قيصر يجب أن يموت

عدنان مدانات
توصف مسرحيات ويليام شكسبير بأنها مسرحيات خالدة. هذا الوصف قد لا ينطبق على مسرحيات شكسبير كلها، لكنه حتما ينطبق على عدد مهم منها. عاما بعد عام، وعلى مدى قرون، ظلت تشهد مسارح العديد من دول العالم تجارب متنوعة لإخراج مسرحيات لشكسبير. تسعى كل من هذه التجارب، وخاصة المتحققة في القرن العشرين و ما تلاه من سنوات، لإعادة تفسير النص الشكسبيري وفق معطيات ومفاهيم و أساليب العصر المعاصر، فالكثير من الأفكار والشخصيات المتضمنة في هذه المسرحيات تحمل صفات إنسانية قابلة لنمذجتها وفق تطورات العصور.
تتعلق أحدث هذه التجارب بمسرحية” يوليوس قيصر”، وهي تجربة كان العرض المسرحي فيها مجرد ذريعة، على الأغلب، لإخراج فيلم سينمائي بصيغة مسرحية داخل فيلم. هذه التجربة هي الفيلم السينمائي الحديث” قيصر يجب أن يموت” للمخرجين الإيطاليين الشقيقين الشهيرين باولو و فيتوريو تافياني، والذي حصل في هذا العام2012 على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي لتضاف إلى ثمانية وثلاين جائزة سابقة حصلا عليها عن أفلامهما المشتركة، ومنها ” بادري بادروني” و ” كاوس”.

يدور موضوع الفيلم حول عرض مسرحي يجري الإعداد له لمسرحية “يوليوس قيصر” التي تتحدث عن تآمر بعض القادة على يوليوس قيصر و اغتياله من قبل أحد أصدقائه المقربين” بروتوس”، بأشراف مخرج مسرحي اختار فريق الممثلين من نزلاء أحد السجون في روما، وهم من المجرمين الخطرين المحكومين بسنوات سجن طويلة تصل عند بعضهم إلى المؤبد. لا توجد بالطبع أية تجربة في ممارسة التمثيل عند أولئك المجرمين نزلاء السجن، وهم على الأغلب ما كانوا بحاجة إلى هذه الخبرة التمثيلية كي يتقنوا أدوارهم ويتلبسوا شخصيات المسرحية بقدر ما أنهم كانوا بحاجة لاستحضار خبرتهم الإجرامية الحياتية الخاصة ، فمن الواضح أن تجربتهم الحياتية غير بعيدة عن أجواء المسرحية والمؤامرة المحاكة فيها ضد الحاكم قيصر، ثم فعل ارتكاب جريمة الاغتيال.
 تتشكل مادة الفيلم من ثلاثة أقسام رئيسية: البروفات التي جرت مع الممثلين في أماكن متنوعة داخل السجن، و المشهد الأخير من العرض المسرحي الذي أقيم لجمهور غفير بعد اكتمال الإخراج، وأخيرا، مجموعة مشاهد نرى فيها بعض المساجين  داخل زنازينهم ومن ضمنها مشهد لاثنين من المساجين يتعاركان، وأخرى وقد عادوا إلى زنزاناتهم بعد انتهاء العرض المسرحي.
يبدأ القسم الأول من الفيلم بالتعريف ببعض المساجين والجرائم التي ارتكبوها ثم يلي ذلك عملية اختيار ممثلين من بينهم بعد تجارب أداء لهم ثم يعرض المخرج المشهد النهائي للعرض المسرحي أمام الجمهور، لينتقل بعد ذلك إلى عودة المساجين إلى زنازينهم خانعين. القسم الثاني من الفيلم هو التمارين و ما يحيط بها من أحداث وهو قسم جرى تصويره بالأبيض والأسود مقابل تصوير المقدمة والخاتمة بالألوان، أما القسم الثالث فهو إعادة عرض مشاهد القسم الأول المتعلقة بالعرض المسرحي النهائي ثم دخول كل سجين إلى زنزانته الانفرادية وإغلاق الحارس بابا الزنزانة وراءه. و إذ لا يتبين من التمارين التي تجري في الفيلم على مشاهد المسرحية أي وجهة نظر خاصة بالمخرج المسرحي لتقديم تفسير جديد لمسرحية شكسبير، فما نراه في الفيلم مجرد مشاهد مختارة من التمارين تلخص حكاية المسرحية،  فإن الفيلم بحد ذاته يحمل تفسيرا جديدا، أو مقاربة جديدة للمسرحية عن طريق إحالتها إلى الواقع، خاصة من خلال إعادة عرض مشاهد القسم الأول مع إضافة تعريف بمصائر المساجين، وهي إعادة لا تتضمن مجرد تكرار للحدث، بل تتضمن إضافة تحليلية غير مباشرة تكشف تطورات البعد النفسي للمساجين أبطال الفيلم، ومن أمثلة ذلك المفارقة التي وردت في تصريح لأحد المساجين حيث يذكر انه بعد هذه المسرحية صار يشعر أن” الزنزانة باتت سجنا”، كما أن التفسير الموجود في الفيلم يتجاوز دلالات نص المسرحية وشخوصها ليصل إلى كشف الجانب الآخر من الشخصية الإنسانية عبر شخصيات المساجين التي تتكشف عن ازدواجية مجرم/ فنان، أو بالأحرى” إمكانية فنان”.

 هذه الإمكانية هي ما تؤكده مشاهد التمارين التي مارسها المساجين بكل الحماس، ومشهد العرض الأخير الذي وقفوا فيه أمام الجمهور فرحين بالتصفيق الذي قابل عرضهم، كما أيضا المعلومة التي ترد في نهاية الفيلم حول مصير أحد المساجين الذي مثل دورا رئيسيا في المسرحية والذي جرى الإفراج عنه بعد فترة قبل انتهاء مدة حكمه، ليصبح بعد إطلاق سراحه ممثلا سينمائيا محترفا، هذا المصير الذي آل إليه هذا السجين يشير إلى  النقطة الأخرى المهمة في مضمون الفيلم والتي تتعلق بما قد يملكه الفن من قدرة على التأثير على التركيب الأخلاقي والنفسي العاطفي لدى الناس العاديين،  ونموذجهم هنا بعض عتاة المجرمين ممن غيرتهم تجربة ممارسة التمثيل في مسرحية كلاسيكية جادة عميقة المضمون فتقمصوا شخصياتها وجسدوا أحداثها بحماس.
كل مشاهد الفيلم حقيقية وواقعية بشخوصها وأماكن أحداثها، وقد جرى إخراج الفيلم بطريقة جعلت العديد من النقاد يحارون في تصنيف الفيلم، فبعضهم وصفه بالفيلم التسجيلي، وبعضهم اعتبره من نوع الدراما التسجيلية، فيما تعامل معه البعض على أنه فيلم روائي، وواقع الحال أن هذا الفيلم المركّب شكلا وموضوعا ومادة يحتمل كل هذه التفسيرات، فهو تسجيلي بمادته، ودرامي تسجيلي بأسلوب إخراجه، ودرامي من حيث بنيته الروائية المبتكرة التي تسرد حكاية و تتابع مصائر مجموعة مساجين يمثلون مسرحية ويتابع ما حل بهم بعدها، والفيلم من هذه النواحي يشكل إضافة أسلوبية نوعية لطرق الإخراج السينمائي الخاص بالمادة التسجيلية.


إعلان