمع الأم تتحدث للمرة الأولى نتصور أن الصوت قادم من عالم آخر.
الحوار في الفيلم عموما قليل ومحدود ولا يشرح بل يلقي ضوءا خافتا على الحالة النفسية لتلك الشخصيات الثلاث التي تتنتافر إلى حد التناقض، يجمع بينها المكان الموحش، والحزن المشترك على ما آل إليه مصيرها.
إنها شخصيات سجينة في الواقع.. محكوم عليها بالشقاء الأبدي بعد كل ما وقع ولم يعد ممكنا تجاوزه، وكأن الجريمة هي الإثم الكبير.. والحارس المسلح هو يد القدر.. والأم هي الضحية والعقاب في الوقت نفسه، والطبيعة هي الشاهد عليهم جميعا.
الفيلم ليس من تلك الأفلام السلسلة التي تروي قصصا واضحة مثيرة للمشاعر، بل يقتضي قدرا كبيرا من القدرة على المتابعة دون الإحساس بالملل، فالإيقاع البطيء للغاية يصل إلى حد أننا نشاهد الأم وهي تقوم بتقليب التربة بطريقة بدائية وريها بقليل من الماء، وبذر البذور.. مرات ومرات في مشهد طويل لا يريد أن ينتهي.
لكن بدون هذا الإيقاع أتصور أن الفيلم كان سيفقد الكثير من قوته وتأثيره الرمزي باعتباره تراجيديا إنسانية عن آثار الصراع المسلح على الإنسان في الجزائر.
وشأن كل الأفلام التي يخرجها مخرجون من الجزائر يأتي فيلم “يمه” من الإنتاج المشترك بين الجزائر وفرنسا. ويبدو أنه بدون التمويل الخارجي لم يعد من الممكن للأفلام التي تحمل قدرا من الطموح الفني أن توجد.


إعلان