جوزيف كوني نجم عام 2012 !

محمد موسى
لم يكن معظم الذي شاهدوا فيلم “كوني 2012” عبر شبكة الإنترنيت في شهر مارس الماضي، يعرفون الكثير عن مجرم الحرب الإفريقي “جوزيف كوني” او حتى سمعوا بالإسم من قبل، فما أكثر زعماء التنظيمات المسلحة القساة في القارة السوداء، الذين يظهرون في فترات حالكة من تاريخ بلدانهم، يعيثون فسادا وقتلا، قبل أن ينتهي معظمهم الى الموت، السجون او النسيان.  لم يعرف أي من إمراء الحروب هؤلاء الشهرة والإنتباه العالمي التي نالها “جوزيف كوني” في الأشهر الأخيرة الماضية، والذي لم يكن ليحدث بدون الفيلم التسجيلي الإمريكي الذي شوهد لأكثر من 72 مليون مرة، في الإسبوع الإول فقط من وضعه على الإنترنيت.

أثار الفيلم التسجيلي الذي يقف خلفه الناشط الإنساني الإمريكي جيسون راسل، ردود أفعال كبيرة حول العالم، معظمها كان متعاطفة مع الضحايا وغاضبة من جرائم “كوني” ومليشياته، والتي قامت بقتل وتشويه الألف، وجندت مئات الاطفال في جيوش صغيرة، إرتكبت فظاعات مروعة لسنوات. هناك أيضا من إنتقد التبسيط الذي تضمنه الفيلم في مقابل تعقيد الوضع السياسي في اوغندا، حيث أن العنف، وحسب خبراء اوغنديين، لا يحمل مسؤليته كوني لوحده، وإن الرجل، الذي يعيش الآن مختفيا في مكان ما في القارة الافريقية، لم يعد يمثل خطرا للدولة والمجتمع في اوغندا، لذلك أنتقد هؤلاء توقيت صناعة الفيلم، ففتح جراح البلد الآن بهذا الشكل المضخم الذي يقترب من الإستعراض، سيربك الإستقرار الهش الذي تعيشه اوغندا. كما كان الفيلم مناسبة للحديث عن ثورة الإعلام الحديث التي يعيشها العالم والتغييرات الكبيرة التي تشهدها طرق التواصل، فالفيلم الذي لم يمر عبر قنوات التلفزة او طرق العرض التقليدية وصل وأثر على عشرات الملايين حول العالم، وحتى الإنتقادات التي وجهت الى الفيلم وصانعيه، وإتهامهم “بهوليودية” القضية الانسانية التي يحملها الفيلم هي بالحقيقة موقف يعبر بمجمله عن إرتباك تجاه ما تحمله مرحلة إعلامية قادمة لا يمكن التنبوء بكل ملامحها وتطوراتها، عندما يمكن لعمل فني يطلق حملة عالمية للقبض على مجرم حرب، أن يعبر حدود الرقابات الفنية والرسمية بهذه السرعة والسهولة.
الأحداث التي أعقبت ضجة عرض الفيلم التسجيلي الاولى، كانت تراجيدية كثيرا، فصانع الفيلم والذي يدير مؤسسة ” الاطفال الغير مرئيون” الخيرية المهتمة بأطفال اوغندا، لم يحتمل كل الإهتمام الإعلامي ليفقد عقله لأيام ويسير، بعد أقل من إسبوعين من عرض الفيلم الأول، عاريا في مكان عام لتوقيف السيارات في مدينة أمريكية صغيرة، قبل أن تقبض عليه الشرطة هناك، والتي أرسلته الى مشفى للأمراض النفسية، الامر الذي ضرب مساعي الفيلم بجعل عام 2012 هو عام القبض على جوزيف كوني. مع قائد الحملة في المستشفى، تشتت جهود الحملة المذكورة، ولم يحظى الفيلم التسجيلي الثاني ( والذي أطلق عرضه في شهر ابريل، وأريد به الرد على الإنتقادات التي وجهت لفيلم “كوني 2012”) بعشر الشعبية التي نالها الفيلم الأول.
وبعد أشهر من إطلاق فيلم “كوني 2012″، عرضت هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) مؤخرا وعلى شاشة قناتها الاولى، فيلما ضمن برنامجها التسجيلي التحقيقي الشهير ( بانوراما)، يحاول ان يتابع قضية “كوني” ذاتها، ومساعي القبض عليه، مع توفير خلفية تاريخية وإجتماعية عن الموضوع، لم يقدمها فيلم “كوني 2012″، كذلك حاول الفيلم البريطاني، أن ينقل الأثر النفسي العميق الذي ألحقه جوزيف كوني بضحاياه، وهو الأمر الذي مر عليه الفيلم الأمريكي بعجالة.
يسافر فريق الفيلم البريطاني الذي يحمل عنوان “مطاردة المطلوب الأول في العالم” الى اوغندا، ليقدم من هناك مقابلات مع سياسيين ومنشقين عن التنظيم الذي يقوده “كوني”، كذلك يحقق ولإول مرة مقابلة مع إخت لكوني، والتي تحدثت عن جنون شقيقيها وهوسه المريض بالقتل، والذي ظهر بعمر مبكرة كثيرا من حياته. كذلك يجمع الفيلم إحدى الفتيات الاوغنديات، والتي اختطفت وتعرضت للإغتصاب مرات عديدة، مع أحد مغتصيبيها، والذي ترك التنظيم المسلح مقابل العفو الحكومي عنه.

يستعين الفيلم التسجيلي البريطاني بالمواد الإرشيفية القليلة المتوفرة عن “جوزيف كوني”، والتي عرضت مرارا في كل التغطيات التلفزيونية التي تناولت “كوني”، منها مقابلة تلفزيونية وحيدة لكوني من عام 2004، ينفي فيها صفة الإرهاب عن نفسه وعن تنظيمه، ويؤكد إن حربه الطويله هي جزء من نضال لتحرير اوغندا. غياب المواد الإرشيفية يزيد كثيرا في غموض الرجل، فسحنته التي تقترب من العادية، وبزته العسكرية لا توحي كثيرا بالأفعال التي يوسمها بها خصومه، ومنها ما يعجز العقل الطبيعي على تصديقه، كإجباره لأطفال في القرى التي يغزوها بقتل أبائهم وإمهاتهم بطرق وحشية، قبل أن يضمهم إلى جيشه.
يبدو الصف الاوغندي السياسي والاجتماعي ( وكما بدأ في الفيلم البريطاني) متوحدا كثيرا في مساعيه للقبض على كوني وطي صفحته، الامر الذي يعارض التصريحات التي أطلقها اوغنديين في أوقات سابقة من هذا العام، بإن المجتمع الاوغندي منقسم، ولا يحتمل حملة دولية للقبض على شخصية إشكالية.
وإذا كان الفيلم الأمريكي بالغ كثيرا في أمانيه، وبدأ وهو ينقل نشاط أمريكيين وناشطيين سلام من حول العالم لبدء حملة للقبض على كوني ، وكأنه يدعو لنشاط مدني كبناء مدرسة في قرية أفريقية مثلا، وليس القبض على زعيم  شديد المرآس، يقدم الفيلم البريطاني الواقع الأوغندي على حاله ومصاعبه. فالفساد الإداري في الحكومات الاوغندية لسنوات عديدة، سهل في إستمرار ظاهرة “كوني”، وحتى عندما تبدو الحكومة متكاتفة اليوم، أصبح القبض على “كوني” مهمة تقترب من الإستحالة ، فهو  هرب منذ أعوام الى جهة مجهولة مع حفنة من إتباعه، ليعيش كقاطع طريق عادي في الغابات الأفريقية ( يقال إنه يختبيء في مكان  قريب من الحدود السودانية) ، والذين عرفوه من إتباعه يؤكدون بأنه سيقتل نفسه قبل أن يقبض عليه. المهم، وكما تقول أحدى القرويات في الفيلم البريطاني ، بانه  “أصبح بعيدا كثيرا عن اوغندا ولم يعد قادر على إرعابنا”.


إعلان